سير وأعلام قراءة وكتابة

نغوجي واثيونغو: مناضل باللغة والكتابة!

Print Friendly, PDF & Email

نغوجي واثيونغو: مناضل باللغة والكتابة!

حكاية هذا الكاتب الإفريقي الكيني في أساس منشئها لا تختلف عن أمثاله من كتّاب ينتمون لحضارات وثقافات أخرى وقعت تحت جحيم الاحتلال الغربي إبان القرون القريبة الماضية، ومع الاستقلال الصوري أو الناقص لكثير منها؛ إلّا أن هيمنة المحتل باقية، ومن أجلى آثارها ما يُلاحظ في حقول معرفية وثقافية وتعليمية، تأتي اللغة، والكتابة، والأدب، والمفاهيم الفكرية على رأسها، وهو الأمر الذي عانى منه كاتبنا وشعبه، حتى استيقظ الرجل، وشارك مع رفقائه في نضال طويل مرير انتصارًا لوطنهم وعرقهم وإقليمهم ولغتهم.

ولد كاتبنا نغوجي -أو نغويي- واثيونغو في إحدى قرى كينيا سنة (1938م)، وقد عُمّد باسم “جِمس” حسب تقاليد الكنيسة التي “تبارك” المواليد بمنحهم أسماء القديسين، وهو الاسم الذي تخلّى عنه صاحبنا فيما بعد إمعانًا في التحرر والعتق من أغلال المحتل؛ فالتسمية ذات أثر على المسمى، ولو بمجرد الاحتفاظ باسم له حمولته الثقافية، ودلالته الفكرية؛ وإنه لغلّ مؤذٍ، وقيد جدير بالكسر.

ثمّ أكمل دراسته، ونال شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية من جامعة كمبالا عاصمة أوغندا، ويبدو أن نبوغه الأدبي تزامن مع مرحلة الدراسة الجامعية، إذ عرضت عام (1962م) مسرحية له بعنوان “الناسك الأسود”. وأكمل دراسته العليا في جامعة “لِدز” البريطانية، ونشر إبان دراسته عام (1964م) روايته الأولى بعنوان: “لا تنتحب يا طفلي”، وهي أول رواية تنشر لكاتب من شرق إفريقيا باللغة الإنجليزية لغة المحتل للبلاد وثقافتها!

عقب ذلك نشر روايته الثانية بعنوان ” النهر الذي بينهم” وفيها يحكي عن تمرد قبائل “ماوماو” الإفريقية ضد العدوان الإنجليزي، وأصبحت هذه الرواية فيما بعد ضمن مناهج الدراسة الثانوية في كينيا. ولروايته التالية “حبة قمح” أهمية فكرية إذ تشير إلى تعلّقه بأفكار “فرانز فانون” صاحب الكتاب المؤثر “المعذبون في الأرض”؛ ولذلك لم يكن غريبًا بعدها أن يقطع الكاتب الغيور الصلة بكل ما يربطه مع الاحتلال البريطاني من لغة واسم وثقافة، وشرع يكتب بلغات إفريقية محلية مثل لغة كيكيو، واللغة السواحلية.

وعندما أصبح أستاذًا في جامعة نيروبي كتب عمله المسرحي “سأتزوج عندما أرغب” عام (1977م) وضمنه رسائل سياسية واضحة، فأثارت كلماته ورسائله نائب الرئيس الكيني “دانيِل أرابموي”، الذي أمر بالزج بالكاتب في سجن خاضع لحراسة مشددة صارمة القيود؛ حتى أن “نغوجي” أفصح عن عنف سجانه فيما بعد، ومع ذلك تمكن من الكتابة داخل السجن على ورق المرحاض، وذكر من المفارقات أنه ورق خشن يؤلم الجسد؛ لكنه يشفي الروح ويداوي جراح النفس بالكتابة! وكان سجنه قرارًا صادمًا ومستهجنًا ضجت منه الصحف العالمية، وحدثت لأجله احتجاجات دولية، وعدته منظمة العفو الدولية سجين ضمير، ولم يفرج عنه إلّا على إثر وفاة الرئيس الكيني عام (1978م).

