سير وأعلام

إبراهيم المفلح: طبيب أخذ الكتاب بقوة!

Print Friendly, PDF & Email

إبراهيم المفلح: طبيب أخذ الكتاب بقوة!

لا أعرف الأستاذ الدكتور إبراهيم بن عبدالكريم المفلح (1361-1435)؛ لكني عشت مع بعض طلبته وزملائه ما كانوا يقاسونه بعدما انتشر خبر إصابته بالمرض، ثمّ على إثر حلول مصيبة الموت بأستاذهم الأثير عندهم. وفيما بعد قابلت بعض أنجاله وثماره مقابلة عابرة لكنها ذات دلالة، فمن مجموع الأمرين أكاد أجزم بأني أمام شخصية طيبة مباركة في نفسها، وقدوة في مشوارها وسمتها، ومؤثرة في الأبناء والطلاب، ومضيفة إلى العلوم التي برع فيها، والأعمال التي لها نصيب فيها؛ فصاحبها ممن أخذ الكتاب بقوة تعبدًا وتعاملًا، تعلمًا وتعليمًا، تطبيقًا واعتزازًا.

نشأ المفلح على الطاعة والصلاح منذ بواكير حياته، فتجاوز ميعة الصبا بلا طيش، وأمضى غرارات الشباب دون متابعة الغرور، وقضى فتوة السنوات بما يرضي رب الأرضين والسموات، وعسى أن ينال منقبة الشاب الناشئ في طاعة الله، فيستظلّ تحت عرش الرحمن الرحيم يوم تقترب الشمس من الخلائق قيد رمح. وأكبّ الشاب الصالح على المصحف الشريف تلاوة وحفظًا وتدبرًا حتى جمعه وأتقنه، ونال الإجازة القرآنية المباركة، وأطال القيام به منفردًا أو إمامًا، وزاد من التلاوة والطاعات في رمضان وعشره الأواخر، وفي عشر ذي الحجة، وأدركه التأثر والخشوع من معاني آيات الكتاب العزيز سواء كان يصلي صلاة جهر أم إسرار، وإنّ كلام ربنا إذا خالط القلوب حركها، وأجرى فيها ماء الحياة والحياء والخشية.

وكان له ورد يومي من القرآن الكريم والأذكار الطرفية آناء الليل والنهار، ولأجلها أطال المكوث في المساجد عقب الصلوات التي اعتاد من يصليها على المسارعة عقب السلام منها إلى الفراش، والبحث عن لذيذ الرقاد مع نسمات برد الصباح، أو تذوق طعم الغفوة القصيرة قبيل غروب شمس الأصيل؛ بيد أن الرجل ضبط نفسه، وألزمها بالصراط المستقيم كي لا تتفلت عما اختطه لها من مسار في العبادة والتأله؛ ذلكم المسار الذي لم يكن سببًا في تأخير أعماله، أو تقليل عطائه فيها، ولم يجعله مسوغًا يخادع به نفسه كما هو ديدن آخرين.

فمن ذلك أنه يخرج من المسجد بعد نهاية جلسة الإشراق وركعاتها، ويمشي إلى كلية الطب والمستشفى الجامعي، ويشارك يوميًا في الجلسات الصباحية مع أطباء الامتياز، والأطباء المقيمين، وغيرهم من طاقم قسم الباطنة وأمراض الجهاز الهضمي، وكم كان لحضوره المتمكن من قوة علمية، وسطوة في التخصص؛ صيّرت المشاركين في اجتماع الصباح يحسبون حساب نقاشه، وأسئلته، ويستعدون ويحتشدون؛ لأن أمامهم أستاذًا يرى أخذ الكتاب بقوة واجبًا عليه في مصلاه ومع مصحفه، وبين طلابه ومع مرضاه، فلا تنفصل الدنيا عنده عن الاخرة، وليس من فصام لديه بين العمل والعبادة.

كذلك من خبره اللافت أنه يذهب من سكنه الواقع في إسكان أعضاء هيئة التدريس مع آذان العشاء؛ فيصلي بالناس صلاة العشاء في المسجد المجاور للمستشفى الجامعي، ثمّ يزور إلى المرضى الذين يتابعهم سواء ممن دخلوا إلى المستشفى في اليوم نفسه، أو كانوا فيه من قبل، ويصنع ذلك للمتابعة، وبعث الطمأنينة في نفوس المرضى. ومن المؤكد أنه قدّم القدوة العملية لصغار الأطباء وكبارهم، بفعله الذي دأب عليه من تلقاء نفسه دون أن يكون واجبًا، وليت البعض أن يؤدي الواجب المفترض عليه بلا نفل؛ فحينذاك سوف تستقيم أمور، ولن تتباعد المواعيد، وبها تنخفض التكاليف العلاجية بالمؤسسات الصحية التجارية المزحومة من صفوف المراجعين الباحثين عن موعد سريع لا يتحصلّون عليه بغير دفع المال العزيز على أهله، الشحيح وجوده يومًا إثر يوم.

كما أن للبروفيسور المفلح أبحاثًا طبية منشورة في مجلات محكمة، وأوعية نشر ذات اختصاص بأمراض الجهاز الهضمي، وله جهود في تقييم بحوث أخرى، وليت أن أعماله العلمية هذه تجمع وتنشر؛ لتغدو مرجعًا يحسب لصالح جامعة الملك سعود العريقة، ولكلية الطب فيها، ويفيد منها الأطباء على اختلاف مستوياتهم وأماكنهم، وفيها تأكيد على المكانة الطبية والبحثية التي بلغها أبناء هذا البلد المبارك، وتحفيز للآخرين على البحث، والنشر، وتزداد قيمتها إذا علمنا أنها من ضمن قائمة أكثر الأبحاث المستشهد بها.

