سير وأعلام

بسمارك: المستشار الحديدي

Print Friendly, PDF & Email

بسمارك: المستشار الحديدي

هل الصناعة الألمانية المتقنة والقوية تعكس صورة الإنسان الألماني في قوته وجبروته وإصراره؟ وهل يمكن الإفادة من تجربة الدولة التي خرجت مهزومة مقيدة عقب حرب عالمية، ثمّ هي اليوم تكاد أن تقف على رأس قارة أوروبا؟ أليس من المناسب دراسة طبيعة المجتمع الألماني ومعرفة دوافعه التي جعلته في أنفة ومنافسة وجلد، حتى أن المرأة الألمانية حملت من الأعباء ما ذكره بإجلال لها التاريخ بعد نهاية الحرب الكونية الثانية التي نجم عنها نقص الرجال في بلادها إن بالقتل أو العجز أو الأسر؟

كنت وسأظلّ واثقًا بأن لدى التاريخ والجغرافيا طرف من الجواب عن هذه الأسئلة يكاد أن يستولي على الصواب إذا تضافر مع علوم الاجتماع والنفس والتربية، ليخرج لنا برأي متكامل فيه المعلومة والتحليل عن الأمم والشعوب والحضارات والعصور، وإنه لجهد عظيم لا يستطيعه واحد، وربما تقوى عليه مراكز أبحاث وبيوت خبرة وتفكير، بعد فحص التجارب، للإفادة من عبرها، والنجاة من مآزقها، والسلامة من عثراتها، والبصيرة بما واجهته من نتائج أو مآلات حسنة أو سيئة؛ فمن أقدم وهو يعرف الغاية قلّما يتراجع أو يكدي.

وبناء على ذلك، ربما يناسب تدارس أحوال أوروبا قبل صلحوستفالياعام (1648م) وبعده، ومعرفة كيف كان القوم وإلام تحولوا، مع تتبع الكيفية والمراحل والعقبات، والنظر في سير رموز تلك الأمم والقوميات من رجال الدولة والكتّاب والمؤثرين. فمن هؤلاء مثلًا أول مستشار لألمانيا الحديثة، وباني وحدتها الإمبراطورية، أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك الذي ولد في برلين لأبوين من المتعلمين والموظفين المرموقين، ودرس فيما بعد القانون والزراعة، ومارس المحاماة، بيد أن السياسة والشأن العام يجريان في دمائه حتى دخل معتركهما، وصنع لبلاده مجدًا ولنفسه موقعًا في تاريخ أوروبا الحديث بعد أن رحل من الحياة بعمر أزيد من ثمانين عامًا (1815-1898م).

من خصائصبسماركالظاهرة جدًا كثرة التنقل المادي في العمل والمكان، والمعنوي في الأفكار والرؤى، فقد عمل خارج البلاد بأوامر الملك سنوات طويلة؛ إذ عينه الإمبراطور سنة (1851م) مبعوثًا إلى مجلس الاتحاد الألماني في فرانكفورت، وعقب سنوات ثمان جعله سفيرًا لبروسيا في الإمبراطورية الروسية، وفيما بعد أُرسل إلى باريس ليكون سفيرًا لبلاده في فرنسا. ومع طول المدة التي مكثها بعيدًا عن موطنه؛ إلّا أنه لم ينفصل تمامًا عن الشؤون الداخلية الألمانية، فقد بقي على اطلاع كامل معتمدًا على صداقته مع وزير الحرب، وتلك من سمات رجل الدولة الشغوف بالمتابعة والمعرفة كي لا يكون غائبًا عن الأحداث، أو مغيبًا عن المشهد؛ فيصبح غريبًا عنها إذا اقترب منها يومًا.

وقد أفادبسماركمن هذه المواقع كثيرًا؛ إذ تحرر من سيطرة رفاقه المحافظين ومن سطوة آرائهم، وتخلّص من بعض آرائه القديمة، وكم في الابتعاد، والسفر، وكرّ النظر، وتنوع الحوار، من فوائد على الإنسان، حتى غدت تلك السنوات التي قضاها في العمل الدبلوماسي من معالم التحول في مسيرته السياسية، وفي منهجيته وما يؤمن به، ولا غرو فإن رجل الدولة تحنكه التجارب، وتصقله عقول الآخرين، ولا ينقطع عن الاقتباس والملاحظة في محاولة جادة منه كي يفهم ويبني تصوراته على منهج فيه العلم والعمل وسابق الخبرة بعيدًا عن الأوهام والمغامرات، وينجو بهذا من الاقتصار على مذهب واحد، أو التزام طريقة ثابتة.

