عرض كتاب قراءة وكتابة لغة وأدب

تصفية استعمار العقل

Print Friendly, PDF & Email

تصفية استعمار العقل

كأني أقرأ للأستاذ محمود محمد شاكر عندما نظرت في هذا الكتاب، ولا غرو ففكرته ومنهج المؤلف تنطلق من الذود عن اللغة والأدب والثقافة، والدعوة لتنقيتها من الزيف والخطل الذي لحق بها من المحتل وأدواته الحقيقية والاعتبارية، مع مركزية العمل على استرجاع الاعتزاز بها، والحث على الالتصاق معها والتقارب إليها، والتحرر من اتخاذ الغربي المثال المحتذى، والنموذج الأوحد، والإطار الذي لا يسوغ الخروج عنه. وللمؤلف كتاب آخر عن الكتّاب والسياسة، وكتاب ثالث حول العولمة، وكلاهما يصبان في مشروعه النضالي باللغة والثقافة والكتابة.

عنوان هذا الكتاب: تصفية استعمار العقل، تأليف: نغوجي واثيونغو، ترجمة: سعدي يوسف، وهذه الطبعة جديدة منقحة تقع في (199) صفحة، صادرة عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر بدمشق عام (2011م) وإن لم يحدد رقمها، وفي مستهلها تفويض من المترجم للدار ويبدو أن لغة التفويض لم تراجع لشدة ركاكتها. وقد أهدى المؤلف الكيني كتابه لكل الذين يكتبون باللغات الإفريقية، ولكل الذين صانوا الكنوز الأدبية والثقافية التي حملتها اللغات الإفريقية.

يتكون الكتاب من ملحوظات فمستهل وبيان يتلوهما مقدمة، ثم تأتي أربعة فصول أغفل الفهرس ثالثها، فالأول عن لغة الأدب الإفريقي، والثاني عن لغة المسرح الإفريقي، والثالث عن لغة القصة الإفريقية، وعنوان الرابع بحثًا عن الصلة الوثقى. ويحكي الكتاب بمجمله أثر الاحتلال ووكلائه في القهر والتجهيل والإزراء بالثقافة المحلية، وإعلاء ثقافة المحتل، وما يتصل بها من لغة وأدب وشهادات ومؤلفات وكتّاب، حتى غدت الإنجليزية الوصفة الرسمية والسحرية للنخبة، وغاب تراث إفريقيا في ديارها فضلًا عن العالم؛ مع أن لدى هذه القارة شيء تقدمه للعالم.

ومن المحزن وصف العقاب الجسدي والنفسي الشديد لكل تلميذ يتحدث بلغته المحلية في المدرسة! وفي الكتاب استجلاء لسلوك الأتباع المنهزمين، الذين سحقوا حضارتهم ونفوسهم تحت أقدام الأجنبي؛ فعاشوا بمهانة ومذلة وإن بدا أنهم في رفعة أو عزة. ويفضح الكاتب أمثلة من ساسة الأفارقة وكتّابهم الخانعين الدائرين في فلك الأجنبي، ويوضح كيف أُبرزوا على أنهم في الصدارة وموضع الاقتداء، حتى أصبح الحديث بلغة إفريقية محلية فعلة شاذة، مما يبين المدى الذي قطعه الاحتلال في تشويه الحقائق الإفريقية، بل صارت الكتابة باللغات الإفريقية عملًا من أعمال التخريب والخيانة التي قد يحكم على مرتكبها بالسجن من قبل حكومات إفريقية الوجه والملامح؛ بيد أنها غربية القلب والهوى والتبعية.

وهذا الكتاب عبارة عن دمج وتطوير لتسع مشاركات للمؤلف في مؤتمرات جامعية وأدبية تعنى بلغة الأدب الإفريقي، وقد أقيمت هذه المناسبات في القارة أو خارجها على مدى سنوات غليان الفكرة التحررية انطلاقًا من المجال الثقافي والأدبي بالقارة السمراء. وسوف أذكر هنا أهم الفوائد المتعلقة بالكتابة واللغة والتحرر الثقافي من التبعية للمحتل المفسد المعبر عنه بالمستعمر جريًا مع السائد المشتهر؛ وهو على التحقيق مخرب مبير، فمن هذه الفوائد:

