إدارة وتربية مواسم ومجتمع

دلائل رمضانية قبيل الختام!

Print Friendly, PDF & Email

دلائل رمضانية قبيل الختام!

جرت العادة أن تسبق الكتابة دخول شهر رمضان المبارك أو تواكبه، وفعلت ذلك مرارًا، حتى لو جمعتُ ما دونته لجاء في كتاب لطيف الحجم عن هذا الموسم الميمون والحمدلله. بيد أني هذه المرة أردت إرجاء الكتابة إلى قبيل خواتيم الشهر، سائلًا المولى القبول والعفو، وأن يعيدنا إليه ونحن في خير وحال أحسن على كل صعيد. والحقيقة التي قد لايخالف فيها أحد هي أن عامة البشر يتأثرون كثيرًا حال الاستقبال فرحًا بالضيف، وعند الوداع حزنًا على الفراق، ومن المهم اغتنام هذه الأحوال. وإذا انتهى رمضان فإنه سوف يأتي كرة أخرى مرات ومرات، وسوف تفد معه نفحات الرب الجليل سبحانه؛ لتهب على الأفراد والمجتمعات فتبعث فيها من جديد الروح والطمأنينة والانشراح، والثقة بنصر آتٍ وفوز مبين في الدارين أو في الأخيرة منهما.

إن شهر رمضان المبارك يبقي الإنسان الطائع في دوائر الإسلام والإيمان والإحسان، ويعينه على الثبات فيها، خاصة مع توالي المحاولات الشيطانية لاجتثاث العباد من دوائرهم هذه، وإخراجهم إلى ظلمات من التهاون، والعصيان، والشك، والنفاق، والإلحاد، وكلما شعر أئمة الفساد بأن مطلوبهم الخبيث قد اقترب تحقيقه، وآن الاحتفاء بإنجازه، وفد رمضان بجلاله وهدوءه، فحطم بنيانهم الذي كان على شفا جرف هار، وصيّر الجهود والإفك مثل هباء منثور في يوم رياحه عاصفة، وهذه الميزة الرمضانية تظهر بعبادات بدنية، ومالية، ومشتركة بينهما، وأخرى علانية، وسرية بادية الآثار، ولهذا فرمضان هو شهر القرآن، والانتصار، والصدقات، والمشروعات العظيمة.

ولا غرو أن يفعل رمضان ذلك، ولا عجب أن يفعل الأعداء ما فعلوه! أما رمضان ففيه وقع أعظم حدث وصل بين السماء والأرض، حينما تنزل جبريل عليه السلام بالكتاب العزيز على قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فتغيرت الدنيا من ساعتها، وتحولت البوصلة إلى مكة وجزيرة العرب، وآلت النبوة ومعها الكتاب المقدس إلى غير اليهود الذين اعتادوا على هذه المنزلة العالية وذلكم الشرف الأسنى لأزمنة متطاولة متعاقبة، وصار من نتائج ذلكم الحدث أن خلدت اللغة العربية، وأصبح للأمة تاريخها الخاص، وتقويمها المنفرد.

لأجل هذا، تظافرت كتائب الأعداء، واليهود منهم بموضع مكين، واجتهدوا على تنغيص هذا الموسم وتلكم الفريضة، وما يراه الناس كل سنة من قديم الزمان هو من قبيل هذا المكر الكبار الذي يحاول زحزحة رمضان عن معانيه، وإزاحتها كلها أو بعضها، وقصرها على أشكال فارغة من المضمون أو غلبه، وصرفها إلى نواح اجتماعية، ومطبخية، وفنية، وغير ذلك من اللهو المباح والمستباح، ولا يظنن ظان أنه أعقل الخلق حين يصم هذا الرأي بأنه نتاج التأثر بالمؤامرة؛ فالمؤامرة موجودة بمجرد سعي الناس لتحقيق مصالحهم، وفي مصالح الفرقاء ما يستوجب الإضرار بالأطراف الأخرى سواء أكان الضرر مرادًا لذاته أو أتى بالتبع.

