سير وأعلام

الإمام فيصل بن تركي وعراقة الحكم

Print Friendly, PDF & Email

الإمام فيصل بن تركي وعراقة الحكم

لن يتجاوز تاريخ الرياض خلال مئتين وخمسين عامًا أسماء خمسة من أئمة الدولة السعودية وحكامها، أولهم الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود ( 1133-1218=1721-1803م) الذي ضم الرياض لدولة الدرعية بعد معارك عديدة، إلى أن تم له مبتغاه عام (1188=1773م). وثانيهما الإمام تركي بن عبدالله أول أمير من الأسرة السعودية على الرياض -فيما أعلم-، وهو الذي استرجع حكم أسرته بعد شتات، وجعل عاصمة الدولة الجديدة في الرياض بدلًا من الدرعية التي تهدمت في يوم خريف مظلم من شهر سبتمبر عام (1818م)، الذي يوافق شهر ذي القعدة عام (1233).

أما ثالث هذه الشخصيات التي لا تنسى فهو الإمام فيصل بن تركي الذي استعاد الرياض مرتين في تاريخها، وخرج منها بعد المرة الأولى سلميًا حقنًا لدماء أهلها. والشخصية الرابعة هو الملك عبدالعزيز الذي استرجع الرياض بعد أن تلاشت سيطرة أسرته الحاكمة عليها عقدًا من الزمان، ومنها كان منطلقه لجمع شمل البلدان وتوحيدها، وإعادة تأسيس الدولة الحديثة، حتى أصبح نجله الخامس والعشرون، الملك سلمان، من أعلام الشخصيات المهمة في تاريخ الرياض، بعد أن حكمها لمدة نصف قرن، وصارت في عهد إمارته مدينة واسعة، وعاصمة كبرى، وغدت في زمن ملكه وجهة عالمية تتجاوز السياسة والاقتصاد، إلى المعارض والسياحة، والرياضة والثقافة، والمناسبات الكبرى.

عاش الإمام فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود (1203-1282=1789-1865م) حياة فيها مشارب شتى، إذ كان أحد أمراء أسرة الحكم في الدرعية، وفردًا في الجيوش السعودية مع والده وجده، ثمّ شارك بعد ثلاثة عقود ببسالة الفرسان دفاعًا عن أسوار بلادهم ضد عدوان الجيش القادم من مصر بإيعاز من السلطان التركي، وهو جيش قوامه غزاة من أجناس وأخلاط أشبه بالمرتزقة القساة، حتى أجرموا هدمًا في الدرعية، وسفكًا للدماء، وأسرًا لأهلها، وحرقًا للنخيل والمزارع، ونقضًا للعهود والمواثيق.

فكان فيصل من ضمن الأسرى السائرين من نجد إلى مصر، وربما أنه ظلّ هناك تسع سنوات أو أزيد مع مئات من الأسرة والمشايخ والأنصار والأتباع، إلى أن استطاع الهرب واللحاق بأبيه الإمام تركي، الذي أعاد تكوين الدولة في الرياض بجهد خارق يشبه الخيال. وعندما وصل النجل الناجي إلى العاصمة الجديدة، لم تكن فرحة الأب بمقدمه مجرد عاطفة أبوية، بل هي سعادة احتشدت فيها عاطفة الأبوة، ونشوة النصر بمجيء أحد قادة الميدان سالمًا، وشعور القوة بانضمام فيصل إلى صفوف الدولة الجديدة، ومعها كذلك طعم العراقة الذي يسري بحضور من به يضمن الحاكم التعاقب والتسلسل، وإلى مثله تشرئب الخلافة، ويؤول السلطان طائعًا مختارًا.

فأضحى الابن لوالده مثلما تمنى وأكثر، وواصل الحملات العسكرية في أجزاء من البلاد ليؤكد على فروسيته وإقدامه وفدائيته في سبيل نجاح الفكرة، وثبات الدولة، وترسيخ المجد القديم. ولم يكن هذا المقاتل المغوار حديث عهد بهذا الشأن؛ فله مع الخيل، والمعارك، وصولات الحروب فوق الصحارى، أو خلف أسوار المدن، تاريخ صيره أهلًا ليتسلّم زمام القيادة العسكرية باستحقاق وتمكن، ولا غرو؛ فوالده تركي صاحب السيف الأجرب، وجده الأول عبدالله أمير الحرب الأكبر، وجده الثاني الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة، وضابط مسارها التاريخي.

