مواسم ومجتمع

غش في زمن مضى

Print Friendly, PDF & Email

غش في زمن مضى

هذه بعض قصص الغش الدراسي في زمن مضى، وقبل المضي فيها أشير إلى أمرين أولهما أن الغش حرام شرعًا، منبوذ مروءة، ممنوع نظامًا، وإن أمرًا هذه بعض صفته لجدير بالاجتناب والتوقي. والثاني أن طبائع الناس في الأعصر المختلفة تكاد أن تتشابه، وإنما الخلاف في المقدار، والتفاعل المجتمعي معها، ومستوى الحياء والتخفي من الخطأ، وإلّا فالطبيعة البشرية واحدة، والله يجعلنا من الأقرب للملائكة والصالحين، والأبعد عن الشياطين والمفسدين.

ولأننا في موسم اختبارات مدرسية وجامعية، أحببت استرجاع هذه الحكايات للترويح وليس للترويج، فمن الغش الدعوة إلى الغش أو تزيينه. أما الحكاية الأولى فمع شقيقين فيهما ذكاء عميق، ونباهة دراسية لافتة، ولا يخلوان من حسد غريب، وضيق نفس وعين حتى لو أضرا بمستقبلهما! وفي أحد الامتحانات النهائية خرجا من القاعة وكان كل واحد منهما في مكان مختلف عن الآخر، وصادفا زميلًا لهما، فسألهما عن الامتحان، فأخبره أحدهما أنه أجاب عن سؤالين من أربعة أسئلة فقط، وترك السؤالين الآخرين لأنه اكتشف بأن الطالب المجاور له ينقل إجابته حرفيًا، فحسده وأراد حرمانه منالمنفعةولم يكمل حتى لو خسر هو الدرجة كاملة! ومن العجيب أن شقيقه الآخر أبدى الرضى عن صنيع أخيه، ولا أدري هل تغير تفكيرهما بعد أن نالا أعلى الدرجات من بلدان متقدمة، أم هما كما هو العهد بهما!

من لطائف القصص أيضًا أنه كان من المواد الدراسية قديمًا مادة اسمها الأناشيد والمحفوظات، وامتحانها كتابة وليس شفهيًا، وقد جرت العادة أن يضع الأستاذ بيتًا أو بيتين من الشعر، ثمّ يطلب من التلاميذ إكمال القصيدة والتعريف بالشاعر. وفي امتحان الصف السادس كانت القصيدة عن الشباب وقائلها حافظ إبراهيم، ويتجاور في القاعة تلميذان أحدهما ضخم مهيب اسمه إبراهيم، والآخر صغير البنية. وكلما ابتعد المراقب سأل إبراهيم زميله بصوت خفيض: من الشاعر؟ والزميل يجيب هامسًا: حافظ إبراهيم! وإبراهيم الضخم يكرر السؤال عدة مرات ويأتيه الجواب نفسه! فخرج إبراهيم مغضبًا وظلّ منتظرًا عند الباب كي يفتك بزميله حال خروجه. وعندما خرج الزميل استقبله إبراهيم وسأله باستنكار تقريعي قائلًا: لو كنت حافظًا لما سألتك عن اسم الشاعر! ومن فوره أعلمه زميله المسكين أن جوابه يتضمن اسم الشاعر حافظ إبراهيم وليس سؤالًا عن مقدار حفظك يا إبراهيم! وبهذه النباهة والتوضيح نجى المسكين من غضبة كادت أن تودي به، وحفظه الله من بطش إبراهيم الذي لم يكن حافظًا!

كذلك مما عاصره قدماء الطلبة صعوبة مادة الجغرافيا، وهي مادة لذيذة ظلمت بطريقة عرضها وشرحها، ولو رزقت كثير من المناهج طريقة عرض أحسن لكانت النتائج تتجاوز مجرد المعلومة إلى ما هو أجدى، وعمومًا في المعلمين الكرام قدرة على الإبداع وتحريك الأذهان مهما كان المضمون. المهم أن هذه المادة تحتوي على خرائط كثيرة متشابهة إلى حد الإرباك فوق إرباك الامتحانات، ومن عادة الطلاب إذا خرجوا من يوم اختبارها أن يقف الجريء منهم خارج المدرسة في مقابل شبابيك قاعة اختبار أصدقائه، وينادي بأعلى صوته موضحًا اسم الدولة المسؤول عن خريطتها قائلًا: الجزائر، تركيا، باكستان، وهكذا ثمّ يهرب لا يلوي على شيء كي لا يقع تحت المساءلة لو قبض عليه أسرع الإداريين تعقبًا لصاحب الصوت الجريمة.

أما الأشقاء من التوائم فمما يصعب ملاحظة أيّ حركة منهما لأن صورتهما واحدة والتشابه بينهما كبير، ولربما دخل أحدهما مكان الآخر دون أن يشعر به ممتحن مهما كان يقظًا بصيرًا لماحًا. ومما روي لي عن شقيقين قبل عقود طويلةوعفا الله عما سلفأن أحدهما يجد معاناة في مادة اللغة الإنجليزية، بينما توأمه متمكن منها. وعندما يأتي الامتحان النهائي يكون المتمكن قد ضمن النجاح أو اقترب منه، على عكس الآخر الذي يحتاج لتدخل عاجل وإنعاش ينقذه من السقوط الأكيد، ولذا يكتب كل واحد منهما اسم توأمه على ورقة الإجابة، ولا يستطيع المراقب مهما اجتهد وفحص معرفة سعد من سعيد ليقول: انج سعد فقد هلك سعيد؛ فينجحان معًا دون رسوب أو عثار، وتكررت منهما هذه الطريقة عدة مرات حتى تابا وأنابا.

