إدارة وتربية مواسم ومجتمع

قلب الصفحة!

Print Friendly, PDF & Email

قلب الصفحة!

الحياة مثل كتاب لا تستقيم الحال معه، ولا يُنتفع منه وبه إلّا بقلب الصفحة لقراءة ما يليها، أو الكتابة فيها، وقد تكون عملية القراءة والكتابة فردية أو جماعية، سرية أو علنية، متوالية أو متقطعة، سلسة أو عسيرة، منطقية السياق أو عبثية، متوقعة أو بغتة، هادئة أو صاخبة، ومثلهما تمامًا العملية الأهم والأخطر، التي نحتاجها دائمًا؛ كي تمضي الحياة، ولا تتعقد الأمور، ألا وهي قلب الصفحة! ومن الحنكة التفريق بين صفحة تقلب أو حتى تمزق، وأخرى تُشد عليها يد الضنانة، ويُتشبث بها لآخر رمق ونفس.

إن قلب الصفحة شأن لا مناص منه حتى يستمر الكتاب ولكل أجل كتاب، وهو صنيع يختلف في وقته وكيفيته ونتائجه، كما أنه عمل ضروري اختيارًا -وهو الأفضل والأسلم- أو اضطرارًا. وله مناسبات وفرص يجدر بالموفق أن يهتبلها، وألّا يفوتها، كي لا تُقلب الصفحة بيد غيره فيفوز بالمنّة، أو يُضطر هو لتمزيقها فينتفي عنه الفضل. وهاهنا حديث عن هذه الفرص، مع بعض التعليقات والتوضيحات:

الأحداث الكبرى:

عندما فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة في العام الثامن للهجرة، أعلن “العفو العام” عن أهلها، ومنحهم عدة طرق لتحصيل الأمن والسلامة، ورفع من قيمة ساداتهم ليكسب قلوبهم، وكانت فرصة عظيمة لقلب صفحة عداء ودماء مع مكة وأهلها، وفتح صفحة تبوأت مكة فيها موضعها الصحيح اللائق بها من القداسة والتقدمة.

المناسبات الدورية:

أعلن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أنه وضع ربا الجاهلية وألغاه، وأهدر دماء الجاهلية كذلك، وبذلك فتحت صفحة جديدة في الحقوق والمطالبة بها، تلك الحقوق التي أكدها الجناب الكريم في خطبة الوداع غير مرة. ومن هذا الباب اغتنام شهر رمضان والعيدين لتقارب الأسر، وتصافح الأصدقاء، والعفو السنوي الذي يصدر من زعماء الدول، وربما صعد به بعضهم لعفو أعم وأشمل.

الحوادث المهمة:

حينما وصل نعي حاكم الكويت الشيخ سالم المبارك الصباح للملك عبدالعزيز وهو يستضيف ولي عهد الكويت الشيخ أحمد الجابر للتفاوض على قضايا مشتركة، وجدها الملك عبدالعزيز بحكمته السياسية فرصة مواتية لفتح صفحة جديدة في العلاقات الممتازة بين البلدين بعد أن تعكرت قليلًا بسبب قد زال، وبعد عزاء الملك لضيفه أخبره أن ما يريده سيكون، وأن صفحة اختلاف وجهات النظر قد طويت.

ونرى في حاضرنا أن أيّ زعيم جديد يصدر أوامر تنفيذية، وقرارات عفو، ويحدِث من الإجراءات، ما يقع جملة غير قليلة منه في باب قلب الصفحة وفتح الأخرى، علمًا أن قلب الصفحة من مهارات السياسي ورجل الدولة.

مواكبة التطوير والتغيير:

بعد ضم أكثر أجزاء البلاد، ثم توحيدها وتسميتها بالمملكة العربية السعودية، لم يترك الملك عبدالعزيز هذا التغيير يعبر دون فتح صفحة جديدة في التعاطي مع الماضي والأفراد والجهات والمجاورين، حتى صار خصم الأمس صديق اليوم. ولم يتوان الملك المؤسس في ابتداء صفحة جديدة من التراتيب الإدارية والتنظيمات التشريعية التي تنتقل بالبلاد إلى صورة حديثة تتفاعل مع الوضع الإقليمي والعالمي القائم، وتخدم مصالح البلاد وأهلها.

وبعد هزيمة الناصرية في حرب الأيام الستة لم يجعلها الملك فيصل مناسبة للانتصار على من كان يناوئه، بل قلب الصفحة وفتح أخرى بيضاء نقية، ومثلها فعل العرب مع دولتهم الكبرى مصر بعد سنوات من القطيعة. وبالمثل شهدت سنوات الطفرات الاقتصادية تقاعد كثير من الموظفين من أجل التجارة، حتى كان لبعضهم اسم كبير في عالم المال والأعمال.