لكن مع ذلك تظل الأمة بمجموعها صامدة، وأظهر ما يكون صمودها في شهر رمضان الطيب، حين يتقاطر الناس على المساجد للصلاة والذكر، ويزدحم الشباب في أماكنهم بالمساجد حتى تمتلئ بهم المناطق المجاورة للجوامع والمساجد، ويغطى سواد الحرائر العفيفات الشوارع وهن في صفوف متراصة وبحشمة شبه تامة، والكافة ينصتون لكتاب ربهم يتلى بتحبير، وهو الكتاب الذي نزل في رمضان، وحفظ بأمر الله الحفيظ، وهو الكتاب الذي نزع عن يهود مقامهم الرفيع، وفضح اليهود والمنافقين والمفسدين حتى باتت الشخصية اليهودية، وطبائع النفاق، وسمات المفسدين، واضحة للمتدبر بتتبع آي الكتاب العزيز.

كما أن هذا الشهر الجليل يمتاز باجتذابه للعباد والمنفقين والمصلحين في أول الشهر بمناسبة حرارة الاستقبال، وفي آخره بسبب قرب الانقضاء والوداع، بل إنه في آخره يمنح الموفق طاقة إيمانية تعينه على المضاء بقية عامه، وتعيده للجادة مهما حاد عنها، ويتأتى هذا الحال من الابتهال والتأله في ليالي العشر الأخيرة، وتحري ليلة القدر، واهتبال فرصة ساعات تضيق الأرض من كثرة ملائكة الرحمن عليها، ومعهم جبريل الروح الأمين الذي لم ينزل للأرض بعد وفاة النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام إلّا في تلك الليلة التي هي خير من ألف شهر، ويالها من ليلة تزيد في حب المسلم لربه ونبيه ودينه، وتؤكد له أن الله يحب التواب، ويفرح بالمنيب، وأن المغبون حقًا، وراغم الأنف صدقًا، هو من عبر به الشهر فلم يغفر له.

ثمّ حين يشارف رمضان على الوداع والنهاية، يلقي في روع كل مسلم أهمية الجماعة والاجتماع والمجتمع، فقد تساوى الناس في الفطر والصيام وأحكامهما، وتشابهوا في شؤون رمضانية كثيرة، وزاد جود الأثرياء وعطفهم، وتكررت فرص الاجتماع في الحرمين والجوامع والموائد والأسر. وقبيل النهاية الحتمية يلتفت القادر إلى العاجز كي يعطيه ويطعمه من زكاة الفطر، وبعد انقضاء الشهر تشرق الوجوه ببسمة العيد، ويفرح المؤمنون بيومهم السعيد بعد إكمال الطاعات، وبعد أن نالوا الفرحة الروحانية البالغة يومًا وراء يوم إبان شهر كامل منصرم على مائدة الإفطار، وحين يمضي رمضان يربط الناس ذكرياتهم وأحداثهم به قائلين: في رمضان، أو قبل رمضان وبعده، والارتباط الوثيق لا يكون إلّا مع محبوب مودته ثابتة ثبات الأصابع في الراحتين.

إنه شهر عظيم، يبين عن قدراتنا في التعبد وتنظيم الوقت، ويثبت أن الخلاص من الأخطاء أو تقليلها من الممكن المتاح، ويزرع في وجدان المسلم، وقلبه، وعقله، ذلكم الشعور العظيم الذي لا يباع ولا يشترى، ولا يمنح ولا ينزع، ولبابه أن الله قد اختص المسلم بدين قويم عريق مرتضى من الرحمن، وجعل عبده وأمَتَه فردًا واحدًا من أمة مسلمة لها جموع سبقت، وأعداد سلفت، مع آخرين يعاصرهم، وقادمين سيخلفونه، وهذا التعاقب والتزامن يشعره بالمسؤولية والسعادة، لأنه سيتضرع بالدعاء للذين سبقوه بالإيمان ولمعاصريه، وسوف يتلوه مؤمنون أوفياء يدعون له، فاللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ووفق من يحلّ بعدنا في هذه الدنيا لما تحب وترضى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 29  من شهرِ رمضان عام 1445

08 من شهر إبريل عام 2024م

Please follow and like us:

One Comment

  1. جزاك الله خيرا على انزال مقالتكم عن قدوم العيد السعيد ، فانا واحدة من قراءك المتتبعين لمقالاتك بقيمها واهدافءها ، وكنت بفارغ الصبر انتظر ما سيجود به قلمك هذه السنة عن استقبال العيد كما عودت عودتنا ، فلك الشكر الجزيل على ادخال الفرحة على قلوبنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)