كذلك من تنقلات الرجل أنه خدم عضوًا في المجلس الشعبي، وعمل أيضًا سفيرًا لبلاده إلى أن استدعاه الإمبراطور ليغدو رئيسًا للوزراء، ووزيرًا للخارجية مع رئاسة الوزارة، ومقصد الإمبراطور التخلص من سطوة نواب المجلس، وفعلًا نجح رئيس الوزراء في تخطي عتبات المجلس والإعراض عن قراراته. ثمّ أصبحبسماركخارج السلطة وهو في الخامسة والسبعين من عمره لخلاف شديد بينه وبين الإمبراطور الجديد الذي قضى مئة يوم إلّا يومًا في ولاية العهد، قبل أن يتولى الحكم بسبب وفاة سلفه المريض الذي لم تطل أيامه، وحينما يأس “بسمارك” من استعانة الإمبراطور به عكف على تدوين سيرته وذكرياته بعنوانأفكار وذكريات.

فلم يكن بين الإمبراطور الشاب وبين السياسي الشيخ وفاق في المزاج والفكر والسياسة، فكان الإقصاء مصيره المحتوم، وحتى حين أُبعد داعبت الآمال خياله، وانتظر الداعي كي يعود إلى الخدمة دون جدوى، وسبحان من جعل طول الأمل جبلّة بشرية، ونحن لا نستكثر عليه هذه الهمة وتلك الرغبة؛ فلربما أن الرجل احتفظ بنشاطه وحيويته وهو في شيخوخته؛ إذ يخبرنا تاريخ الأندلس أن كبير قادة جيوشه الفاتحة موسى بن نصير، ومنقذه في عصور التقهقر يوسف بن تاشفين، وقد كانا زمن الفتح والنصرة في الخامسة والسبعين من عمرهما رحمهما الله.

ومن انتقالات هذا المستشار أنه شنّ الحروب في مستهل حكمه بلا هوادة كي يخضع دولًا عدة مثل النمسا التي كانت قوية مرهوبة الجانب والدانمارك وفرنسا، وانتصر على فرنسا في معركة سيدان عام (1870م)، وأعلن النصر من قصر فرساي القريب من باريس إمعانا في إهانة الفرنسيين وإذكاء لنار العداوة بين البلدين والشعبين، ومن تهكمه بفرنسا أن غنّى النشيد الفرنسي وهو في القصر زيادة في السخرية من نابليون وقومه الذين لم يوقروا الإمبراطور البروسي أو الألماني، واغتنم الحرب مع فرنسا لرفع الحسّ الوطني والشعور القومي لدى الألمان؛ علمًا أن بسمارك كان حريصًا أشد الحرص على ألّا يحارب في جبهتين بوقت واحد مع جرأته على القتال، وعارض توسع بلاده في “الاستعمار” بحجة ارتفاع تكاليفه؛ ثمّ تقاسم مع بعض دول أوروبا احتلال بلدان إفريقية، ونهب خيراتها.

ثمّ عقب الحروب التي خاضها، استخدمبسماركإستراتيجية توازن القوى للحفاظ على مكاسب بلاده في أوروبا، إضافة إلى ترسيخ السلم وتقوية أسباب السلام للحيلولة دون إثارة حروب جديدة، وقادته هذه الطريقة إلى إبرام معاهدات سلام، وبعث رسائل طمأنة، ومحاولة تحييد فرنسا وروسيا بحكم معرفته السابقة بهما، وعلاقته مع بعض الأطراف هناك وهي علاقات معلنة أو سرية خاصة علاقته بالروس. ومن حكمته السياسية مهادنة الإنجليز وتجنب منافستهم في البحر الذي جعلته بريطانيا مركبها لاحتلال العالم أو أغلب بقاعه.

ومع أنه كان لا يؤمن أول الأمر بوحدة الأمة الألمانية إلّا أنه أصبح من أنشط مناصريها وأكثر دعاتها حماسة له تحقيقًا للمصالح التي أرادها لبني عرقه، ودخل لأجل ذلك في حروب كثيرة، ضمّ على إثرها بلادًا ومقاطعات، وسعى لألمنة قاطني تلك المناطق الحدودية. وفي عهده أعلنت الدولة الألمانية الحديثة، والرايخ الثاني، ودخلت أوروبا في حقبة جديدة من التاريخ والجغرافيا معًا على يده بالسلم والحرب، وإن مثل هذا الانتقال المبني على المصالح العليا والعامة سمة ترتبط برجل الدولة دومًا، ولا تفارقه البتة.

كما تحالفبسماركمع اللبراليين ضد الكنيسة الكاثوليكية التي اعتقد بأنها تمتلك سلطة سياسية مؤثرة في ألمانيا، وأنه لا مناص من قص أجنحتها؛ فبدأ بحملة ضد الكنيسة عرفت بـالحرب الثقافية، وألغى القسم الكاثوليكي بوزارة الثقافة، وطرد اليسوعيين، وساند الكنائس الأخرى، وأصدر قوانين للإشراف الحكومي على تعليم رجال الدين، لكنّ هذه الحملة الإقصائية جاءت بعكس غايتها؛ إذ ضاعفت من قوة الحزب المركزي الكاثوليكي.

