سياسة واقتصاد سير وأعلام

مترجمون وساسة!

Print Friendly, PDF & Email

مترجمون وساسة!

جلّ شأن الله الذي يحيط بالألسن على اختلاف لغاتها، ولهجاتها، وتعابيرها الصريحة والضمنية، ومدلولاتها الظاهرة والباطنة. ولأن اللغة مهمة بعث الرب الرحيم لكل قوم رسولًا بلسانهم، وعندما هاجر النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة النبوية أمر الصحابي الشاب الذكي زيد بن ثابت رضي الله عنه بتعلّم لغة يهود ففعل. وفي سير الزعماء والدول يظهر اسم الترجمان الذي حضر أو كتب أو قرأ وغدا من أوائل أعضاء البلاط. وإن إتقان أيّ لغة أجنبية ليمنح للمرء عينًا إضافية، وعقلًا جديدًا، ومخزونًا من الثراء الثقافي الذي ينعكس أثره على صاحب اللسان الثاني أو هكذا ينبغي.

وقد وجدت من خلال القراءة، أو السماع، أو المتابعة، بعض القصص اللطيفة عن الترجمة في عالم السياسة، فأحببت إشراك القارئ العزيز معي بها، وتحينت لها هذا الوقت بُعيد العيد السعيد، فأعيادنا تشيع البهجة والمتعة الطيبة أو هكذا يجب أن تكون. وقبل الشروع في عرض بعض هذه الروايات أشير إلى أن الترجمة عملية شاقة جدًا، ومجهدة للغاية، وإجادتها تستلزم التعمق في اللغتين، والثقافتين، والإحاطة بالتاريخ قدر الوسع، كما سيظهر من بعض الحكايات أدناه، رحم الله المسلمين من أطرافها وغفر لهم.

فمن أبرز ما وقعت عليه، الترجمة بين الملك عبدالعزيز ووزير الخارجية الإسباني التي أوكلت للشيخ جميل الحجيلان بحكم معرفته بالفرنسية، وهو إذ ذاك شاب في الخامسة والعشرين من عمره، وحديث عهد بالعمل في وزارة الخارجية. وقد تحدث الحجيلان عن الترجمة في سيرته، وفي عدة لقاءات مرئية، وتفاعل معها الناس تفاعلًا لافتًا؛ لأنها تحكي طرفًا من سيرة الملك المؤسس، إضافة لجمال سرد الحجيلان إن في الأداء، أو الكلمات، أو نبرة الصوت، مع الحيوية والذاكرة الدقيقة في تصويرها كأن الحدث وقع بالأمس. وفي تلك الترجمة فائدة للمترجم خلاصتها حتمية الإلمام بطريقة المترجم له في الكلام، وما يعتاد ترديده من جمل، كي يكون لها مستعدًا بما يحول دون الفجاءة والارتباك.

ومن بديع ما قرأته في سيرة الأستاذ منصور الخريجي رواية أول مرة ترجم فيها للملك فيصل، والشعور الذي رافقه، والتأييد الذي وجده من الملك والمخلصين من كبار رجال الدولة معه. وفي إحدى المرات وقف الخريجي مترجمًا بين الملك فيصل وضيفه، وفي جيب المترجم عملة معدنية ظلّت تنتظر فلم تهرب من فتحة الجيب إلّا حينما وقف المترجم بين الزعيمين، فدارت العملة في الأرض واستقرت تحت أقدام الملك الذي لم يظهر عليه أي أثر، وبعد نهاية الاستقبال قال الملك لمترجمه: خذ قروشك! علمًا أن الخريجي استقطب من الجامعة إلى الديوان الملكي، وبعد أن كان زملاء الجامعة يرونه دون مستواهم العلمي لاكتفائه بالماجستير فقط، صاروا يتوددون إليه طلبًا لمرضاته، فهو مترجم الملك، ثمّ نائب رئيس المراسم الملكية.

وأذكر أني قرأت مرة عن موظف إيطالي يعمل في سفارة روما بجدة، ومختصر قصته الطريفة أن الوضع في  جدة لم يرق له؛ فأراد الانتقال منها بأيّ طريقة. وحينما جاء رئيس وزراء بلاده لزيارة السعودية والالتقاء بالملك فيصل، اغتنم الدبلوماسي الشاب هذه الفرصة ليكون المترجم بين الزعيمين؛ لأنه يجيد اللغتين بمهارة فائقة، وهو ما تم فعلًا. ولكن بعد نهاية الزيارة، وقبل أن يطلب الإيطالي من حاكم بلاده نقله لأيّ مكان خارج السعودية، صافح الضيف الإيطالي الملك فيصل قرب سلّم الطائرة، ثمّ ربت على كتف المترجم، وقال للملك: أشكركم على إحضار شاب سعودي يجيد الإيطالية بحذق ليترجم بيننا! وحينها وئد مشروع المترجم المسكين مع صعود زعيمه فوق عتبات الطائرة، وأسقط في يده؛ فأكمل المدة مرغمًا.

