سير وأعلام عرض كتاب

أمين المميز وأيامه السعودية

Print Friendly, PDF & Email

أمين المميز وأيامه السعودية

هذا الكتاب عبارة عن يوميات تحفظ الذكريات، وهو من الأدب الدبلوماسي، عنوانه: المملكة العربية السعودية كما عرفتها مذكرات دبلوماسية دونها الحاج أمين المميز، وقد صدرت طبعتها الأولى عام (1963م)، ويقع في (637) صفحة، مكونة من ثمانية وعشرين فصلًا، يسبقها إهداء ومقدمة، ويتلوها خاتمة وملاحق وتصويبات. ومع أنه قديم الطباعة إلّا أنه مع كتب المؤلف الأخرى متوافرة في المكتبة التراثية بالرياض، وربما في غيرها من المكتبات المحلية، ولعل نشاط الكتاب وسوقه في العراق إبان السنوات الأخيرة، أن يعيد بعث الكتب التي أبدعها مؤلفون من العراق العزيز، علمًا أن هذا الكتاب أحد أربعة كتب للمؤلف عن ذكرياته الدبلوماسية، وقد ذكر لي الأستاذ الكاتب محمد رضا نصر الله أنه أشاع خبر كتاب المميز هذا بين مثقفي السعودية منذ التسعينات الميلادية.

يحكي الكتاب قصة المؤلف وهو دبلوماسي من أسرة بغدادية عريقة، وسبق له العمل في عواصم عالمية، ورغبة من حكومة العراق الملكية في تحسين علاقاتها مع السعودية، اختارته ليكون سفيرها في جدة. وقد سمع من الناس تنفيرًا كثيرًا بسبب طبيعة الطقس والمجتمع “المزعومة”، وصرحوا أمامه بعبارات الخوف عليه من هذه “المصيبة”، لكنه لم يلتفت لتهويل الآخرين، وقرر خدمة بلاده وخوض التجربة، وهو الأمر الذي لم يندم عليه، إذ ظفر بالعمرة والحج أكثر من مرة، وتعرف إلى دولة ورجالاتها وأحوالها، وشارك في التقريب بين بلدين لهما أهمية وجوار وبينهما أواصر ورحم وتاريخ، وصحح نظرته ونظرة غيره إلى بلاد جعلت جميع من عرف تعيينه فيها يمطره بكلمات العطف والشفقة! وويل للناس من المقولات المرسلة دونما تحقيق، ومن الآراء المعلبة بلا تدقيق، وما أجمل الفحص والتمحيص قبل تبني أي قول أو وجهة نظر.

وعندما ذهب السفير ليقدم أوراق اعتماده بين يدي الملك سعود، لاحظ الاحتفاء الكبير به من الملك وإخوانه الأمراء، ومن رجال الدولة ومستشاريها مثل يوسف ياسين، وعبدالله فلبي، ورشدي ملحس، وغيرهم. وقد حظي بتقريب ملكي لافت، حتى أن الملك سعود يقبض على كفه، ويجلسه بجواره، ويحدثه عن كتبه التي روت تجربته الدبلوماسية في واشنطن ولندن، ويشكره على نفع أمته بها؛ فاهتبل السفير الذكي الفرصة، وأعلن عزمه المبكر على تأليف كتاب عن أيامه السعودية، وفعلًا شرع في تدوين مذكراته من شهر مارس عام (1954م)، إلى شهر أبريل عام (1956م)، وهي المدة المقاربة لمكوثه في المملكة.

يمكننا أن نستشف مما قاله السفير المميز إعجابه بحفاوة الملك سعود، وكرمه، وحرصه على الوئام العربي، ونرى بوضوح ثناءه على مسارعة الأمير -الملك- فيصل لتحقيق كل ما يزيل أسباب الخلاف مع الدول العربية خاصة العراق. كما أشاد بعلم الأمير عبدالله بن عبدالرحمن وثقافته ومكتبته العامرة، وبقدرته على الحديث بطريقة البغاددة! علمًا أن الأمير عبدالله يوصف بأنه عالم آل سعود، وكان الملك عبدالعزيز يحيل لأخيه النقاشات العلمية والثقافية في بعض الأحيان، وفيما مضى صدر كتاب عن سيرته.

وممن أثنى عليهم المؤلف الأمير -الملك- فهد خاصة على جهوده التعليمية، والأمير سلطان صاحب البسمة المشرقة، والتواصل الدائم مع السفير السعودي بالعراق الشيخ عبدالله الخيال كي يرسل للأمير نوادر الكتب وثمينها. وأيضًا ذكر الأمير متعب وأفكاره الزراعية، والأمير طلال، وقصره في الفاخرية الذي يعاني من شح المياه، كما لفت نظره أمير شاب بهي الطلعة، هو الأمير -الملك- سلمان، ولاحظ وقوفه المهذب في استقبالات أخيه الملك سعود، وأشار إلى الطول الفارع الذي يمتاز به الأمير فيصل بن تركي الأول. ولم يكتب له لقاء أعضاء مهمين في الأسرة الملكية مثل الأمير محمد، وشقيقه الأمير -الملك- خالد، وقد أخطأ المؤلف في اسم والدتهما، وهو واحد من أخطاء واردة في الكتاب إن على صعيد المعلومة، أو في باب التحليل، ومن الضروري للقارئ أن يكون على حذر وحيطة.