لذلك لم يدم الوداد بينه وبين حلفائه الليبراليين بعد ان خشي من تصاعد نفوذهم، فتخلى بسمارك عن حربه الثقافية، وأنهى تحالفه مع اللبراليين الذي كان يراه المراقبون وثيقًا متينًا، وعاد للتعاون مع الكنيسة التي اجتهد لتحطيمها فيما مضى، وكان تعاونهما ضدّ حلفاء الأمس. وقد صرف المستشار جهوده من أجل تأسيس دولة رفاهية هي الأولى في العصر الحديث، والهدف منها إيقاف تغلغل الأفكار الاشتراكية والراديكالية وسط الحركة العمالية.

وناصربسماركالملكية وتعصب لها بمغالاة ظاهرة، ولم يكن هذا الثعلب السياسي يؤمن بالديمقراطية على الحقيقة، وإنما يستخدمها لمصالحه في السيطرة على الداخل والخارج، ولذا قمع الصحافة، وتجاوز مجلس الشعب المنتخب ولم يأبه بآراء أعضائه، واستخدم الأموال الضخمة التي جناها لخزينة الدولة، وشرع في إنشاء صندوق سري، وصرف موجوداته المالية لرشوة الصحفيين، ودفعهم لتشويه سمعة خصومه السياسيين من نواب الشعب والكتّاب والساسة، حتى شاع في المجتمع النخبوي تسمية هذا الصندوق بصندوق المخبرين الوقحين!

لقد كانبسماركمثقفًا وعالميًا، ويتحدث ست لغات هي الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والبولندية، والروسية. وبمجرد خروجه من السلطة زاد تمجيده من قبل مواطنيه، فجمعوا الأموال لبناء نصب تذكارية تخليدًا له، وسميت العديد من المباني باسمه، وفازت الكتب المؤلفة عنه برواج كبير، وتسابق الرسامون إلى رسم صور له. وبعد وفاته جعله القوميون الألمان بطلًا معظمًا، كما أشاد به المؤرخون إذ أنه رجل دولة ساهم في نجاح الوحدة الألمانية، واستعمل بمهارة سياسة توازن القوى للحفاظ على السلام في أوروبا بعد انتصاره بالحروب، ومع أن الناس اختلفوا حوله وهو في المنصب؛ إلّا أنه صار رمزًا بعد وفاته، وتلك من طبيعة المجتمعات كافة.

ورأى بعض الكتّاب أن موهبةبسماركالسياسية الكبرى هي في طريقة ردود أفعاله على الأحداث حين وقوعها، وتحويلها إلى ميزة لصالحه، واختصركارل ماركسوصف الرجل بوصف ألمانيا إبان حكمه لها عام (1875م) إذ قال: استبداد عسكريّ بزيٍّ برلماني! ولامه آخرون على ضعف عنايته بالتعليم قياسًا لغيره من المجالات، وعدّ آخرون فراغ القوة جزءًا من ميراثبسمارك؛ الذي خلّف دولة اقتصادها قوي وجيشها متقدم، بلا كفاءات أو نخب جاهزة لإدارة الدولة، إذ أخفى المستشار العنيد الجميع بعيدًا عن الأنظار، وتلك لعمركم منقصة في حقّ رجل الدولة مهما كانت منجزاته.

من آراءبسماركوأقواله أن مهمة الإمبراطور عنده تكمن في المحافظة على القومية الألمانية، ولا تحلّ عنده قضايا اليوم بالخطب ولا بقرار الأغلبية، بل بالحديد والدم حسبما يعلن صراحة هذا المستشار الدموي الذي يقول عن نفسه بحكمة لم تردعه عن بعض الأخطاء: على الأقل أنا لست متوهمًا أن أناسًا مثلنا يقدرون على تغيير التاريخ، ولكن مهمتي أن أراقب جريان التاريخ وأوجّه سفينتي بين تياراته، فأنا لا أقدر على توجيه جميع التيارات، وبالطبع لا أقدر على صنعها.

ومن اللافت أنه ممن توقعوا اندلاع حرب كبرى من البلقان، وتشارك فيها ألمانيا، وهو ما حدث فعلًا في الحرب العالمية الأولى. ويقول من خبرته إبان عمله في موسكو: تحالف مع أيّ أحد، وخض حربًا مع من تريد، ولكن لا تلمس الروس! ويحذر بأن أيّ معاهدة مع الروس لا تساوي ثمن الورقة التي كتبت عليها، ونصح قومه قائلًا: لا تقاتلوا روسيا؛ لأنها سترد بفعل غبي لا يمكن التنبؤ به! وإن صدق فالله يكفيناهم جميعًا بما يشاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الثلاثاء غرة شهرِ ربيع الأول عام 1444

27 من شهر سبتمبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)