كذلك من أخبار المترجمين أن المثقف والمترجم المصري طلعت الشايب ترجم للقائد العسكري سعد الشاذلي مقولة نظيره الروسي على أنها مثل بيع الماء في حارة السقايين! وبعد نهاية اللقاء أبدى الشاذلي تعجبه للشايب أن لدى الروس حارة سقايين! فأخبره الشايب بأن الروسي قال مثلًا متداولًا في ثقافتهم الروسية، وهو بيع الفحم في نيوكاسل، ويقابله في الثقافة المصرية مثل حارة السقايين، ولم يذكر المترجم المثل بنصه؛ لأن شرحه يحتاج لوقت فجاء بالمرادف المعبر عن المراد من الثقافة المحلية مباشرة، وقد أحسن صنعًا، وهذه مهارة ضرورية للمترجم، علمًا أن الشايب توفي خلال حديثه في صالون أدبي عن تجربته في الترجمة، وله فلسفة في عمله المنهك يسميها “مكتبة المترجم”.

تذكرني حكمة المترجم الشايب بتعطل قدرات المترجمين أمام كلمة مندوب اليمن في الأمم المتحدة حينما وصف أمرًا ما بأنه مثل “مسمار جحا”، ولم يتوقف المندوب ليعطي للمترجمين فرصة التوضيح مما أربك القاعة وجعل فريق الترجمة في “حيص بيص”. وأسوأ من ذلك هروب مترجم كلمة القذافي في الجمعية العمومية، ورميه السماعة ضجرًا؛ لأن وقت الكلمة المعتاد ربع ساعة فقط، بينما واصل معمر حديثه لمدة ساعة ونصف، وكان هروب المترجم ونفاد صبره قبل ربع ساعة من نهايتها. ومن حسنات مندوب المملكة الفصيح السفير عبدالله المعلمي، أنه يخبر المترجمين مسبقًا بما سيرد في كلمته من أشعار وأمثال، ويعطيهم ترجمتها طبقًا لما يريده؛ كي لا يجدوا أنفسهم في ورطة، ولا يغلطوا في الترجمة.

وكان يزورنا في مجلسنا الأسبوعي أحد موظفي السفارة اليابانية في الرياض، وهو يتكلم العربية التي درسها في بلد عربي لم يكن خياره الأول للدراسة؛ لأنه يقول درست العربية مع الأسف في “…”، ورغبته الأصلية أن يدرسها في سورية أو الأردن لكنها لم تتحقق. وعندما عمل في الرياض تحسنت لغته العربية كثيرًا، وأصبح أكثر طلاقة وإحاطة بالعربية وثقافتها، ولذلك اختير مترجمًا خاصًا للإمبراطور، وتولى الترجمة بينه وبين سمو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء في آخر زيارة له إلى اليابان. ولسمو ولي العهد موقف عظيم مع مترجم روسي حينما وصف المملكة بالاستقلال؛ فاستدرك عليه أمام الضيف الروسي “بوتين”، وصحح المعلومة لهما ولمن يسمع، ولبابها الذي أكده هو أن المملكة حرة مستقلة لم تتعرض لاحتلال قط، وبالتالي فوصف الاستقلال بعد احتلال لا يصدق عليها البتة.

وربما تسببت الترجمة في إشكالات سياسية أو غيرها، ومن ذلك أن المترجم بين زعيمي واشنطن وموسكو في الثمانينات الميلادية “بوش وجورباتشوف” أخطأ في الترجمة، فقال له “بوش الأب” مازحًا: الأخبار جيدة؛ فلم تنشب حرب عالمية ثالثة بسبب ترجمتك حتى الآن! ووصف “ماكرون” زوجة مضيفه الأسترالي بأنها لذيذة، ومقصوده منصرف إلى الحفلة التي أقامتها إذا أحسنا الظن به! وقبله وصف “كينيدي” نفسه بأنه برليني نسبة إلى عاصمة ألمانيا، بينما ذهبت الترجمة بالكلمة إلى فطيرة ألمانية شعبية! وعلى منصة الأمم المتحدة قال زعيم السوفييت المثير “خروشوف” إن الثقافة الغربية سوف تدفن بأخطائها، بيد أن الترجمة آلت بالكلمة إلى تهديد بجرف روسي للغرب وثقافتهم ودفنهم معها تحت الأرض!

