رجل الدّولة… كمالٌ وجمال!
لو استطاع أيّ حاكم الاستغناء عن المشير أو المعاون، لاستغنى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- المؤيدون بوحي السماء، الذي ينزل به جبرائيل عليه السلام من عند العليم الخبير، ولما احتاج موسى إلى وزير فصيح، وما نال الشيخان شرف القرب اللصيق من سيدنا صلى الله عليه وسلم، حتى انفرد بهما في الشؤون المهمة، وعرف لهما جيل الصحابة فمن بعدهم هذا الفضل، رضوان الله عليهم جميعاً.
وفيما يروى عن معاوية بن أبي سفيان، أنه استقدم إليه وفد العراق، بعد وفاة أميرها الداهية زياد بن أبيه، وتولية ابنه عبيدالله مكانه، فلما دخل الوفد؛ كان الأحنف بن قيس آخرهم، مما يدل على أنه في مكان قصيٍّ من الأمير! فامتعض معاوية، وأعطى لعبيدالله درساً عملياً بليغاً في أهمية الرجال، وحسن تقديرهم، وضرورة تقديم أهل العقل، والنبل، والفضل؛ فهم زينة للحاكم، وكمال في الرأي، وجمال في المجلس.
ويتميز رجل الدولة الذي يستحق هذا الوصف برجاحة العقل، وصدق اللهجة، وتغليب المصلحة العامة -وهذه أهمها- والتضامن مع مجتمعه وأناسه، ولذلك يحظى غالباً بتوقير أكثر الناس وإن خالفه بعضهم في رأيه، فيُكتب تاريخهم بنصاعة الموقف، وجلال المقام، حتى تجد القادح قبل المادح يؤكد على أن فلاناً رجل دولة، يغلِّب مصلحتها العامة في ساعة الحسم.
لذا فمن سعادة الحاكم أن يُحاط برجال من العيار الثقيل، يمتازون بالبراعة في شتى الشؤون باستثناء المدح، والتزلف، والخداع، ويكونون سنداً له في كلّ حال. وحين يظهرون للعلن، تراهم على قدر عالٍ من الرزانة، وانتقاء الكلمات، وقد تخفي تعابير وجوههم حقيقة مشاعرهم؛ بيد أنهم لا يدلّسون، ولا يغشون، وإن وجودهم بهذه الصفات لبركة على البلد، ومنفعة للناس، وحاجز متين ضد أيّ تيار مفسد مهما كان جارفاً.
كما يركن رجل الدولة غالباً إلى تربية سامية راقية، وخبرة حياتية متينة، وتراث عائلي عريق، فضلاً عن الدراسة والتعليم، وقراءة التاريخ والسير، وتتبع التجارب والعبر، كي يختزن ذهنه هذا الكم الهائل من دفق المعلومات، ويعيد معالجتها، ليخرج منها بمنتجات من صنعه، تناسب الوضع الذي يعيشه، وتتناسب مع المراحل التي يمر بها مجتمعه، ورائده في ذلك كله استجلاب المصالح العامة، ودفع المضرات وما قد يسبب الخلل.
والقصص كثيرة، ويحتاج استحضارها إلى وقت ومراجعة، ولا بأس بسرد القريب من طرف الذهن، عسى أن تكون عوناً لمزيد بحث، ولاقتداء صادق ممن يشاء الله لهم القرب من صناع القرار، أو بلوغ مناصب عالية، فالناس غادٍ ورائح، وكلَ نعيم دنيوي زائل، ولا بقاء في الدنيا لغير لسان صدق في الآخرين، وكلمة حسنة في الباقين.
فقد كان بسمارك طرازاً رفيعاً من رجل الدولة، وبعد أن خدم ألمانيا رئيساً للوزراء، فأنجز وأبدع، تعرَّض لغضبة نارية من الإمبراطور الشاب، فانسحب من المشهد السياسي بهدوء تام، واختار لمجتمعه السلم والاطمئنان، ولم تستفزه نفسه للمنّ بتاريخه، أو تجييش أحد على حكومته، بل انزوى ليكتب مذكراته؛ فتكون نبراساً لمن رام منها الدرس والفائدة، وما ألذ قراءة ذكريات السياسي!
ويُحكى بأن الزعيم اللبناني بشير الجميّل كان حسن الصلة باليهود، حيث يمولونه بالمال، ويمدونه بالسلاح، ويسربون له الأخبار من مطابخ السياسة في العواصم الكبرى مثل باريس، ولندن، وواشنطن، فلما انُتخب لرئاسة لبنان، طلبوا منه توقيع معاهدة سلام ثنائية أسوة بكامب ديفيد؛ فاليهود لا يفوتون فرص السلام المعلن مع العرب؛ بيد أنه رفض كلياً؛ محتجاً بلزوم مشاورة المسلمين؛ لأنهم شركاء في الدولة والقرار، وهكذا يتصرف رجل الدولة؛ حتى لو كانت النتيجة اغتياله قبل أن يتسلم مهامه.
