سير وأعلام عرض كتاب

أنوار في الظّل!

أنوار في الظّل!

يوجد في كلّ مجتمع أناس لم يحالفهم الحظّ لنيل ما يكفي من الظّهور مع استحقاقهم له، وهذه سمة عامّة باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ كي لا نغرق في جلد ذواتنا ونقد مجتمعاتنا، وإنّما تزيد أو تنقص بحسب عوامل مختلفة، ولأمر ما قيل أزهد النّاس في عالم أهله.

تدارك هذا النّقص علماء وأدباء لإحياء سير هؤلاء الأخفياء وإبقاء ذكرياتهم حيّة، كما صنع أحمد تيمور باشا، ومحمّد كرد علي، ووديع فلسطين، وعبدالله كنون، وغيرهم مع حفظ ألقابهم. وحظيت الحركة الصّحفيّة والثّقافيّة المحليّة باهتمام توثيقي خاص من الكاتب المؤرخ والأديب محمّد بن عبدالرّزاق القشعمي، وله في ذلك كتب كثيرة سبق لي استعراض أحدها.

وآخر كتبه في هذا الميدان عنوانه: أعلام في الظل، صدرت طبعته الأولى عام (2018م) عن النّادي الأدبي بالباحة، ومؤسسة الانتشار العربي، ويضم سيرة (53) علمًا منهم أربعة نساء فقط، ويقع في (408) صفحات، وتختلف صفحات كل علم بحسب ما توافر لجامعها المجتهد.

بدأ الكتاب بتمهيد ثمّ مقدّمة بقلم الشّيخ محمّد العبودي، وبعدها سرد أبجدي للأعلام، وتحت اسم الشّخصيّة المترجم لها وصف لخصيصته الأبرز التي تلّخص حياته ونشاطه، ونشرها الباحث تباعًا في مقالات صحفيّة قبل جمعها في كتاب قاسمه المشترك أنّ أعلامه قد يطويهم النّسيان مالم يحفظوا في كتاب.

وضمن سير هؤلاء الأعلام أخبار، وطرائف، وأحداث قد تكمل حكايات مبتورة، وفيها أوليّات كثيرة، مثل أوّل نجدي يلتحق بالأزهر، وأوّل حاصل على دكتوراه الدّولة في الحقوق من السّوربون، وأوّل رسام وموسيقار وفنّان تشكيلي، وأوّل ملحق ثقافي، وأوّل مدير تعليم، وأوّل شاعر رومانسي، وأوّل عدد من صحف ومجلّات، وأوّل قارئة لنشرة الأخبار بالتّلفزيون السّعودي عام (1394=1974م)، وأوّل افتتاحيّة صحفيّة.

 ومن نفيس أخبار الكتاب موقف الملك عبدالعزيز حين استقطب الشّيخ طاهر الدّباغ للنّهوض بالتّعليم في المملكة، ولم تقف آراء الدّباغ ومقولاته حاجزًا دون الإفادة منه، ومثله موقف الملك من تقريب الشّيخ عبدالعزيز المعمّر مع أنّ أمريكيًا في أرامكو أبدى للملك خوفه من توظيف رجل ذي تعليم عالٍ ويجيد الإنجليزيّة، وفي الموقفين يتجلّى أنّ الملك لم يحاسب رجلًا على فكره، ولم ينخدع برأي الأمريكي، وتلك سمة رجل الدّولة.

أمّا الطّرائف فكثيرة ماتعة، ومنها أنّ عباس قطّان كان أوّل أمين للعاصمة المقدّسة، وله أعمال ثقافيّة جليلة، وقد أعجبه أسلوب كاتبتين في صحيفة صوت الحجاز، فسأل أحمد السّباعي عنهما، فأبى أحمد إجابته استنادًا لسر المهنة، فأخبره عباس بأنّ هدفه الزّواج من إحداهما، فقال السّباعي: مادام الأمر كذلك ففلانة هي أنا! فرد عباس بغضب: الله يقرفك! والثّانية؟ فأنبأه عنها، وفعلًا خطبها وتزوجها؛ فعشقه الثّقافي كان طاهرًا.

