سير وأعلام

عمر بالسد: نشأة بين قرآن ومسجد

Print Friendly, PDF & Email

عمر بالسد: نشأة بين قرآن ومسجد

من رحمة الله أن جعل ساحات العمل رحبة تتسع لكل مخلص حتى لو لم يكن ذا منصب كبير أو مال كثير أو سلطة قوية، فالتأثير هدف متاح للناس كافة ولو أن يقي المرء نفسه وأهله نارًا وقودها الناس والحجارة، وبعد أن يفعل الإنسان الصالح ذلك فلربما وسعه أن يكون مصلحًا مباركًا حيثما كان غير جبّار ولا شقي، ويستوي بعد ذلك إن عرفه الناس أو جهلوه، إذ يكفي علم الله سبحانه به، وإنه لشرف عظيم أن ينال المرء محبة الله، ويفوز منه بالقبول. ‏

ثمّ رحم الله زميلنا الأستاذ الشيخ عمر بن صالح بالسد الذي وافته منيته يوم أمس الخميس بعد أن أصيب بوباء كورونا، وجبر مصاب أهله، وحفظ عقبه وآله، وجعل معاناته تكفيرًا ورفعة في درجاته، وعوضه عن شبابه المنازل الرفيعة في الجنان العالية. وقد تزاملنا لمدة عامين؛ وأشهد له فيهما كما شهد غيري بالإنجاز، والانضباط، والابتسامة الدائمة، وعفة اللسان، والسكون مع الحياء في ممشاه وحديثه ونقاشه.

ويبدو أن سر هذه الفضائل الجمة يرجع إلى صلة أبي عمار الوثيقة مع القرآن الكريم حافظًا ومعلمًا وخادمًا لطلابه ومعلميه وحلقاته وجميع شؤونه، إضافة إلى الارتباط بالمساجد والمكوث فيها، وإدامة الذكر مع الحفاظ على الورد القرآني اليومي، واستثمار كل دقيقة في التأله، وأرجو الله أن يصدق عليه وصف الرجل الذي تعلّق قلبه بالمساجد، وصفة الشاب الناشئ في طاعة الله، والله يجعله تحت ظلال عرشه يوم القيامة، ويكرمه بأجر الشهيد الذي مات بالوباء.

كما شهد العارفون للشيخ عمر بأنه بار بوالديه ويقدمهما على أيّ شيء وهذا من الفهم والوفاء الذي حُرم منه البعض، وأيضًا صدعوا بذكر مواقفه التربوية، وأثنوا على متابعته الدقيقة لطلابه، وحرصه على الطاعات من صلاة وصيام وقيام وحج وعمرة، والسعي لقضاء حوائج ذوي الحاجات التي يفوق فضلها الاعتكاف في المسجد شهرًا، وخدمته لأهل القرآن حتى في ملابس العيد، وتوقيره للنعمة فلا يبقى في حضرته طعام زائد فالمناسب منه يذهب لمستحقه، وغيره يضعه بنفسه للحيوانات، وهو في الحضر خدوم بصمت، وفي السفر بسوم غير نكِد، وفي كلا الحالين رفيق أمين حيي غير مخالف.

هكذا كان عمر في مجتمعه قائدًا ومؤثرًا بما وهبه الله من جلد وهمة، وقدرة على التحمل وصبر على الأداء ولو كثرت المهام وتنوعت، وعاش في وظيفته ولجانه بصفة التنفيذ والتقييد بضبط وإتقان، فإذا انفتل من موضع رزقه إلى بيته أصبح الابن البار، والزوج والأب الحنون، وفي المحاضن المباركة يصير هو الشيخ الحافظ المربي، والإداري الذي مزج الحزم بالحلم، وأدى أمانة التربية والتزكية لتكون علاقة الأجيال مع القرآن الكريم على أمتن ما يمكن، وفي ذلكم النجاة والأمن والإيمان.

وحين ارتحل صاحبنا عن دنيا الناس إلى برزخه، هبت جموع الناس تثني عليه، وتحيي مآثره ومناقبه، ولو جُمعت كلماتهم لصارت عدّة صفحات مكسوة بالصدق، خالية من التصنع والتكسب، وهم شهود الله في أرضه، وأقوالهم من عاجل البشرى للراحل والسلوان لأسرته، ويا له من سر في الملأ الأعلى لا يعلم حقيقته إلّا الله، فكم من مبذر للأموال فلا ينال غير النكال والخزي، وكم من غافل تتواتر عليه التزكيات دون أن يطلبها فضلًا عن أن يضيع لأجلها الجهود والأموال.

فانتقل بذلك أبو عمار من إنسان خفي في الحياة إلى وسم عاطر يجوب مواقع التواصل الاجتماعي فيزينها ويهب لها الحياة والبهاء، ويقدم المثال الجميل على شبيبة هذه الامة، وعلى أخلاقهم القرآنية، وطباعهم الأصيلة، ويغدو هذا الرجل معروفًا حتى لدى آخرين تفصل بينه وبينهم مسافات وأزمان، وإنما هو شعور الجسد الواحد، وترابط الأمة التي تعلم يقينًا أن دينها وتاريخها ومصالحها واحدة مهما كان الواقع محزنًا، ولعله أن يصير للآخرين قدوة له من الأجر والثواب مثل مالهم حتى تقوم الساعة، وذلك فضل الله على الإنسان بتخليد عمله الصالح وجعله للمتقين إمامًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 20 من شهرِ شوال عام 1441

12 من شهر يونيو عام 2020م  

Please follow and like us:

4 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاك الله خيرا . الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . بكتابتك عن المرحوم الاستاذعمر بن صالح بالسد لقد وفيت حق الزمالة لصاحبك . جعل مثواه الجنة . ولااهله الصبر والسلوان . نسال الله العلي القدير ان يبارك له في اولاده وذريته . فهنيئا لعائلته اما وابا وزوجة واولادا على مثل هذا الانسان . كثر الله من امثاله

  2. جزاك الله خيرا ايها النبيل الوفي نحسبك وجعل الله هذه الاداه التي تضمنتها اصابعك سببا لدخولك بحبوحة الجنان بعد عمر مديد وعمل صالح رشيد ورحم الله المعلم عمر وجعل مرتحله بحبوحة الفردوس والهم اهله ومحبيه الصبر والاحتساب والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون. هي الدنيا…لاتبقي عزيزا..ولا يدوم على حال لها احد..اسأل من لا يخيب سائله ان يغمر بالرحمات روحه وان يعمر بالمكرمات منازله وان يجبر الكسر في فقده ويخلف على اهله وولده بخير الخلف فهو المرجو سبحانه وعليه المعتمد…اللهم آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)