سير وأعلام

الشيخ عبدالله المطلق ونحت الأثر!

Print Friendly, PDF & Email

الشيخ عبدالله المطلق ونحت الأثر!

لم يحظ تاريخ هيئة كبار العلماء، ولا سير أعضائها بكثير من العناية، وأستثني من ذلك السيرة الذاتية التي انفرد بتدوينها كاملة من أعضاء الهيئة -حتى الآن- الشيخ أ.د.عبدالله التركي، ولا يستدرك على هذا بأن سبقه الشيخ عبدالله خياط بنشر مذكرات مختصرة. ويضاف لذلك ما كُتب عن علماء بارزين في تاريخ العصر والمملكة والهيئة، مثل الشيخين العلمين ابن باز وابن عثيمين.

وهذا الغياب العام غير مقبول خاصة أن الهيئة لها تاريخ تجاوز نصف قرن، ولأعضائها حضور علمي محلي وعالمي، إضافة إلى جهود متنوعة في مجالات عديدة، فلكل واحد منهم باب من التميز مع العلم في الدعوة، والعمل الخيري، والتأسيس، والتأليف، والاقتصاد، والقانون، وغيرها. وقد يعود السبب بعد كثرة الأعمال، إلى التزهد، وضعف التجاوب الرسمي والشخصي مع من يبحث عن معلومة وكأنه ينقب في أسرار للغاية خطيرة!

ولأن الحديث عن أولئك الأعلام من الواجب، وديدن السابقين، وفيه فائدة للأجيال، فقد شرعت بالكتابة عن بعض أفاضلنا وعلمائنا حسبما يتيسر، وبمناسبة أو بدون. وسوف أكتب اليوم عن معالي الشيخ أ.د.عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن المطلق الذي أصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للإفتاء منذ عام (1422)، ثمّ صار مستشارًا في الديوان الملكي ابتداء من عام (1430) إضافة لعضويته بالهيئة، ولا يزال.

بلغ الشيخ هذه المناصب العالية بعد أن عمل سنوات سابقة باحثًا في وزارة العدل، وأستاذًا في المعهد العلمي، ثمّ أمضى أكثر خدمته الوظيفية قبل الهيئة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمعهد العالي للقضاء أستاذًا ومشرفًا على رسائل علمية ومسؤولًا إداريًا في عمادات وأقسام. وقد ألّف الشيخ مجموعة من الكتب، وألقى عددًا من المحاضرات، وشارك في برامج إعلامية إذاعية وتلفزيونية، ومؤخرًا أصبحت له مشاركات عبر الاتصال عن بعد؛ لنشر العلم، والفتيا، وتبليغ الخير للناس قاطبة، وهو ملتزم بها لا يتركها إلّا لأمر لا مناص منه.

ويمتاز الشيخ المطلق بحسن معرفته للمجتمع المحلي ودواخله ومحركاته، ولأجل هذه الخصيصة النفيسة جاءت فتاواه بعد تصور واقع الناس وأحوالهم؛ فراعت الأصول والمقاصد، ونظرت بعين الاعتبار الشرعي للعوائد والأعراف، ثم صاغها الشيخ بأسلوب واضح، وكلام مفهوم، وتشبيه وتقريب، وربما أضفى عليها جانبًا من البداهة الحاضرة، والطرفة المؤدبة، فسرت الفتاوى المنقولة عنه بالصوت والصورة والرواية، وتداولها الناس بغير ما طريقة ووسيلة.

ثمّ تكاثرت الاستضافات للشيخ، وفرح بها طلبة الجامعات، والطلبة الذين سيبتعثون للخارج حينما كانت تقام لهم دورات تأهيلية استباقية، وقد حدثني بعض من أشرف على هذه البرامج أن تفاعل الطلبة والحضور مع لقاءات الشيخ المطلق لا نظير له، وإن كان مدير اللقاء يدركه الحرج من السؤال أحيانًا ومن الجواب أحايين أخرى، وقد يضطر لكتم ضحكته إن لم تخرج رغمًا عنه مجلجلة! وفيما مضى وصلتني رسالة من امرأة مسلمة تقيم في بلاد أجنبية، وفيها استفتاء طلبت مني الحصول على جواب الشيخ بنفسه، وقد فعلت فسرت المرأة، ودعت للشيخ ولي، والله يتقبل.

لذا فليس بغريب أن تزداد الرواية عن الشيخ، وتحلو الحكايات بإجاباته، وتنتشر مشرقة ومغربة، وربما يكون بعضها مصطنعًا مما يستوجب الحذر والتأكد؛ خاصة تلك الفتاوى والأقوال التي تحوي أحكامًا عامة، أو يكون فيها من التقريرات والتعليقات ما يتجاوز المسألة ذاتها. ومن طريف ما يُروى أن أحد المسؤولين الكبار سأل الشيخ عن فتوى شهيرة تُنسب إليه؛ فقال الشيخ: أنا لا أذكرها؛ لكنها متوافقة مع طريقتي في الإجابة عن الأسئلة الغريبة!

ومما فتح الله به على شيخنا خدماته المستمرة للأوقاف، والعمل الخيري، والمجتمعي، والمانح، ولأعمال اللجان الشرعية في المصرفية الإسلامية. وهو فيها ما بين مؤسس، أو عضو، أو مساند، أو شافع، أو راعي لأنشطة واحتفالات، أو ناصح ومسدد. ومما سمعته إن إحدى المؤسسات قبل نشأتها طلبت منه الموافقة على عضوية مجلس إدارتها، فاجتمع مع المؤسسين وقال لهم: تريدون عملي أم نصحي وشفاعتي؟ فقالوا: بل الثانية؛ لأنهم يعلمون أن وقت الشيخ لا يستوعب مزيد عمل، فقال لهم: إذًا لا أكون معكم في المجلس؛ كي أصير مستقلًا عندما أحدث الآخرين عنكم.