ومن أخبار أ.د.إبراهيم المفلح أنه أولى طلبته الدارسين عنده عنايته الفائقة، وكان الطلبة يشعرون بحدبه هذا، وإخلاصه الكبير في نفعهم وخدمتهم علميًا، وعرفوا ذلك من خلال ملاحظة ما امتاز به، وما يضيفه لهم طوعًا، وما يبدو عليه من حرص، ولربما أنهم أعملوا القياس فظهر لهم فضل أستاذهم جليًا، وكم في القياس الصائب من دلالة. ولأجل هذه الخصيصة أصبح أبو عبدالله مهابًا في قاعة الدرس، مرهوب الجانب في الحوارات الصباحية، متحسبًا لحضوره في الكشف والتشخيص والعلاج، فلقد أخذ الكتاب التعليمي نظريًا وعمليًا بقوة حتى تخرجت على يديه وعلى يدي زملائه أفواج يُشار لها ببنان الرضا والإعجاب والثقة والحبور أن أصبح لدينا هذا الكيف، وذلكم الكم.

أما خصاله الأخرى فمنها تواضعه وسلامته من الكبر والانتفاخ الذي يقع فيه غيره؛ فلم يشاهد نفسه النفيسة على أنه الأستاذ الجامعي، والطبيب الاستشاري، بل كان يراها أحد عباد الله السالكين فوق أرضه، وتحت سمائه، ووفاق مشيئته؛ ولذا لم ينس عامل نظافة آسيوي أن أ.د.إبراهيم هو الوحيد الذي احتضنه بعد عودة العامل من غيبة السفر البعيد لأهله في ديارهم القصية، ودخل عليه مريض فلم يكد يصدّق أنه الطبيب حتى صارحه بأنه قد ظنه فلاحًا؛ وكان الجواب: أنعم وأكرم بهم وبها مهنة الأجداد والسابقين في عنيزة وغيرها! ومن نحن يا قوم لولا المزارع والنجار والخياط والخباز والفوال وأضرابهم؟!

ومن أعجب طرائقه في العمل؛ وهي لعمركم لافتة جدًا خاصة ممن يعمل في المستشفيات وأمثالها، أن أ.د.المفلح كان يصر على كتابة التاريخ الهجري داخل الوصفات العلاجية قبل تدوين التاريخ الميلادي؛ فهو تقويمنا الشرعي، والعربي، والمحلي. وكم هو غريب شأن بعض الناس الذين نسوه أو تناسوه، وأدهى وأمر من النسيان أن يتسرب لبعضهم مفاهيم مغلوطة خلاصتها أن الالتصاق التام بالتاريخ الميلادي فيه مزية وتطور وثبات، والحقيقة أن التقويم الميلاديوتشاركه تقاويم أخرىمضبوطة في الطقس والزراعة فقط، وما عدا ذلك فغيرها أولى منها؛ بل وفي التقويم الميلاديعلى وجه الخصوصمشكلات حسابية عولجت سابقًا، وسوف تعود إن طال به عمر.

إنها سيرة عطرة لطبيب وأستاذ جامعي ظاهر العلاقة بربه ومولاه، وإنه لمثال عزيز نادر، إذ أخذ الكتب التي سوف يسأله الله عنها بقوة، فكان صاحب عبادة وصيام وقيام وتلاوة وصدقة في بلده، وفي غربته للدراسة بألمانيا أيام شبابه، وصار المثال الصارم الصلب على الجدية في العلم والعمل إن في المشفى أو الكلية أو ميادين البحث العلمي. وعسى أن يكتبه الله مثل اسمه من المفلحين، وعسى أن يكون فالحًا في شؤونه كلها؛ ذلك أن زميله السابق عليه أ.د.فالح الفالح قد استقبله في ألمانيا طالبًا مبتعثًا، ثمّ استقبله أ.د.فالح في كلية الطب بجامعة الملك سعود أستاذًا وطبيبًا عائدًا من البعثة، وبعدما ودع أ.د.الفالح صاحبه أ.د.المفلح باكيًا قبيل رحلة الأخير العلاجية، أصبح أ.د.فالح مع أسرة الراحل أحد مستقبلي جثمانه القادم من ألمانيا عبر الطائرة، وفي المكان المخصص لها بالمطار.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 25 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

19 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

8 Comments

  1. قريتها مباشرة
    وأمي كانت تراجع عنده وتثني عليه خيرا رحمه الله
    ولم يسبق لي لقاءه
    وقد أرسلتها لأحد الزملاء وأرسلها هو لمجموعة من أطباء الجهاز الهضمي

  2. شكرا لك على المقال
    اسأل الله ان يكثر من أمثال هذا الطبيب
    والأمة فيها من الخير العظيم ومثل هذا المقال يدلنا ويذكرنا وهو حق لهم علينا.

  3. بارك الله في علمك و قلمك و عملك ، ورحم الله أستاذي أباعبدالله و غفر الله له ولوالدينا وأهلينا جميعاً و جمعنا بهم في الفردوس الأعلى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)