شريعة وقانون

لمحات قانونية من لقاء العجاجي

Print Friendly, PDF & Email

لمحات قانونية من لقاء العجاجي

تابعت حلقة فيها لقاء تلفزيوني طويل أجراه الإعلامي عبدالله المديفر مع معالي الأستاذ محمد بن سليمان العجاجي رئيس هيئة الخبراء الذراع الاستشاري لمجلس الوزراء الموقر. وقد وصلتني روابط اللقاء من عدة أصدقاء، ذلك أن هذه المادة المرئية حظيت بقبول جماهيري لافت، وهذا القبول يدل على حاجة الناس للسماع والفهم، خاصة من الأجهزة الحكومية المهمة مباشرة لا عنها فقط، وإن هيئة الخبراء لجهاز له آثاره على كل فرد، وبيت، ومؤسسة، وكيان نظامي، في طول البلاد وعرضها.

كان اللقاء نخبويًا في موضوعه، بيد أن الضيف المتمرس حرص على أن تكون إجاباته قانونية المضمون واللغة، واضحة المعنى للمتلقي من غير أهل الاختصاص، وتلك معادلة صعبة أن يجمع المرء بين عمق الفكرة، ووضوح البيان، وهذا الجمع هو سر الحديث والكتابة الأعظم، ومن المزعج أن يتسرب لأذهان فئام من الكتّاب والمتحدثين أن الصعوبة والتعقيد و”الدلغمة”، واستعمال التراكيب العسير هضمها، والمفردات الغامضة معانيها، يزيد طرحهم متانة، ويضفي على فكرهم عمقًا، وليست الطريق -والله- هنالك البتة!

وقد حرصت على سماع اللقاء كاملًا، وربما أعود إليه مرة أخرى، بيد أني هنا على عجالة سوف أشير إلى أهم ما لفت نظري من لمحات قانونية، وليس بالضرورة أن تكون أهم ما جاء في اللقاء من فوائد، وإنما سيكون التركيز على الملامح القانونية التي تتجاوز مجرد المعلومة الجامدة إلى الأثر السائل المتحرك، وقد سلف في الفقرة السابقة الإشارة إلى أولها وهو الوضوح الذي يجب أن يجعله القانوني نصب عينيه؛ فلا منفعة فيمن ابتلي بغمغمة لا تُفهم، أو بجمجمة لا يستبين منها شيء!

كذلك من تلك اللمحات ما أشار إليه معالي الأستاذ العجاجي من أنه لا يوجد فرق ذو أثر بين كلمتي “نظام”، و”قانون”، وأن كلمة النظام المستخدمة في المنهج السعودي لم تثر أيّ إشكال لدى الأجانب، وتترجم مثل كلمة القانون، ولا ينبئك مثل خبير. والذي يجب أن يلفت النظر بعد سماع هذا الرأي الرزين تلك المماحكة من البعض وكأنه داخل لخوض معركة بين كلمتين! والأمر برمته لا يستأهل. ومن هذا الباب ما أورده رئيس الهيئة من أن التنظيم هو المقابل للتشريع عند غيرنا، وحين يستخدم المذيع كلمة التشريع لأنها آنق إعلاميًا التزم الضيف بكلمة التنظيم اتساقًا مع الطريقة السعودية. وهذا الرأي فيما يخص الكلمتين من الرقي في الفكر، والابتعاد عن وحل يشتت الجهود بلا طائل، علمًا أني لا أجد في نفسي حرجًا من استخدام الكلمتين، وإنما أكره التعلّق بمسألة نهايتها شكلية خالصة، ولا موجب للإصرار على رأي استقر خلافه السائغ.

كما أبطل الضيف القانوني كلمات شائعة دون قيد يضبطها في إطار، مثل دعوى الاستمساك بروح القانون، وهذه الكلمة من الحق الذي قد يراد به الباطل، وإذا كانت الروح الخفية التي يتطرق إليها الاحتمال والتأويل، أقوى من النص الظاهر القاطع؛ فما جدوى التعب في الصياغة والتحرير والبحث عن لفظ جامع مانع؟! ومثلها المقولة الظالمة بأن القانون لا يحمي المغفلين، والصواب أن القانون جاء نصرة لذوي الحق وللضعفة والمغفلين، ولكنه لا يفيد الغافل اللاهي بخطأ من نفسه وفعله.