  1. بين الكاتب والجراح أمر مشترك وهو الشغف بالحقيقة.
  2. استمددت من أبناء وطني المناضلين قوتي على كتابة المحاضرات والكتب.
  3. العمل الإبداعي الأدبي ليس نتاج عبقرية فردية وإنما هو جهد جمعي.
  4. تشكل تفكيري بصورة حاسمة تحت تأثير العمل الجماعي والمناقشات مع أساتذة قسم الأدب بجامعة نيروبي وطلبته.
  5. استخدم الاحتلال قنبلة ثقافية غايتها إبادة إيمان شعبنا بأسمائه ولغاته وبيئته وإرثه النضالي ووحدته؛ أي إبادة إيمان الشعب بنفسه.
  6. اللغة مركزية في معرفة الشعب لذاته وعلاقته بالبيئة ولذلك ظلت اللغة مركز الصراع بين القوى المتحكمة بالقارة.
  7. لم نسأل أنفسنا: كيف نستطيع إغناء لغاتنا؟ ولم لا نقيم نصبًا أدبية بها؟ وأين نحن عن أعماقها الفلسفية ومجالاتها الواسعة للأفكار؟
  8. كانت الرصاصة أداة لإخضاع الجسد، واللغة أداة لإخضاع الروح؛ فالمدفع يرغم الجسد، والمدرسة تدهش الروح!
  9. تحمل اللغة قوة إيحائية وراء المعنى المباشر والمعجمي.
  10. اللغة لها طبيعة مزدوجة: إنها وسيلة اتصال، وحاملة ثقافة في آن.
  11. من الاغتراب أن يرى المرء نفسه من خارجها، ويدرس التاريخ والجغرافيا من وجهة نظر المحتل الذي جعل بلاده مركز الكون.
  12. إن استمرارنا في الكتابة بلغات أجنبية يديم فينا الروح الخانعة للاحتلال، الراضية بالاسترقاق.
  13. إن هروب المرء من نفسه طريقة عاجزة في التعامل مع القلق.
  14. ساهم المسرح في زيادة المحتوى القومي المعادي للاحتلال؛ فالمسرح الجيد هو الذي يقف إلى جوار الشعب.
  15. استخدام الإنجليزية يزعجني على الدوام خاصة في المسرح والرواية.
  16. دمرت الدولة مسرح كاميريثو لكنه أصبح مثل الفكرة التي لا تقتل، وغدا مزارًا ثوريًا. ومع أن هذا المسرح أدى إلى سجني ومنعي من التدريس، ثم قادتي إلى المنفى، إلّا أنه جعلني بوصفي كاتبًا أواجه بقوة مسألة اللغة في المسرح الإفريقي.
  17. وجود غرفة للكاتب ضرورة مطلقة كما تقول فرحيينا وولف، وقد هيأت حكومة كينيا لي هذه الغرفة بالسجن!
  18. كان سجني عقابًا ومحاولة لإبعادي عن الشعب وقطع صلتي به.
  19. حذرني مراقب السحن وهو رجل شديد القسوة من أيّ محاولة للكتابة.
  20. جميع المطبوعات المأذون بها تحت حكم الاحتلال ووكلائه كانت تتحاشى إيقاظ الوعي ورفع ثقة الشعب بنفسه وثقافته.
  21. قررت في السجن أن أكتب رواية باللغة التي كانت سببًا في حبسي!
  22. ليس لدى الكتّاب الكينيين من بديل سوى العودة إلى الجذور وإلى منابع وجودهم إن أرادوا أن يرتفعوا إلى مستوى التحدي العظيم.
  23. اغترفت في الكتابة اغترافًا من معين السرد الشفاهي، ولاحظت تقبل عامة الناس للاستطراد، والسرد داخل السرد، والتصوير الدرامي، دون فقدان الخيط الرئيسي للحكاية.
  24. الزواج السليم بين المضمون والشكل هو الذي يقرر التلقي الذي تحظى به الرواية.
  25. يتأثر تناول الكاتب للواقع بنظرته الأساسية إلى الطبيعة والمجتمع ومنهجه في تفحصهما.
  26. يتأثر تناول الكاتب للواقع بوضعه وموقفه الطبقي.
  27. إن تقليد التلقي الجمعي للفن يسرع في المتعة الجمالية، ويستثير التفسيرات والتعليقات والنقاشات.
  28. إن السيطرة الاقتصادية والسياسية على شعب ما لا بمكن أن تكتمل دون سيطرة ثقافية.
  29. التراث الشفاهي يضج بالحياة والطاقة.
  30. الأدب أداة قوية في صياغة الروح الثقافية للشعب.

إن هذا الكتاب يعلّم النضال الثقافي، ويضع منهاجًا للغة هذا النضال كي يقتبس منها كل ذي قضية أيًا كانت، ويؤكد بأن النضال يصنع التاريخ، فلا مناص -والحال هذه- من تقديم مثال عالمي للمظلومين، وأصحاب القضايا العادلة. وفيه إظهار لقيمة التعليم الأدب الثقافة في صناعة التصور، وتفتيح الأذهان، وتحريك الجهود، وبثّ الأفكار السليمة في التغيير للأحسن، والمحافظة على الأصول، واسترداد الحقوق، والإبقاء على جذوة الثقة والعزة والكرامة، وكم في تراث إفريقيا المنفصل عن الاحتلال وثقافته من كنوز نتمنى أن تتوجه إليها جهود المترجمين ودور النشر حتى لا تنحصر الترجمة في أسر لغات بلدان الاحتلال والاستكبار.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 29 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

22 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

  1. أحببت إرسال هذه الرسالة لشكركم أستاذ أحمد على هذا المحتوى الراقي الذي يختزنه موقعكم،
    قرأت لكم بالأمس إطلالتكم على كتاب: رسائل الأمير
    واليوم إطلالتكم على كتاب: تصفية استعمار العقل،
    وكلا الإطلالتين ضافية أخاذة تُخرج الكتاب كما لم يكن ليخرج لو ظل يخنقه ركام الكتب التي تحتف به من كل جانب، بوركتم وبورك جهدكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)