ودافع السياسي السوري الكبير فارس الخوري عن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في مجلس المبعوثان العثماني، مع أنه نصراني وليس مسلماً؛ ومع أن غيره من المسلمين التزم الصمت الذي لا يُحمد، لكنَّ الفارس ابتغى المصلحة العامة؛ وليس الانتصار الفئوي، وهكذا تكون بصيرة رجل الدولة، ومن الطريف أن شيخاً نزع عمامته ووضعها فوق رأس أبي سهيل وخاطبه بقوله: أنت أحق بها مني! وبالمناسبة؛ فمواقف هذا الرجل تستحق أن تفرد بالكتابة، ولحفيدته كوليت كتاب جميل عن سيرته.
وبما أننا لا زلنا في الشام؛ فلا بأس من الإشارة إلى أن رجل الدولة يبهر من يقترب منه، ويُروى بأن الملك فيصل، قال بعد أن التقى مع الزعيم الدرزي كمال جنبلاط: هذا رجل أكبر من دولة! ومن المؤكد أن هذه الشهادة الفيصلية لن تُقال عن رجل متقوقع على نفسه أو جماعته، أو لإنسان ضيق العطن محصور الفكر. وللعلم فإن كمال جنبلاط، تعرض لتربية حازمة، خاصة من والدته السّت نظيرة، ولمؤلف روسي كتاب حافل ماتع عنه؛ سرد فيه شيئاً من خبر هذه التربية، ورأيت أخيراً كتاباً عن هذه المرأة الجنبلاطية أباً وأماً.
ومن الشام الجميل ننتقل إلى المغرب الأنيس، حيث وقف الوزير التونسي أحمد المستيري وقفة شجاعة نادرة، ضد تخبطات الرئيس القاسي الحبيب بورقيبة، وخطط وزيره الأخطبوط أحمد بن صالح، وأعلن المستيري رأيه الصريح في برامجهم الاقتصادية والاجتماعية، واستقال من المناصب التي يشغلها علانية؛ لأن رجل الدولة لا يرضى أن يكون جزءاً من عملية فساد، أو تجهيل، ولا يسير في برنامج يجزم بأن نهايته قاتمة.
والإصلاح أساسي في مسيرة رجل الدولة؛ ولأجله حرص الوزير أحمد طالب الإبراهيمي -نجل الشيخ البشير- على تعزيز استخدام اللغة العربية من قبل حكومة الجزائر، لدرجة أنه يترجم بنفسه لزملائه الوزراء الذي يتعتعون بها، ويتفاصحون بالفرنسية؛ لأن رجل الدولة لا يستعلي على أركان ثقافة بلده وأناسه، واللغة هي ثالثة أركان ثقافة المجتمعات، مع الدين والتاريخ.
وللمشير عبدالرحمن سوار الذهب موقف خالد لا ينسى، فقد سجل ابن مدينة الأبيض موقفاً أنصع من أيّ بياض، حين تدّخل في ساعة لا مناص فيها من إجراء يحقن الدم، ويحفظ تماسك البلاد، ووعد فأوفى، ولم تستفزه شهوة السلطة للتشبث بها كما يفعل العسكر وغيرهم، وكانت خدمة البلد وأهله هاجسه الأول، فأصبح السوار تاجاً في تاريخ رجل الدولة لا في السودان وحدها، بل في عالمنا الإسلامي كله. وغير بعيد عن السودان فعل الأمر الرشيد نفسه العقيد علي ولد محمد فال مدير الأمن في موريتانيا بعد أن أطاح عبر انقلاب أبيض برئيس معمّر، ووعد بتسليم السلطة للمدنيين بعد عامين فأنجز وعده قبل حلول هذين العامين عقب إجراء انتخابات عامة.
ولشيخ القانون ورمزه العربي الكبير الدكتور عبدالرزاق السنهوري في أعماله ومناصبه مواقف مشهودة مشهورة، حتى تعرض للإيذاء والضرب، ولم يخنع أو يتراجع؛ فرجل الدولة يحرص على ترسيخ النظام، وسيادة القانون، وصياغة مواده بحيث تصبح قابلة للتطوير بما يتوافق مع الشريعة دين الدار والديار.