ومن بديع ما سمعته في اللقاء إشادة معالي الأستاذ العجاجي بالقانوني المفكر الذي يتجاوز الحفظ إلى الإتيان برأي أو مقترح أو حلٍّ لمعضلة، ومن جميل ما ذكره أن العمل في الهيئة مع الخبراء وذوي الرأي، يعود الإنسان على قبول الوجيه من الآراء الأخرى، ويسهم في سعة الأفق. وإن موضوع التفكير القانوني لمن الموضوعات المركزية التي ينبغي أن تطرق في المحاضرة والتصنيف.

يضاف لذلك، إشارته إلى أهمية قوة إعداد النظام، بما فيها من كمال بنائه، وجودة سبكه، وحسن صياغته، وخلوه من التناقض مع غيره، وأن هذا هو الفرق بين مشروع وآخر، ولذلك فمن جوهر أعمال الهيئة مراجعة ما يرد إليها من مشروعات أنظمة مقترحة، حتى تكون أنظمة الدولة على سنن قويم واحد لا عوج فيه ولا اضطراب وتعارض. وللعلم فهذه المشروعات الخاصة بالأنظمة حق لمجلس الشورى، وللأجهزة الحكومية، وتعرض على مجلس الوزراء للمراجعة قبل الإصدار، ويمكن لأيّ شخص طبيعي أو معنوي أن يقترحها على مجلس الشورى، أو على الأجهزة الحكومية المختصة، وإذا وجد المقترح قبولًا ممن ورد إليه، فسوف يبدأ من لحظة القبول مشوار صناعة النظام.

وقد أورد معالي الأستاذ محمد العجاجي قصة التطور التنظيمي في المملكة، وهي مسيرة جديرة بأن تفرد بالبحث الدقيق، مع الوقوف عند أول الأنظمة، وعند الأنظمة الأربعة التي أصدرها الملك فهد، والأنظمة القضائية الأربعة التي أعلنها سمو ولي العهد وصدر أغلبها تباعًا في عصر الملك سلمان، وهذه المسيرة صيرت البلاد دولة قانون راسخ يجري على الكافة دون استثناء. كما ورد في سياق حديث معالي الرئيس القانوني غير مرة الإلماع إلى مكانة فنون الصياغة القانونية والتحرير اللغوي للأنظمة، وهذا باب من العلم المتين الحري بالتدريب والتأليف.

وإن يفت عليّ؛ فلن تفوت لغة الوفاء والمحبة والاعتراف بالفضل، وهي نادرة بين أصحاب التخصص الواحد، وعزيزة لدى الأقران، بيد أن الأستاذ العجاجي تسامى فخلع على أساتذته ورؤسائه وزملائه رجال الدولة من الأوصاف ما يستحقون، فمعالي د.مطلب النفيسة هو القانوني الأول في المملكة خاصة في القانون الدستوري، ومعالي د.محمد الجبر هو القانوني الأول في القانون التجاري، وهو بالمناسبة سبب التحاق العجاجي بقسم القانون طالبًا، وسبب خروجه منه معيدًا كذلك. وآخر ثناء مستحق ناله معالي د.عصام بن سعيد الذي جمع فضائل الرجلين السالفين، وهو زميل قديم للعجاجي الذي سبقه بعامين للعمل في هيئة الخبراء منذ عام (1403).

 ألا فليبارك ربنا على مثل هذه اللقاءات الواضحة المثرية، التي يخرج المشاهد أو المستمع منها بفوائد مباشرة، وأخرى غير مباشرة، ويضيف لنفسه علمًا ومعرفة، وخبرة وحكمة، وعسى أن نرى في القريب العاجل مسؤولين كثر، في أجهزة مهمة، يتحدثون عنها وعن أعمالها بتمكن، وصراحة، ووضوح، وحب كما لاحظنا في لقاء رئيس هيئة الخبراء، وهي الهيئة المؤثرة، المليئة بالكبراء وذوي النظر الرشيد، والتأهيل الصارم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الخميس 15 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445

28 من شهر ديسمبر عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)