كذلك فتح الشيخ بلا ضجر أو تأفف مجلسه ومخيمه بالمشاعر المقدسة، وقلبه قبل ذلك وبعده، لنجدة ذوي الحاجات قدر مستطاعه، وبذل شفاعته في قضايا مادية ومعنوية، وفي صلح وعفو، وإصلاح ذات البين، وفي شؤون التوظيف، والتخفيف، ومسائل السكن والتيسير على المستأجرين، وغوث المحتاجين والفقراء. ولم يتأخر إذا ناسبه الزمان عن حضور زواجات بعض من فقدوا الأب أو العزوة، بل إن الشيخ خطب بنفسه لبعض الشباب، ويصنع الشيخ هذه المحامد من أبواب المعروف ببصيرة وحذر كي لا يُستغفل أو يتخذ جسرًا؛ فمع لطفه البالغ، وإقباله بلا صدود، وطيبته الفطرية، إلّا أنه ليس بالخب، ولا الخب يخدعه، وما أحوج أصحاب الفضائل لهذه المزية!

ومما رأيته معه مباشرة، أنه يأبى أن يقبّل أحد رأسه، ويمتنع من تسليم جبينه لأيّ مقبل عليه إلّا عندما سلّم عليه قاض طوال فقال له الشيخ: لا مهرب منك! ولا يرغب شيخنا أن ينادى بلقب، ويمازح الضعفة ومن لا يُلتفت لهم، ويصرح بالتشجيع والتحفيز، ويقدّر ذوي الفضل والمروءة، ومن ذلك ما رأيته منه نحو الشيخ صالح الحصين، وما عُرف عنه من حسن الحديث عن العلماء وطلبة العلم وكرام الناس دون تهمة أو تجريح، وقد شاهدت فرحه وبشره عندما أضيف عالم كبير لعضوية الهيئة قبل عقد ونصف. ومن حسناته سعيه الدائم بالمقترحات التطويرية لعمل هيئة كبار العلماء، ولبعض الأعمال الحكومية مثل المنح الدراسية التي يرى الشيخ أن تكون عامة في التخصصات كافة؛ حتى يكون لبلادنا فضل في كل حقل وبلد.

ثمّ كان من توفيق الله للشيخ المبارك أن وضع في القلوب محبته، والقبول الكبير له، ولذلك جعله جمع من الأمراء والأثرياء من نظار أوقافهم، ومن المرجعية العلمية والإدارية لأعمالهم الخيرية التي يرجون بها ما عند الله والدار الآخرة. وقد حرص الشيخ على تقديم النصح لهم وفق اجتهاده وتجاربه، ولم يألوا جهدًا في ذلك، رغبة منه في تعظيم أجر الواقف، وزيادة الغبطة للوقف، وتوسيع مساحات منافعه وثماره، ولا غرو أن ينحو شيخنا ذلك المنحى وقد وهبه الله بُعد نظر في المآلات الوقفية والاجتماعية.

أما على الصعيد الشخصي؛ فللشيخ ذرية طيبة متآلفة زادها الله قربًا وبرًا ومحبة بينية، وقد نالت بعض بنات الشيخ درجات علمية عالية، ودرّسن في الجامعات السعودية. وقبل ذلك فللشيخ مسيرة جميلة مع بر أبويه؛ حتى أنه جعل منزله قريبًا منهما كي لاتقطعه المسافات البعيدة عن صلتهما اليومية، وارتبط الشيخ بعلاقة وداد صاف ظاهر للعيان مع شقيقه الشيخ خلف، ولم يتخلّف شيخنا عن الوفاء لزملائه وأصدقائه في محياهم بالعون والمحبة، وفي مماتهم بالصلاة عليهم، وكثرة الثناء والدعاء لهم.

ألا فليبارك ربنا ومولانا على شيخنا وله، والله أسأل أن يزيده من التوفيق للمكرمات والصالحات، وأن يجزيه الحسنى وزيادة، وأن يجعلنا وإياه ممن استعملهم الله الكريم الكبير في محياهم فيما يحب ويرضى، حتى غدوا مفاتيح خير ومن أسباب فشو المعروف، ومغاليق شر ومن أسباب خمود المنكر. وأضرع لربي وخالقي أن يكتب لهم لسان صدق في الآخرين، كي يقتفِ القادمون الصواب من آثارهم، ويدعون لهم بالعفو والغفران ورفيع الدرجات.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 26  من شهرِ شعبان عام 1445

07 من شهر مارس عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وجزاك الله خيرا الكاتب احمد حفظه الله ورعاه ، والله سرني اليوم مقالك عن الدكتور عبد الله المطلق ، وكانت امنيتي ان اشكره بنفسي على فتواه التي أرقتني سنين ، ولم اسمع الفتوى التي تناسبني ، وكان حلها على فتواه ، بلغه شكري وامتناني لما لفتواه ، وانا ادعوا له بطول العمر والصحة والعافية والتوفيق ، والبركة له ولعاءلته ، رزقه الله جنة الدنيا والاخرة ، المرسلة امة الله ،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)