وفي الكتاب إشارة لشخصيات سعودية، وعربية، ودولية، مثل -مع حفظ الألقاب- عبدالله الفيصل، ومساعد بن عبدالرحمن، وعبدالله السليمان، ومحمد سرور الصبان، ومحمد زينل، وكمال أدهم، وإبراهيم السليمان العقيل، وعبدالله بلخير، واللواء سعيد جودت، وحافظ وهبة، وأحمد عبدالوهاب، وجمال الحسيني، والشاعر أحمد الغزاوي، وعلي الطنطاوي الذي استقر في المملكة لاحقًا، وعبدالرحمن باشا عزام، وطه حسين، وعمر بهاء الدين الأميري، وحامد الفقي، وبشارة الخوري، وعبدالوهاب عزام سفير مصر في السعودية، وهو أول مدير لجامعة الملك سعود، إضافة لكونه أديبًا مفكرًا ذا قلم رفيع بيانه بالمناسبة. ولا يمكن تجاوز الحديث الذي ساقه كاتبنا عن الأفندي الشيخ محمد نصيف ومكتبته الفاخرة، والشيخ يوسف زينل، ووصف المميز لهما بأنها الشمعة المضيئة في جدة، وعرج على أعمال الثري المحسن المتصدق الشيخ حسين شربتلي.

كما أن الكتاب لا يخلو من مواقف متباينة، منها مواقف إيمان وعراقة؛ ذلك أن أحد العراقيين قدم من السعودية، وقابل المميز قبل سفره إليها، وأشاد أمامه بأهل المملكة وبأخلاقهم ومروءتهم وخصالهم الكريمة. ومنها أنه حين ركب الطائرة السعودية من بيروت لجدة، شعر بالطمأنينة تغمر قلبه من رؤية شهادة التوحيد، واسم الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، وهو الشعور نفسه الذي وجده عندما غادر البلاد على طائرة سعودية، فنفى عنه أيّ هلع من الطيران الطويل، والحمدلله الذي وهبنا هذه الميزة الفريدة.

ثمّ أورد المؤلف تصويرًا بديعًا مبكيًا لأعمال إيمانية مثل زيارة الحرم المكي، وأداء العمرة، ثمّ الحج مرتين بما فيها من أيام وشعائر ومقابلات، وزيارته بعد ذلك للمسجد النبوي. ووصف في ذكرياته المطاف والمسعى والمشاعر والمساجد، ونقل طريقة الاستقبالات الملكية في أيام الحج، وما فيها من مراسم وتراتيب، وحركة الوفود، والنشاط الدائب لدى البعثات. ومن لطيف ما ذكره في هذا السياق العربات في الحرم المخصصة لحمل كبار السن والعجزة والملحمين أمثاله حسبما كتب! ومن المحزن أن صورة التقطت له في الحج مع أنور السادات -الرئيس المصري فيما بعد-، وغدت هذه الصورة ذنبًا يُحاسب عليه فيما بعد، ومبدأ الرجعية بالمحاسبة على شيء لم يكن به بأس فيما مضى ليس من العدل في شيء!

كذلك حفظت اليوميات لنا بعض الأخبار المهمة، منها اليوم الذي لبس فيه الملك سعود الزي العسكري في حفل أقيم يوم السابع عشر من شهر ذي الحجة عام (1373)، وخبر أول ميزانية تعلن على الملأ، مع بيان تقسيم مصروفاتها وكانت في 29 شهر ربيع الآخر عام (1374) الذي يوافقه 25 من شهر ديسمبر عام (1954م). ومما ورد في أيام المميز السعودية حثّ الملك فيصل رؤساء البعثات الأجنبية على تعلّم اللغة العربية، وقدرة الفيصل على فهم اللغة الإنجليزية إلى حدٍّ ما، وطلاقة سفيري تركيا والباكستان بالعربية، وثناء الملك سعود على وزير دفاعه الأمير مشعل مع افتتاح مصنع الذخائر بالخرج. وفيها توثيق لأول زيارة خارجية للملك سعود وكانت لمصر، واستقباله الملك حسين بعد أن قاد الطائرة بنفسه، وحطّ بها في السعودية، وفي الكتاب سرد غير مختصر لقصة تعيين الشبيلي سفيرًا في بغداد.

ولا يخلو الكتاب الطويل من طرائف وغرائب، منها أن السفير الإيطالي وزوجته يتوليان مهمة النميمة داخل الوسط الدبلوماسي، ومنها غضب بعض الدبلوماسيين على من اقترح نقل البعثات إلى الرياض؛ لن جدة أكثر انفتاحًا. وفيها رواية لتذمر الأجانب خاصة الأمريكان والإنجليز من منع المسكرات والمحرمات، وهو تذمر علني عبر عنه سفير أمريكي أصبح عميدًا للسلك، وخطب به صراحة وهو يودع العميد البريطاني السابق عليه الذي خابت مساعيه لكسر هذا الحظر الشرعي والنظامي، علمًا أن المميز قد ساق روايات عن حفلات لم تغب عنها “متع” القوم، ومن طريف ما ألمع إليه أن حفلات السفارة اللبنانية، والسفارة الفرنسية، قلّما يتخلف عن حضورهما أحد.