لذلك؛ فلسنا نستغرب إذا رأينا في سيرة الإمام فيصل أنه استعاد الدولة مرتين، واستخلصها عقب ثلاثة أمراء ليس لهم من السمات والقبول مثل ما حباه الله، ففيهم من سطا على الأمر بغير وجه حق، بل ببغي وعدوان، وفيهم من جاء تحت عين الأجنبي وسمعه وعونه، فكان غريبًا على الدار والدَّيار، فلم يُكتب له الرضا، وآخرهم جاوز الحدّ الحكيم في الضبط فضاقت به الحريات والأموال والأنفس، حتى غدا الإمام فيصل بغية الناس، ومطلب الأرض، وغاية المُنى، فهو الوريث المتأهل، والعريق المتأصل، والقوي العادل.

لأجل هذا كله؛ فلا مناص لمنصف من إضافة هذا الإمام الكبير مع والده وجده الثاني وحفيده، ليكون أحد أربعة أئمة وملوك مؤسسين في تاريخ الدولة السعودية، وواحد من ثلاثة استرجعوا الحكم بعد ضياعه، وهذه الإضافة لا تقصي والده من أئمة التأسيس والإنقاذ كما صنع بعض المؤرخين باجتهاد خاطئ بعيد عن الوجاهة، كما أن هذا التخصيص لا يبخس الآخرين مآثرهم ومناقبهم ومنجزاتهم، وإنما غاية ما هنالك الحديث عن التأسيس والاستعادة، وهما عملان صعبان يمنحان القائم بهما صفة العظمة والخلود، ولكل إمام وملك فضائله ومحامده وأعماله، وسجل المفاخر مفتوح لمن شاء أن يكتب فيه آثاره الشاهدة له، وينحت فيه من جليل الأمور ما يجعله من الخالدين.

وقد اشتهر الإمام فيصل مع شجاعته وقوة قلبه، بنزوعه الشديد نحو العدل والصلح والصفح، وحبه للإرشاد والنصح، حتى حُفظت عنه رسائل وعظ وشفقة وإصلاح كأنما كتبت بقلم عالم متبتل، أو عابد منصرف عن الدنيا، وأكرم بذي السلطان حين يجتمع له البيان والسنان. ومما يذكر في هذا الباب أن أهل مصر انتبهوا لصرامة تعبده، وجمال تألهه، وربما حدثت له مع بعضهم نقاشات وحوارات ومنافع، حتى قذف الله محبته في قلوب بعض الأمراء والمؤرخين والعلماء فضلًا عن العامة والزهاد.

كما كانت للإمام علاقة وثيقة بالشيخ عبدالرحمن بن حسن، فهو رفيق النفي والسجن في مصر، وممن عاد معه إلى الرياض، وبلغت مكانة الشيخ عند الإمام أن سمى نجله الرابع باسمه، وهو الإمام عبدالرحمن الفيصل الذي يُعد من أوائل من حمل هذا الاسم في الأسرة الملكية كما سمعت. ولم يقصر الإمام علاقاته على المحيطين به؛ فله مع أمراء البلدان، وزعماء القبائل، وأكابر الدول المجاورة، علاقات جيدة تدل على حسٍّ سياسي، وبعد نظر، وله صلة بالدول الكبرى الحاضرة في المنطقة، واستقبال للرحالة والمبعوثين الأجانب، وأثر في حماية الحجاج، وتأمين سبلهم، وقمع أيّ محاولة اعتداء على قوافلهم من أيّ ناحية كان مقدمها، وهذه طرائق تشير لسعة الأفق، وقدر من التعاطي الحصيف مع المختلف والمخالف.