وبعد إطلاق سراحه، فصل من عمله الجامعي، ولم يكن أمامه من سبيل سوى العيش في المنفى مع أسرته التي تعرضت لمضايقات حكومية فجة خلال سجنه. وعاش الكاتب والأستاذ الجامعي في منفاه مدة تتجاوز العقدين من السنوات حتى عاد إلى بلاده بعد إزاحة الحكم الدكتاتوري فيها عام (2004م)، وحظي باستقبال شعبي لافت تقديرًا لأعماله الكتابية في أبواب الرواية، والقصة القصيرة، والمقالة، التي عالج فيها موضوعات عدة تشمل النقد الاجتماعي، والأنثروبولوجيا الثقافية، وأدب الأطفال، ولم ينقص من بهجة ذلكم الاحتفاء محاولة بعض الأطراف تنغيص تلك الفرحة بالاعتداء الجسدي عليه، بل إنه قلب عليهم الكدر بتصريحه قائلًا: لا أحد يسجن الآن في بلادي لاختلافه مع الحكومة، ولا أحد يتعرض للقتل، أو النفي، أو تتعرض أسرته لأي مضايقة.

وقد عمل منذ عام (1992م) أستاذًا للأدب المقارن، واللغة الإنجليزية، ودراسات الأداء، في جامعة نيويورك، ثمّ مديرًا للمركز العالمي للكتابة والترجمة بجامعة كاليفورنيا، وله تاريخ عملي في جامعات كبرى مثل جامعة “يل” وغيرها. وفي السنوات الأخيرة نشر سيرته الذاتية في عملين أولهما عام (2010م) بعنوان “أحلام في زمن الحرب: مذكرات طفل”، والثاني بعنوان: “في بيت مفسر الأحلام: مذكرات” الذي أصدره عام (2012م)، وعسى أن يترجما قريبًا للعربية مع أعماله التي لم تترجم حتى الآن فيما أعلم، ومنها كتاب يومياته الذي ألفه وهو سجين في بلاده.

كما أن لكاتبنا عدة مؤلفات ما بين قصص، ومسرحيات، وروايات، وبعضها كتب تعبر عن مشروعه الفكري النضالي الضخم المنطلق من اللغة والثقافة المحلية، والمعتمد على الكتابة الأدبية، وهي كتب جمعت أشتات محاضراته وأوراقه العلمية التي شارك فيها بمؤتمرات وجامعات وملتقيات، ثمّ أعاد نشرها في ثلاثة كتب أحدها عن تصفية العقل من آثار الاستعمار، والثاني حول الكاتب والسياسة، والثالث يتضمن مسائل جدلية معرفية أفرزتها العولمة، ومن فضل الله أني كتبت عن هذه الكتب المهمة.

كذلك له قصة قصيرة كلماتها لا تتجاوز (2200)كلمة وعنوانها: “”ثورة الاستقامة”، أو “كيف يمشي الإنسان منتصبًا”، وهي قصة كتب لها الذيوع والانتشار، ولذلك ترجمت إلى (63) لغة منها (47) لغة إفريقية محلية بجهود من كتّاب ومترجمين أفارقة، وهي أكثر قصة إفريقية من حيث عدد الترجمات في تاريخ الأدب الإفريقي، الأمر الذي جلب الحبور لكاتبنا الكيني أكثر من فوزه بجائزة الكتاب الأفارقة عام (2013م)، وأكثر من الترشيحات المتوالية له لنيل جائزة نوبل، وهو الترشيح الذي جعل الصحافة تتجمهر أمام منزله لالتقاط الصور له حال الإعلان؛ بيد أنهم يصابون بخيبة أمل من ذهاب الجائزة لغيره، فيحاول تعزيتهم هو وزوجته بالجلوس معهم، وشرب القهوة الصباحية معهم.

ولهذا الكاتب اعتزاز كبير بطبيعة مجتمعه وعاداتهم، ومن ذلك أنه حينما سألته صحيفة أمريكية مستغربة عن وصفه لزوجات والده بأنهن أمهاته الأربع، أجابها بأن الأسرة الغربية تعيش في طلاق حتى وإن جمعها سقف واحد، بينما الثقافة الإفريقية تعلي من شأن الأسرة، ولذلك عاشت زوجات والده في بيوت متجاورة، وكان الفناء المقابل لهذه البيوت أشبه بالفردوس المدهش للأطفال؛ لنهم يجتمعون ويلعبون مع بعضهم دون حاجة للبحث عن رفاق، وبلا إحساس بالجوع إذ حينما تخرج أيّ زوجة من الزوجات الأربع تطعمهم جميعًا بغض النظر عن كونهم أطفالًا لها أم لا.