كما يوجد في السّير وقائع طبيّة، منها حكاية أوّل معالج شعبي في الرّياض، وكيف طوّر نفسه بالقراءة والسّفر، وكان يقول عن نفسه إنّه يعرف كيف يشق دون أن يخيط! وعلاجه ليس دعوة الخضر أو مسحة سليمان! وخبر معالج شعبي في الجوف، وذوبان أصدقاء ثالث وزير للصّحة بعد إعفائه، وهو ذوبان متكرّر.

ومن روّاد الكتاب، فلكي تعلّم الفلك على يد أمه، وتعمّق في علوم كثيرة حتى أجاد أربع لغات أجنبيّة، وشاعر أحزان قضى شطرًا من عمره في محجر صحي، ورفض إلقاء الشّعر حزنًا على القدس الأسيرة، وكاتب جعل عنوان عموده رأي الشّعب؛ فنهره مسؤول كبير متسائلًا: من فوّضك لتكتب باسم الشّعب؟!

ومنهم رواة وإخباريون كبار، وأساتذة بارزون، وقامات نهضت بالتّعليم، وفرسان طالبوا بحقوق العمال، وسادات بذلوا أموالًا كثيرة في سبل الخير حيثما كانت الحاجة، ودارس اكتشف أنّ أوروبا خادمة للصّهيونيّة، وعميد سلك دبلوماسي رفض التّعامل مع سفير دولة اليهود!

أما أعجب قصّة في الكتاب فهي عندما أبرق مثقفون من القطيف طالبين فتح مدارس لتعليم البنات، وكانت برقيتهم في العشرين من محرّم عام (1374)، وأتاهم الجواب بطريقة أشبه بتوبيخ السّائل مع سطر مختصر يقول لكلّ واحد منهم: تتعلّم المرأة في بيتها، والمدرسة أوّل خطوة في طريق الفساد!

وعودًا للطّرائف كي نبتعد عن الأمور الخشنة، فأحد المخلصين أراد اختبار جودة الأثاث المدرسي بإلقائه من الطّابق الثّالث، وأطلقت إدارة معرض الكتاب اسم أديبة على أحد الممرات مع آخرين راحلين بينما هي على قيد الحياة، وأرسل مقبل الذّكير حمولة عشرين بعيرًا من الكتب إلى عنيزة فانحرفت نحو الرّياض، وسافر أحد المثقفين إلى لبنان مصطحبًا معه كتابين خشية ألّا يجد كتبًا فهالته بيروت وما فيها!

ومن لذائذ الكتاب أخبار طامي وإذاعته التي انتصرت للرّاسبين وأذاعت أسماءهم، والصّدف في حياة معالي الشّيخ ناصر المنقور، وسعودي من أهل صفوى غدا من أعلام الصّحافة بالعراق، وخبر عبدالله بن خليفة بن سعيدان أوّل نجدي سافر لأمريكا الشّماليّة، وطرف من حياة الفارسة غالية، والمحسنة موضي، والّلاعب المثقف، وآخر الظّرفاء، وأبو الكهرباء، وكان خير ختام مع د. يحيى بن جنيد الرّاهب العاكف في محراب العلم حتى انفتحت له الكتب قراءة وتأليفًا لعلّه أن يكون فينا من يقرأ المصباح؟!

جزى الله أبا يعرب خيرًا على جهوده في الجمع، والتّسجيل، والتّوثيق، والنّشر، وإنّ أمّة فيها من يوقّر كبراءها، ويحفظ منجزاتهم، ويخبر الأجيال عن سير من سلف، لأمّة أبقت فيها جذوة الحياة، وشعلة الفخر، من أجل مستقبل يكون الأحسن فيه هو الأظهر والأولى، وما ذلك بعسير إذا أراده بنو الإنسان.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 02 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1440

07 من شهر فبراير عام 2019م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)