وبسبب هذه العلاقات الوثيقة ضمن ولاء جميع من كانوا معه حينما بلغه نبأ المصاب الجلل باغتيال والده، واستطاع بفضل من الله أن يثبت ويحفظ الموضع الذي غادره، ويستنقذ عاصمة دولته على رأس أربعين يومًا من وقوع الحادث الأليم. ومن هذه العلائق الجيدة أن استطاع في حقبة حكمه الثانية تحييد القاهرة والباب العالي، وصدهم عنه وعن بلاده، وبناء صلات طيبة مع الحجاز، ثمّ الاستيلاء بقوة السلطان على مناطق واسعة شرق الجزيرة العربية وشمالها، وإدامة التراسل مع البلدان التابعة له وأمرائها وكبارها في القصيم والقطيف وحائل وأطراف الخليج وغيرها.

وقد تثور مسألة هروب الإمام فيصل من سجنه الثاني في مصر، ودون خوض في الروايات، ومحاولة تمحيصها، وأيًا كانت الحقيقة التي قد تأخذ من كل رواية بطرف، فهذه القصة تشير إلى خصائص جليّة في الإمام، منها الجسارة وقوة البأس، وجودة التدبير، وحسن السياسة، وكياسة التصرف مع المؤثرين والدول، وكمال التأتي للمراد حتى يتم تمامه دون ثلمة قد يتسرب منها معطبة أو مهلكة، أو نقص مخيف، أو فقد مؤلم، وبالتالي فلا يهمنا كثيرًا كيف هرب، لأننا مهما قلّبنا هذه السيرة البهية فسوف بقع فيها على الدهاء وبُعد النظر، والشجاعة والبطولة، وأنعم بهما من خلتين سواء في الاجتماع أو التفرق.

إن حكم الإمام فيصل لبلاده وملك آبائه في حقبتين: الأولى منهما بين عامي (1250-1254=1834-1838م)، والثانية تقاربت من ربع قرن بين عامي (1259-1282=1843-1865م)، مما يؤكد عمق الارتباط بين هذه الأرض، وإنسانها، وتاريخها، مع الدولة السعودية، وفكرتها السامية، ورموزها الحاكمة. وإن سيرة الإمام فيصل ومسيرته وما فيهما من محن وأحداث، لدليل أكيد على هذا الرأي البارز للعيان في الزمن الماضي والحاضر، ولا يجحده غير مكابر.

ومما يبدو، أن الإمام، وهو السياسي المجرب البصير، ورجل الدولة العارف الكبير، ومن صفوة الحكام في الإدارة والقيادة بشهادة المؤرخين، قد شغلته سنوات الحكم الطويلة، وصروفها في السلم والحرب، عن ترتيب شؤون الخلافة بعده ترتيبًا حاسمًا ونهائيًا وواضحًا لا يعتريه أيّ شك، حتى أسنّ، وأدركته الأمراض، وذهب منه أكثر البصر. وربما أنه اكتفى بما كان يعهد به لمن خلفه من تفويض ومهام، فكان ما كان من تنازع الإخوة الورثة بعد رحيل والدهم، بسبب سعة الاحتمالات والحسابات الأفقية، والله يغفر لهم الاجتهاد، ويرحمهم جميعًا، وله الحمد على حميد العاقبة والمآل.

ثمّ إني لا أجد بدًا من الإشارة قبل الختام، إلى أن الإمام فيصل، قد ثبّت اسمه داخل أسرته، وفي مجتمع بلاده، فأصبح اسم فيصل شائعًا في أوساط الأسرة السعودية الحاكمة، حتى لدى بعض الأمراء الذين لم يرزقوا إلّا بولد ذكر واحد، مثل الأمير تركي الأول الذي حمل نجله الوحيد اسم جدّ جده الإمام فيصل بن تركي كما هو، وسبقه آخرون أبرزهم الملك فيصل، ولحقه إلى يومنا آخرون أيضًا. وإن تكرار بعض الأسماء لمن جملة أعمال شريفة تصف عراقة الأسر، وتعزز تمسكها بإرثها، ومن الموافقات أن يُعين هذه الأيام على رأس دارة الملك عبدالعزيز، وهي أكبر مؤسسة لحفظ تاريخ بلادنا العريقة، أمير يحمل اسم هذا الإمام العَلَم، وهو الأمير فيصل نجل الملك سلمان.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 14 من شهرِ جمادى الاخرة عام 1445

27 من شهر ديسمبر عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)