كما أن الترجمة عرضة للظلم، ورمي الأخطاء عليها، ومن ذلك أن حاول رئيس المفوضية الأوروبية، الاعتذار عن الجرأة والعنف في كلمات رئيس أمريكا “ترامب” تجاه الألمان، واصفًا إياهم بالوضاعة؛ لأنهم يبيعون لأمريكا بضائع كثيرة، فلم يوجه كبير المفوضية اللوم للرئيس العنيف كلامه، أو لتصريحاته الشرسة التي لم تُعهد، وإنما علل الخطأ بصعوبة الترجمة، وليس بنص الكلام الذي قاله زعيم أمريكا. ومن ظلم الترجمة نسبة بعض الإجرام الأمريكي في فيتنام إلى أخطاء في الترجمة، والزعم بأنها تسببت في زيادة عدد الضحايا! وقد تنفع الترجمة بالخطأ كما حصل لزعيم الصين إبان زيارة “نيكسون” التاريخية لبكين، إذ أخطأ المترجمون في نقل رأي الصيني عن الأحداث في فرنسا، وأضحى الخطأ لصالحه.

ولزعيم روسيا “بوتين” وضع خاص في الترجمة يتعب المترجمين؛ لأنه يستخدم عبارات وتشبيهات من عمق الثقافة الروسية، ولا مناص لفهمها من معرفة تاريخية أو ثقافية، فمن لم يتبحر في هذه الثقافة، فسوف تدركه الحيرة، وربما غرق في لجج لايرى فيها طوق نجاة أو شطآن تقربه من بر الأمان. وليس هذا فقط، إذ يستدرك “بوتين” على المترجمين، فمرة وصف السويد بالأصدقاء، لكن المترجم جعلها الشركاء، فاختطف بوتين الكلمة قاطعًا على المترجم، ثمّ نعت المترجم بأنه شقي جعل الصداقة شراكة، وبينهما بون يدركه السياسي المحترف. ومن هذا الباب أن زعيمًا عربيًا وصف بعض الدول بأنها مثل النطيحة والمتردية وما أكل السبع، فاحتار المترجم كيف يوصل المعنى للطرف الآخر حتى أذن له المتحدث بترجمة المعنى ففيه الكفاية.

أما طرائف الترجمة فمنها أن المترجم أشار في عام (1992م) إلى السكرتير العام للأمم المتحدة الجديد آنذاك بطرس بطرس غالي عقب تنصيبه بـ”السكرتير العام للولايات المتحدة”؛ فضجت القاعة بالضحك على خطأ يصف حقيقة غير معلنة. وعلّق المتابعون على ركض مترجم رئيس كوريا الشمالية ليقف خلف زعيمه ويترجم له مع ضيفه، بأن المترجم يستحق مكانًا في الفريق الأولمبي لبلاده، بدلًا من إهدار موهبته عبثًا في الترجمة؛ لأنه جرى بسرعة فائقة، بينما قال آخرون: إن هذه الترجمة قد تكون الأخيرة لمترجم زعيم كوريا الشمالية الذي يشاع عنه البطش بلا رحمة! والحقّ يقال فعندما شاهدت لهاثه والرعب المسيطر عليه وهو يتعدى الجموع ليلحق بسيده أدركتني الرحمة له.

كذلك من إحراجات الترجمة أن “توني بلير” أخطأ أو اضطربت قدراته اللغوية، وبدلًا من أن يقول: “أنا معجب بجوسبان بطرق عديدة مختلفة” خاطب الشعب الفرنسي بقوله: “أنا أرغب في جوسبان في العديد من الأوضاع المختلفة”! وسبق أن وقع مترجم سيد البيت الأبيض “كارتر” بمثل هذا الخطأ الفاحش إبان زيارته لبولندا، علمًا أن عثرات الترجمة المرتبطة بهذه الإيحاءات الحميمية كثيرة، ومحرجة، وربما يكون أكثرها بالخطأ.