ولأن رجل الدولة لا تستفزه جهالات بعض المسؤولين، امتنع السفير والأديب العراقي أمين المميز عن توزيع منشورات محرضة وصلته قبيل موسم الحج، ورأى أن مهمته تمتين علاقة بلده مع السعودية لا توتيرها، وللمميز كتب يوميات ماتعة، ويشاركه في كثرة التأليف، وسمة رجل الدولة، وحسن التمثيل الدبلوماسي، بلديّه السفير نجدة فتحي صفوة. وبما أننا في العراق فلا بأس من التذكير بموقف وزير ماليتها اليهودي حسقيل ساسون، الذي أصر في تعاقده مع الإنجليز، على قبض ثمن النفط ذهباً وليس بعملة ورقية، وكان يرفض طلبات الملك المالية التي تخرج عن الموازنة!
ويُحسن رجل الدولة تقدير المصلحة في الظهور الإعلامي أو الاحتجاب، وهكذا فعل الشيخ محمد النويصر الذي ترأس الديوان الملكي في عهد أربعة ملوك، لمدة أربعين عاماً، وجمع إليه رئاسة ديوان مجلس الوزراء، ومع ذلك فصورته غير مشتهرة، وحضوره الإعلامي نادر أو منعدم، ولو أنه أدرك وسائل الإعلام الاجتماعي، لما اتخذ حساباً، أو جعل كلماته محسوبة معدودة موزونة.
واختار الوزير الشيخ عبدالله الطريقي مصلحة الحكومة والشعب، وأقام الحجة على شركات النفط لصالح مجتمعه، ولم يستجب لترغيب أو ترهيب؛ لأن رجل الدولة شجاع القلب سامي المطالب، ولا يتقدم عنده شيء على المصلحة العليا، والمصالح العامة، وهذا الذي جعل الوزير الطريقي خالداً كلما ذكر النفط، وتاريخه، وصناعته، ومدى إفادة الدول والشعوب منه.
وأهدى السفير الشيخ فوزان السابق خيلاً عربية أصيلة لحفّار أمريكي مفتون بالخيل، ورفض الشيخ فوزان أيّ مقابل مادي من الأمريكي، واشترط عليه أن يحفر آبار ماء بين جدة ومكة كي تعين الحجاج، وتحسن من خدمتهم، ففعل، وبعدها رشح الأمريكي للملك عبدالعزيز زميلاً له عنده خبرة جيولوجية، وحين قابله الملك، أذن له بالتنقيب عن النفط، فاُكتشف بكميات مشجعة، وهكذا تكون عين رجل الدولة على بلاده، ومصالحها، فهي عنده فوق المكاسب الشخصية.
ويحوز رجل الدولة الثقة بدون نفاق أو تزّيد بالباطل، وينالها دون أن يسعى لها بالتملق والبهتان، ولذا رفض الملك فهد مراجعة بعض قرارات الشيخ الدكتور عبدالله بن عمر نصيف، وإن بدت مخالفة لبعض جزئيات الأنظمة، وعلّل ذلك بقوله: هو فوق الشك! ولم يمنح الملك هذا الاستثناء لمسؤول آخر، وفوق ذلك عينه نائباً لرئيس مجلس الشورى في أول تكوين حديث له عام 1414.
ويقول رجل الدولة ما يعتقده حقاً وإن أغضب المقربين من الحاشية، أو الذين يتصنعون النفوذ والسلطة من ذوي الأفكار والتوجهات، وهذا من ديدن الشيخ صالح الحصين في خطب بليغة ألقاها بين يدي الملك عبدالله عقب الحوار الوطني، وله أقوال محفوظة تغضب المرجفين عن الربا، والمرأة، وغيرها، وكتب ذات مرة شفاعة مرسلة لوزير الداخلية الأسبق الأمير نايف، حول أحد رجال العمل الخيري المعتقلين، وهي رسالة اعتراف قلَّ نظيرها.
ويدافع رجل الدولة عن السيادة المعنوية والمادية لوطنه، ولا يساوم البتة؛ وعليه رفض الدكتور غازي القصيبي الموافقة على مطالب الأمريكان تجاه مناهجنا، وتحفّظ على تغييرها استجابة لهم؛ مع أن لديه ملحوظات على المناهج، بيد أن استقلالية القرار، خاصة في مسائل حساسة كالتعليم، أمر غير قابل للتفاوض عند رجل الدولة المخضرم.