أما الإنتاج الكتابي الضخم والثري لهذا الكاتب، فيمكن أن نستخلص منه عدة كلمات ملهمة ومؤثرة مثل:

  1. إن القدرة على قراءة أدبك المحلي بلغتك الاصلية يمنحك قوة.
  2. نحن قادرون على إحداث تغيير في مستقبل مجتمعاتنا.
  3. أنا محارب من أجل اللغات المهمشة.
  4. للأفارقة الحق في أن تكتب نتاجاتهم الثقافية بلغاتهم الأصلية مثل غيرهم في أوروبا وأمريكا.
  5. الترجمة أداة مهمة لتمكين مختلف الثقافات أن تستعير الأفكار من بعضها.
  6. بالنسبة للكاتب، فإنه من الصعب عليه جدًا ألا يسمح له بالكتابة.
  7. الديكتاتورية في بعض الأحيان مأساة تتجلى في شكل كوميديا.
  8. لدي اهتمام متواصل بجماليات التحرر من الاستعمار.
  9. أقول إن مهمتي بلا شك واضحة؛ فأنا مناضل ضد تطبيع غير الطبيعي… أقول ذلك وسلاحي هو الكلمة المكتوبة.
  10. في الغزو الاستعماري، تفعل اللغة بالعقل ما يفعله السيف بجثث المستعمَرين.
  11. إذا كنت تفهم جميع لغات العالم ولكنك تجهل لغتك الأم، فهذا هو الاسترقاق، بينما معرفة لغتك الأم وجميع اللغات الأخرى أيضاً هو التمكين.
  12. كتابة الرواية ساعدتني على فهم أفضل للقوى الكامنة في العولمة أكثر مما ساعدتني تحليلاتي الواعية للظاهرة نفسها.
  13. كانت أسئلة الهوية تغلي برأسي مع مزيج من الأدب الإنجليزي ووعي بآداب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مما جعلني غير منسجم مع اللحظة التي أعقبت الاستعمار.
  14. اللغة مركزية في معرفة الشعب لذاته وعلاقته بالبيئة؛ ولذلك ظلت اللغة مركز الصراع بين القوى المتحكمة بالقارة.
  15. من الاغتراب أن يرى المرء نفسه من خارجها، ويدرس التاريخ والجغرافيا من وجهة نظر المحتل الذي جعل بلاده مركز الكون.
  16. إن استمرارنا في الكتابة بلغات أجنبية يديم فينا الروح الخانعة للاحتلال، الراضية بالاسترقاق.
  17. إن التحرير القومي للأفراد ينبثق من إعادة الشخصية التاريخية لهم، ومن حتمية نبذ أيّ نظام تعليمي أو ديني يديره المحتل أو يتبع له؛ لأنه يؤدي إلى ممارسة نكران الذات المؤذية لأصحابها.
  18. إن الافتتان بلغات الآخرين لدرجة رؤية اللغات المحلية على أنها تحول دون التنمية تغريب متطرف يدل على مرض في العقل؛ فليس بوسع أجنبي مهما بلغت قدراته أن يطور لغاتنا.
  19. إن حديث المرء بغير لغته أشبه بالعيش في المنفى.
  20. لا يمكن لشعب تطوير ثقافته تحت أيّ شكل من أشكال الهيمنة الأجنبية.

آخر القول هو أني أدعو الزملاء من الكتّاب والكاتبات إلى قراءة إرث هذا الرجل وأضرابه من ذوي النخوة والاعتزاز، الذين تعالوا على الخنوع، ورفضوا الخنوع، ولم يرضخوا لأيّ انكسار، أو يصابوا بهزائم نفسية داخلية؛ فما لدينا يتجاوز في عظمته وقيمته ما لدى الآخرين ذوي الحضور الطاغي بسبب القوة والضغط الإعلامي وأدوات العولمة، فإن لم يكن قدره كذلك لدى البعض؛ فلا أقل من أن ننهض به كي ينافس ويواكب ويسابق، ويغدو الأصل والقدوة، وإنه لأمر غير عسير حتى وإن لم يكن سهلًا أو يسيرًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الكويت

ahmalassaf@

السبت 13من شهرِ رجب عام 1444

04 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)