كذلك منها أن فلبي تعجب من اشتعال الشيب بشعر المميز، مع أن عمره فوق الأربعين بقليل، خلافًا للإنجليزي الذي يناهز السبعين وهو بهيئة أكثر شبابًا، علمًا أن أخبار فلبي في الكتاب كثيرة. ومن اللطيف أن المميز لاحظ أن السيارات في الرياض أكثر وأفخم من السيارات في بغداد. ومن جميل القصص أن الملك سعود ذكر لجلاسه خبر إحدى قريباتهم ممن عاصرت الإمام فيصل بن تركي، وعمرها تجاوز مئة عام، ومع ذلك تحج كل سنة، وهي في صحة جسدية وذهنية جيدة، فقال السفير السوري للملك: سرُّ ذلك أنها لم تدخل في عالم السياسة! فضحك الملك من الجواب الذي أعجبه.

أما الغرائب فمنها طلب الأمير عبدالإله من السفير أن يتأكد من معلومة ما وهو يمارس عمله الدبلوماسي، وهي معلومة أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة! ومنها أن الإدارة البحرية هي المسؤولة عن إطفاء الحرائق بجدة، وأن أفخم مستشفى فيها حمل اسم لبنان. ومن الغريب المحزن أن أحد المسؤولين الموتورين أرسل لسفارة العراق ستة أكياس، زنة كل كيس مئة كيلو؛ فتعجب منها أمين، وحين فتحها وجد فيها منشورات تحريضية، يُراد توزيعها في موسم الحج للتشويش والتشغيب، ولكن الرجل الحصيف الغيور لم يفعل، وحافظ على العلاقات بين البلدين. ومن الطريف الغريب ما رواه عن رجل مشى من جدة إلى مكة حينما وصل إلى المملكة أول مرة، وصنع ذلك من باب التقى، ثمّ غدا من أكبر ملاك المجوهرات النفيسة!

ومن أخبار الكتاب أن أتاه أناس من المدينة النبوية يطلبون ترخيصًا لزيارة الأماكن المقدسة في العراق، وتدخل الحكومة السعودية الشهم لمنع بعض أحكام الإعدام الجائرة في بلدان عربية. ومنها ما نقله المميز عن كاتبة إنجليزية قطعت الجزيرة العربية من الخليج مرورًا بالرياض وصولًا إلى جدة ثمّ إلى اليمن وهي تقود سيارتها بنفسها، ويضاف لهذا الخبر النسائي أنه طاف حول الكعبة، وكان مطوفته طبيبة مصرية أديبة شاعرة، وهذا حدث فريد. ومنها مروياته عن الأمطار التي هطلت ومن كثرتها ظن الناس أن البحر الأحمر قد قاض على جدة، وتفاصيل زياراته للمنطقة الشرقية، والبحرين، وقطر.

ثمّ إنه بسبب خلو جدة من وسائل التسلية والترفيه كما يقول الكاتب المثقف، فقد طالع وقرأ في سنة واحدة فقط، أكثر مما طالع وقرأ طيلة سنوات عديدة، وهذا من أفضال جدة عليه. وبعد أن ودعها نهائيًا ،قضى ليلة في بروت زعم فيها أنه نال من البهجة والمتعة فيها ما أغناه عن الحِرمان في سبعمئة ليلة جداوية! وفي آخر الكتاب أبدى حزنه على أن زيارة ملك العراق فيصل الثاني للسعودية في نوفمبر عام (1957م) لم تضمه إلى وفدها، مع معرفته للبلاد، وحبه لها، ومشاركته في الوفد الملكي السعودي حينما زار الملك سعود بغداد قبل ذلك.

أشير أخيرًا إلى أن هذا المقال هو نتاج قراءة قديمة منذ أزيد من اثني عشر عامًا، وأشعر أني بحاجة لقراءة الكتاب من جديد. وعلى أيّ حال فهو كتاب فيه أدب، وإيمان، وسير، ومرح، ومتعة -عفا الله عنه-، وطبعًا فيه أخبار جادة، وتحليلات متنوعة، ويعيب بعضها الخطأ أو القصور، وجلّها يؤكد لنا أهمية التحفظ في الحديث مع الآخرين من غير أبناء البلد خاصة الأجانب منهم؛ لأنهم يسجلون، وقد يدركهم النسيان، أو يُبتلى الواحد منهم بسوء الفهم، أو برزية التحريف، أو بهما ومعهما كوائن أخرى، والشيء الأكثر أهمية ومركزية أن نصلح أنفسنا، ونمضي في تحقيق أهدافنا، غير ملتفتين للوراء، ونذر الآخرين وأقوالهم الخاطئة دبر الأذن، وخلف الظهر، فرضاهم ليس هدفًا يُبتغى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة السبت 24 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1445

06 من شهر يناير عام 2024م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)