سياسة واقتصاد سير وأعلام

أمراء مكة والمدينة خلال مئة عام

Print Friendly, PDF & Email

أمراء مكة والمدينة خلال مئة عام

تاريخ المكان قسم مهم وماتع من التاريخ، إذ يضاف له شيء من علم البلدان، والاجتماع، والاقتصاد، وعلم الإنسان بأفرعه “الأنثروبولوجيا”، فيغدو عدة علوم ومعارف متداخلة. والتأليف في هذا الباب قديم، وفي حضارتنا الإسلامية نماذج أذكر منها تاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وهما عاصمتا دولتي بني أمية وبني العباس، ولغيرهما من البلاد تاريخ يختلف في الضخامة والعمق، ففي بعض المدن اكتفي بالتأريخ لأمرائها أو علمائها أو شعرائها أو لشيء من شأنها الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي أو العلمي، وعسى أن ينهض مؤرخون كبار لكتابة تاريخ عاصمتنا الرياض، وتاريخ العاصمة الأولى الدرعية.

وربما يتفق معي القارئ أن أكثر مكانين حظيا بالتأليف المستمر وتتبع الأخبار الدقيق على طول تاريخنا الإسلامي هما مكة والمدينة، لما لهما من حرمة وقداسة ومنزلة، ولارتباطهما بالحج والعمرة والجوار المبارك يسرها الله لنا ولمن يريد منكم. وما أسعد من يوفق للخدمة الطيبة المخلصة في مكة والمدينة سواء لمسجديهما، أو لأهلهما، أو لقاصديهما؛ فله بعد القبول من الله عظيم الأجر، وطول الذكر والبقاء لسيرته إن على التخليد أو التأبيد، ومع لسان الصدق هذا في الآخرين، سوف يتوالى الدعاء للمحسن المجتهد من قبل صالح المؤمنين والحجاج والمعتمرين.

تجاوز عدد أمراء مكة والمدينة منذ دخولهما تحت راية الإسلام مئات الأمراء لكل واحدة منهما، على اختلاف المدد، وطريقة المؤلفين في الحصر، ويوجد عدة كتب وثقت لإمارة أولئك الأمراء أو لبعضهم حسب الدول والعصور. أما خلال العصر الحديث فقد بلغ عدد أمراء مكة في العهد السعودي الحاضر (1343-1444) عشرة أمراء تأمروا إحدى عشرة مرة، بينما اقتصرت إمارة المدينة (1344-1444) على ستة أمراء فقط، وفي بعض الإحصاءات المكية أضيف لمكة أميران وهما غير مذكورين في موقع الإمارة الرسمي.

فأمراء مكة هم حسب الموقع الرسمي للإمارة هم الأمراء: خالد بن لؤي (1343-1344)، وفيصل بن عبدالعزيز (1344-1378)، ثمّ متعب بن عبدالعزيز (1378-1380)، وبعده عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز (1380-1382)، فمشعل بن عبدالعزيز (1382-1390)، وتلاه فواز بن عبدالعزيز (1390-1400)، فماجد بن عبدالعزيز (1400-1420)، وجاء بعده عبدالمجيد بن عبدالعزيز (1420-1428)، ثمّ خالد بن فيصل بن عبدالعزيز (1428-1435)، وخلفه مشعل بن عبدالله بن عبدالعزيز (1435-1436)، حتى عاد خالد بن فيصل بن عبدالعزيز أميرًا عليها مرة أخرى من عام (1436) إلى يومنا؛ وأيّ شرف أسنى من خدمة العاصمة المقدسة وقبلة المسلمين؟!