ولوزير الدولة السعودي أ.د.مدني علاقي قصة طريفة إبان دراسته في بريطانيا؛ إذ لم يحسن التفريق بين الشطرنج والصدر، وذهب يبحث عن الصدر لدى فتيات يتضاحكن بخبث، ويسألنه ماذا تريد منه؟ فيجيب ببراءة: كي ألعب به مع صحبي في شقتنا! فتنطلق ضحكاتهن المجلجلة حتى جاءت العجوز الخبيرة، وفهمت مبتغاه، وأفهمته الفرق، وكتبت له الكلمة بورقة؛ ليعود إلى رفاقه في شقتهم ومعه اللعبة التي كادت أن تكون شيئًا آخر!

ويقودنا حديث الترجمة إلى الاعتزاز باللغة؛ فمما يروى عن مسؤول سعودي سابق أنه حضر مؤتمرًا دوليًا، وعندما جاءت كلمته ألقاها بالعربية مصرًا عليها مع أنه يجيد الإنجليزية بمهارة، فانقطع صوت المترجم لخلل فني، بيد أن المسؤول رفض التحويل للإنجليزية، وأتم كلمته بالعربية، وبعد فراغه ذهب له رئيس المؤتمر، وصافحه مثنيًا على اعتزازه بتراثه ولغته أمام الحاضرين. ومثله يحفظ عن زعيم فرنسا “شيراك” الذي يحضر المترجمين معه في لقاءاته مع أنه يجيد الإنجليزية، بيد أنه يأنف التحدث بها بحجة أن الأمريكي أو البريطاني يمكنهما التحدث بالفرنسية؛ ولذلك رفض “شيراك” الإجابة عن أسئلة وجهت له بالإنجليزية في الأمم المتحدة، حتى تطوع “بلير” وترجمها له، وكسب الفرنسي الموقف لصالح ثقافته وتاريخه الشخصي، واتخذ من رئيس وزراء المملكة المتحدة مترجمًا له أمام العالم! فأين منه قوم يُسألون بالعربية؛ فيجيبون بغيرها؟!

 هذا ما استطعت استحضاره، ومن المؤكد أن غيره كثير في عوالم السياسة وغيرها في التعليم والسياحة والاقتصاد. علمًا أني لم أنتظر إلى حلول الثلاثين من سبتمبر أيلول الذي يتوافق مع اليوم العالمي للترجمة كي أكتب وأنشر، وإنما أردت شرح صدري بالكتابة، وإسعاد قارئي العزيز بهذه المرويات المستطرفة، وبما فيها من مغزى خلاصته الاعتزاز بالثقافة واللغة، فهذا ديدن المجتمعات العريقة، وسبيل أهلها النبلاء الشرفاء، وأنتم ومجتمعاتكم كذلك وأزيد من ذلك!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 06 من شهرِ شوال عام 1445

15 من شهر إبريل عام 2024م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. طرح ثقافي رائع كاتبنا..والتفاته بديعة منك، وبحكم التخصص أدرك تمامًا أنها بقدر المتعة التي تحملها الترجمة إلا أنها شاقة وتحتاج لحضور ذهني وثقافي عالي..

    وكما قيل ‏”الترجمة، محاولة القبض على القطة السوداء في الغرفة السوداء.”

    _كروزخوڤ

    ويقول خليفة التليسي أن الترجمة عندي عملية إبداعية، وهذا خطير جداً. هذا يمتصُّ عواطفك ويوظفُها لصالح الآخرين، إنها تجرِبةٌ قاسية، وتضحيةٌ بالذات، وأنصح بأن تكون الترجمة مرحلةً من مراحل العمر لا غير، فهي تساعدُك على اكتشاف ذاتك!

    لأن الترجمة هي الرابطة الإنسانيّة المشتركة بين الثقافات كافّة، ما يقوم به المترجم ليس نقلًا بالكلمات عن نصّ لنصّ آخر، بل هو “فنّ الضيافة”: استضافة الآخر في محفْل ثقافة أخرى، لها تقاليدها وشروطها، التي تمثّل معلمًا مميزًا في صرح البشريّة الباهر. والمترجمون هم بناة هذا الصرح، الملاحظ أن كل ثقافة هي مغمورة بالآخر، ومجبرة على التعاطي معه ضمن الشرط الإنسانيّ واحترام فكر الآخرين، فالثقافات لا تُبنى بمعزلٍ عن بعضها البعض؛ الثقافات هجينة والترجمة هي فنّ اكتشاف أنفسنا في مرآة هذه الثقافة أو تلك.

    مرة أخرى شكرًا على هذه المقالة المبهجة التي تلت أيام العيد السعيد👏🏼

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)