الانتقال:

قد لا يطيب لك بمكان مقام، أو لا يحلو لك العمل بكيان، وعليه فما أجمل قلب الصفحة، وتغيير “عتبة الباب”، ففي الناس أبدال، وفي الترك راحة، كما ينسب للإمام الشافعي، وكم من انتقال جلب معه من البركات ما لم يطرأ على بال، فانتقال العتوب من الأفلاج صنع لهم دولتين في الكويت والبحرين، وارتحال الراجحي من البكيرية للرياض فتح الباب لأنجاله الأربعة؛ فأصبحوا من أكبر أثرياء البلاد وأنفعهم لها.

النسيان والتناسي:

هذه وسيلة جميلة لقلب الصفحة بأن ننسى الماضي المؤلم، أو نتناساه، لأن البقاء في أسار الماضي يكبل المرء، ويشل حركته، ويعطل انطلاقته، وهذا لا يعني القطيعة التامة مع الماضي؛ لكن تصنيفه إلى فئات، والتعامل مع كل فئة بما يناسب هو الأجدى فيما يبدو، ومن أعجب ما رأيت أن السابقين يقع بينهم الطلاق فلا يتقاطعون، والمعاصرين يتشاحنون من أجل مجموعة واتساب!

العفو:

أكبر مستفيد من العفو هو الذي عفى؛ إذ يرضي ربه، ويرتاح قلبه، ويرتفع قدره، وتزداد محبته، خلافًا لما قد يوقعه في القلب الشيطان الإنسي أو الجني، خاصة إذا صوروا العفو على أنه ضعف أو خور، والحقيقة خلاف ذلك، فالعفو لا يكون إلّا من قوي وقادر، أما غيرهما فلا يسمى فعله عفوًا.

الانشغال بجديد:

ربما يحجر البعض نفسه في إطار خيبة سابقة، أو حدث مؤلم، وليس أنجع لمن هذه حاله من الانشغال بعمل جديد، وابتداء مشروع آخر، واستئناف الحياة التي يجب ألّا تتوقف بطولها أو عرضها على شيء كائنًا ماكان، فالدنيا تحتاج إلى حارث بخير، وهمام إلى معروف، حتى يلقى المسلم وجه ربه الكريم الأكرم.

وضع الحدّ:

من وسائل قلب الصفحة أن تضع حدًا من الزمان أو المكان أو الحال لتحقيق هدفك، فإذا بلغته فلا مناص حينها من اتخاذ إجراء مهما كانت نتيجة عملك، وخلاصة الإجراء تكمن في قلب الصفحة على ما هي عليه، وفتح أخرى جديدة.

الوفاة:

مصاب الموت سبب لقلب صفحة وفتح أخرى مع الراحل أو بين الأحياء، ومن ذلك ما فعله جرير الشاعر مع خصمه في النقائض الشاعر الفرزدق بعد موت الأخير، ومثله مسامحة الأحياء للمتوفى إذا نادى به الناعي، وكذلك التقارب الناجم عن غياب أحد أسباب الشقاق بالأجل المحتوم.

العيش بنمط دبلوماسي وإداري:

اجعل حياتك وفق النمط الدبلوماسي القابل للتكيّف مع شتى التحولات، فربما أنت اليوم مخالف وفي الغد تغدو موافقًا، وهذه السيولة طبعًا فيما يستساغ ويقبل، أما الثوابت فهي صلبة والجمود عليها مكرمة. وبالمثل اعتماد النمط الإداري القائم على موقفية الإدارة، وسرعة تحريك الإرادة، وهذه الموقفية لا تنفي وجود الإستراتيجية الراسخة، بيد أن الحراك الموقفي المتاح يمنح المرونة، وإن غالب إشكالات البشر تعود إلى الغبش في التفريق بين الثابت والمتحول، وبين الراسخ والمتغير.

اللؤم في قلب الصفحة:

إياك والنفاق، أو الكذب، أو الغدر، أو سياسة ذي الوجهين، أو انعدام المروءة، أو افتقاد حسن العهد، فهذا كله من الأخطاء بل من الكبائر في قلب الصفحة وفتح الجديدة، حتى لو بدا فيها  من تزيين الشيطان ملامح من الدهاء والذكاء والمكر، إلّا أنها عند الله وصالح المؤمنين عظيمة، وفي النهاية يحيق المكر السيء بأهله، ويعود البغي والنكث على صاحبه.