ولأن رجل الدولة عملة نفيسة نادرة، تمنى الملك فيصل لو استطاع قسمة وزيره الدكتور عبدالعزيز الخويطر إلى رجلين، فهو مشهور بالكتمان، وبعد الغور، فضلاً عن ثقافته وأدبه، ولذا ظلّ وزيراً عدة عقود، ولم يخرج من مجلس الوزراء إلّا محمولاً على نعشه! وبالمقابل فكم من مسؤولين كثر؛ لايغني جمعهم عن رجل دولة واحد.
كذلك يمتن الله على بعض الرجال، فيجعل حياتهم العملية، والمنزلية، ومواقفهم الإدارية، والثقافية، والسياسية، تصف رجل الدولة بما يغني عن قول كثير، ومن أبرز الأمثلة على ذلك حياة الروح الجامعة الشيخ عبدالعزيز التويجري، ومواقفه كثيرة، محلية ودولية، معلنة أو غير مشتهرة، وسبق لي استعراض كتاب عن سيرته؛ ولعله يفي بالغرض.
أيضًا يتحرى رجل الدولة مصالح بلدته وأهلها، ولذلك منع حجيلان بن حمد الذي حكم بريدة أربعين عاماً دخول أيّ أحد لبلدته إلّا إن كان تاجراً أو صانعاً، ومنح ولاءه وولاء القصيم للدرعية التي انطلقت منها الدعوة السلفية الإصلاحية بتعاون الإمامين؛ لأنه رأى هذا الخيار أصلح في الدين والدنيا لمدينته وسكانها.
ولأننا في سياق الدعوة السلفية؛ فقد يكون من إنصاف المرأة الإشارة إلى موقف زوجة الإمام محمد بن سعود، حينما حثت زوجها على مناصرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته، فكان موقفها محاكياً لموقف رجل الدولة، صاحب الرؤية المستقبلية، وبعد النظر الإستراتيجي، ومراقبة الله قبل إبداء الرأي، وبذل المشورة.
ولا تزال أمة الإسلام تذكر بإعظام وإكبار موقف التابعي الكبير رجاء بن حيوة، حينما رشح عمر بن عبدالعزيز للخلافة عقب ابن عمه سليمان، فرجل الدولة يبحث عن المصلحة العامة عندما يعمل أو يشير أو يرشح، ومن بركة صدقه ونصحه، أن أصبح الأشج العادل أول من جدّد لهذه الأمة أمر دينها، وهو حاكم شاب نزيه، وعالم ورع متبع، ومن بيت حكم عريق، ذي سيادة أصيلة.
وحين نسطر ذلك ونكتبه، فمن الطبيعي ألّا يكون المقصود به عين إنسان، ولا بقعة أو مكان، ولا حتى أيّ عصر أو زمان، فهي قصص ستبقى مفيدة لكلّ أحد وإن كان حكيماً بصيراً، وتفيد جميع البقاع والأماكن سواء في تنزانيا أو ألمانيا، وتخدم في الحال والمآل، وتناسب أنظمة الحكم والإدارة وإن تباينت في طريقتها وأسلوبها في النظر للأمور.
ومن الظلم، ونقص العقل، أن تحجر هذه المقالة في حيّز ضيّق ضنك، أو تحصر محشورة في زاوية حادة، فتجيّر على حدث، أو بلد، أو مجموعة، وتُقصر عليهم؛ فاللهم ربِّ الناس، ملك الناس، إله الناس، نعوذ بك من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس؛ أيَّاً كان جنياً -وهو أهون- أو إنسياً، ممن يفقد صفة رجل الدولة، وسموه، وصدقه، ويسعى بالفتنة، وساقط الرأي، أو خسيس القول.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف –الرياض
الثلاثاء 03 من شهرِ شوال عام 1438
27 من شهر يونيو عام 2017م
87 Comments
سلمت يمينك
مقال رائع ما أحوجنا إلى رجال دولة صادقين
مقال جدير بالقراءة، ويسعدني أن أنبه إلى أن الخليفة الأموي / سليمان بن عبد الملك، ليس عما ل عمر بن عبدالعزيز، بل هو ابن عمه
شكرا لك. وقد عدلته.
سلمت يمينك …وعلى النقيض كم من رجل وضع في مكان رجل الدوله وهو ليس بكفؤ فكان وبالاً عليها
أهلا بكم، وشكرا لتعليقكم المختصر النافع.
جزاك الله خيرا .مقال شامل وجامع يجد القارئ والقارئة متعة وفائدة والحمد لله على نعمة الاسلام الذي لم يحرم المراة المسلمة من القراءة وبلاخص في هذا الوقت العصيب الذي تعيشه بعض الدول العربية كالعراق وسوريا . اعطيت للقارئ نظرة تفائلية بوجود الرجال على مر الزمان والمكان . اوليس الام هي التي تربي الرجال؟