ومع الزمن تطورت طرق الغش وصارت تتوالد يوميًا حتى لو اجتهدت الجامعات والمدارس في حصار هذه الظاهرة، ومن خبر الغش الحديث للامتحانات عن بُعد أن بعضهم يضع أمامه وخلف جهازه الذي يمتحن من خلاله لوحة عليها أكثر المنهج، وينقل منها دون أن يلتفت كي لا تصيده أجهزة السمع والبصر المثبتة في حاسبه الآلي، وهي دقيقة في التقاط الحركات والهمسات، وتكتم الأنفاس بيد أنها لم تقض على الغش الذي ينفذ أحيانًا عبر تطبيقات التراسل الفوري دون أن يشعر بها البرنامج الرقابي المكلّف بالمتابعة، والمشهور بالتقصي واليقظة وارتفاع منسوب الشك لديه!

كما أن تكرار الأسئلة خلال الفصول الدراسية مما يسهل على الطلبة توقع ما سيأتي والتركيز عليه، وهذه مسؤولية الأساتذة ولا يمكن لوم الطالب وحده على الالتفات إليها. ومما أذكره بهذا الخصوص، أن مادة العقاقير مادة نظرية صعبة غزيرة المعلومات، وأستاذها عربي أمريكي من أهم أساتذة هذا التخصص في العالم حسبما يشاع. وكان هذا البروفيسور يضع أسئلته على هيئة الخيارات المتعددة وفق نمطها الأصعب، فرأس السؤال يتكون من عدة أسطر، والخيارات الأربعة أو الستة التي تحته تقع أيضًا في أسطر غير قليلة، وغايته تصعيب تذكر الأسئلة وتداولها بين الشعب القادمة، ولم يكن أحد من الأساتذة يفعل مثله.

لكن صادف في أحد الفصول أن اتفق طالبان حافظان مجتهدان من اليمن على أن يحفظ الأول رؤوس الأسئلة، ويحفظ الثاني خيارات الإجابة، وبعد الامتحان مباشرة يكتبانها وينشرانها في مكتبات التصوير المجاورة للجامعة وهو ماكان بضبط دقيق. وفي أول فصل بعد هذه الحادثة تفاجأ الأستاذ أن أقل طالب حصل على عشرين من ثلاثين، بينما كانت هذه الدرجة هي الأعلى في السابق، ولم يستطع معرفة السبب، حتى جاءه طالب صغير البنية، يجد متعة وتلذذًا بالإيذاء والتنغيص على زملائه؛ فأوقفه على الحقيقة!

لذلك هاج الأستاذ العالم واضطرب، وفي المحاضرة القادمة أنبأ الطلبة بأنه ألغى الامتحان القديم، وسوف يعيد الاختبار بأسئلة جديدة أشد صعوبة عقابًا لهم على انعدام الجدية والمسؤولية، ولم ينس الأستاذ شكر زميلهم على شفافيته وصراحته، وكم من شكر قاد إلى مأزق! وكاد الزملاء أن يطحنوا ذلكم الزميل لأنه أقدم على فعلته من باب التشفي المنطلق من فكر طائفي فيما ظهر لهم، وقد تدخلت مع آخرين لثني الطلبة عن إحداث مشكلة الجميع في غنى عنها، ونجحنا في ذلك والحمدلله.

ومن طريف ذكريات امتحانات الجامعة ما سمعته أن أحد الأساتذة عقد الامتحان في قاعة صغيرة، والطلبة في تجاور شبه لصيق، ولم يكلّف المدرس نفسه عناء التشديد أو استدعاء مراقب آخر، ووضع الأسئلة على طريقة الخيار المتعدد، وتحديد الصواب من الخطأ. ولأن الوضع بهذه الصورة فقد رتع بعض الطلبة حينما اعتقدوا أن النظام غائب، والخلل قائم، وشرع بعضهم ينقل عن بعض، وبعد أن تسلّم الأستاذ منهم أوراق الإجابات فجعهم بمعلومة مختصرها أن الأسئلة جميعها مختلفة النماذج، وبالتالي فمن غش الجواب من زميله دون أن يجيب من تلقاء نفسه فسيكون مصيره الصفر أو قريبًا منه!

اللهم إنا نعوذ بك من الغش في جميع المجالات، ومن صغيره وكبيره، والعام منه والخاص، وما عرفناه وما لم نعرفه، ونسألك العزيمة على الرشد، والغنيمة من البر، والسلام من كل إثم. ونبتهل إلى ربنا أن يوفق الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات في جميع المراحل لما فيه خير دينهم ودنياهم وبلادهم ومجتمعاتهم، وأن يجعل الحال والمآل إلى خير وخيرة وبركات لا تنقطع، فصلاح التعليم وإصلاحه بوابة كبرى تقود نحو حقيقة التقدم المعنوي والمادي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 15 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443

15 من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)