وبعد يا قوم: فهذه سانحة ناسبت أيام العيد، جعله الله عيد الأعياد السعيدة المباركة. فلنبادر لقلب الصفحة وطيها، وفتح أخرى جديدة، ذلك أن الوقوف عند ماض أو موقف أو أمل وقفة شحيح أضاع في الترب خاتمه، أو التعلّق بأمر تعلّق غريق يائس بقشة، لا يجدِ شيئًا، خاصة أن المسابقة للمكارم، والمسارعة للمحاسن، والتيقظ للفرص، والتفطن للبواعث، هو ديدن أهل الشرف الأعلى، والمقام الأسنى، والذكاء مع الزكاء، والمآثر تحفظ، والمناقب تسجل، تمامًا مثل نقيضها، وخيركم -ياعباد الله- الذي يبدأ خصيمه بالسلام!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس ثاني أيام عيد الفطر عام 1445

11 من شهر إبريل عام 2024م

Please follow and like us:

8 Comments

  1. بعض المقدمات ليست مقدمة فحسب وإنما درس حياتي يدعوك للتأمل والتفكر بها؛هذه المقالة البديعة لو قرأت مقدمتها منفصلة اكتفيت وارتويت بشدة لعمق فلسفتها وقوة تأثيرها، إلا أن إبداعها لم يتوقف حتى في الأمثلة والمواقف التي طرحتها كاتبنا المتفرّد الرائع، اتفق كثيرا مع طرحك نحن بحاجة إلى قلب الصفحات حتى في تفاصيل يومنا الصّغيرة, في مرور المنغّصات العابرة، وفي كل ما يعكّر صفونا, نحتاج أن نجعل التغافل والتجاوز والتسامح في “بعض المواقف” دأب حياة, ليس في تعاملنا مع أمورنا العِظام فحسب، نحتاج أن نضع نصب أعيننا أن حياتنا تسير وفق تدبير حكيم لتطمئنّ قلوبنا أمام مجريات الأمور ثم نطوي منها ما يطوى، ونقلب نقلب بالصفحات حتى نأنس بالسطور والأشخاص والعلاقات التي تليق بنا وتشبهنا، اصعب مواقف الحياة أن تتعطل حياتك بسبب شيء تعتقد أنه الأصلح بينما هو الشر كل الشر في حياتك، ” وكم من انتقال جلب معه من البركات ما لم يطرأ على بال، قد لا يطيب لك بمكان مقام، أو لا يحلو لك العمل بكيان، وعليه فما أجمل قلب الصفحة”! بديعه منك هذه الأسطر!
    سانحة العيد هذه لامست شغاف القلب، جعله الله عيد الأعياد السعيدة المباركة؛وكنت بهذه كمن يقول،

    فَاسْرقُوا للرُّوحِ يَومًا، واعقُدُوا للحُبِّ نيَّة،
    وافرَحَوا مَازالَ للأفرَاحِ فِي الأرضِ بَقيَّة!

  2. ما شاءالله تبارك الله

    مقال والله رائع واسلوب بديع صادر من كاتب حبيب وللقلب قريب 😍
    بارك الله في علمكم ونفع بكم الاسلام والمسلمين

    ومقالك هذا نسأل الله ان يكون فاتحة خير للمتخاصمين وقاطعي الرحم🤲

  3. اللهم بارك
    تتفوق عليك كل مرة أبا مالك

    حديث بلغة عصرية عن نمط واقعي من أساليب تصفية الحياة وإدارة الذات، بنفَس مرتبط بالأصول الشرعية، والقيم والأخلاق ..
    ربما كنت أقترح: البدء بهذه الفقرة: ( عندما فتح النبي عليه الصلاة والسلام مكة…) ثم أعود للمقدمة الأصلية، وبعدها أعود للتسلسل ذاته، ابتغاء البدء بالإنساني المحسوس الذي هو أقرب للإدراك، وأدعى للجذب، ثم يأتي بعدها الشرح والمراد .. ثم يستمر المقال لجوانب تطبيق قاعدة قلب الصفحة في مناحي الحياة المتعددة.

  4. حبك من الثوابت التي لا تقلب معه الصفحة إلا إلى أوسع منها.
    كتابة متينة ورائعة وسلسة.

    زادك الله من موفور نعمه

  5. السلام عليكم
    عيدك مبارك، تقبل الله منا ومنكم.
    هذه المقالة لامست قلبي وأحسست أنها من أفضل المقالات التي قرأت.
    جزاك الله خيرا ولا حرمنا الله منك و لا من قلمك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)