أما أمراء المدينة كما ورد في حساب إمارتها على تويتر فهم الأمراء: محمد بن عبدالعزيز، الذي تولّى إمارة منطقة المدينة المنورة بين عامي (1344-1385)، وخلفه عبدالمحسن بن عبدالعزيز لعقدين بين عامي (1385-1405)، ثمّ عبدالمجيد بن عبدالعزيز لأربعة عشر عامًا (1406-1420)، وتلاه مقرن بن عبدالعزيز لست سنوات فقط (1420-1426)، ثم عبدالعزيز بن ماجد بن عبدالعزيز بين عامي (1426-1434)، وصولًا إلى الأمير الحالي للمدينة النبوية فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز من عام (1434)، وقد وجدت بالتجربة من تفاعل الإمارة في مكتب الأمير، وإدارة المراسم والاستقبال، وإدارة العلاقات العامة والإعلام، في عهد أميرها الحالي ما مثله يُثنى عليه، ويستحق أن ينتصب قدوة لبقية الأجهزة الحكومية، هذا غير أنه ما أجلّ أن يصبح المرء أميرًا على عاصمة الدولة الإسلامية، وواحدًا من سلسلة على رأسها النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، والله يرحم الراحلين من أمراء الحرمين، ويوفق الباقين لكل مكرمة ونُجح وتقى.

ومما يلاحظ في تاريخ أمراء مكة والمدينة أنهم أبناء ملوك باستثناء أميرين اثنين فقط، وهذا يدل على مكانة الحرمين لدى الدولة السعودية منذ نشأتها الحديثة، بل إن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- جعل نجله الثالث “الأمير فيصل” أميرًا على مكة، وأرسل نجله الرابع “الأمير محمد” أميرًا على المدينة استجابة لطلب أهلها؛ والإشارة في ذلك على الأهمية والتقدير جليّة. وجمع الملك فيصل مع الإمارة وزارة الخارجية ثمّ ضمّ معها الداخلية والمالية وولاية العهد في مرحلة متأخرة، وهي خصيصة لم تحدث لأمير غيره، إضافة إلى أنه الوحيد من ملوك المملكة الذي سبق له العمل أميرًا على إحدى هاتين البقعتين المقدستين.

كما ينفرد الأمير عبدالمجيد بأنه أصبح أميرًا على البلدتين الكريمتين دون غيره من أمرائهما حتى الآن، ويالها من مزية، ويشترك الأميران عبدالمحسن وعبدالمجيد بأنهما توفيا وهما على رأس إمارتي المدينة ومكة عامي (1405) و (1428) على التوالي. ويتفرد الأمير خالد الفيصل بأنه أصبح أميرًا على منطقة تأمر عليها والده قبله، وأنه سمي وزيرًا وعضوًا في مجلس الوزراء بين إمارتيه الأولى والثانية لمكة، علمًا أن سبعة من أمراء مكة والمدينة الستة عشر أصبحوا أعضاء في مجلس الوزراء قبل الإمارة أو بعدها، والوزارات التي عمل فيها هؤلاء الأمراء هي: الخارجية، والداخلية، والمالية، والدفاع، والشؤون البلدية والقروية، والأشغال العامة والإسكان، والتربية والتعليم، إضافة إلى وزارة الدولة، ومنصبي النائب الثاني والنائب الأول وولاية العهد ورئاسة مجلس الوزراء، ومن أعمالهم المهمة في غير المجلس رئاسة هيئة البيعة من قبل الأمير مشعل، ورئاسة الأمير مقرن للاستخبارات العامة، وعدد منهم تولى إمارة مناطق أخرى مثل حائل، وتبوك، وعسير، قبل إسناد إمارة مكة أو المدينة له.

أما أطول هؤلاء الأمراء مدة فهو الأمير محمد في المدينة، ثم الملك فيصل، وبعده الأمير ماجد وكلاهما في مكة، ويشار عنا إلى أن نجله الأمير عبدالعزيز بن ماجد أصبح أميرًا على المدينة، ولا يوجد مثال آخر على هذا المنوال بين أمراء البلدين، ومن ضمن الأمراء الأطول مدة الأمير عبدالمحسن الذي أمضى عقدين أميرًا على المدينة. ومما ينبغي التنبيه إليه أنه في زمن إمارة الأمير محمد على المدينة كان لوكلاء الإمارة جهود مذكورة في العمل اليومي لانشغال الأمير مع والده وإخوانه فيما بعد، وهؤلاء الوكلاء هم الشيخ إبراهيم بن سالم السبهان، والأمير مشاري بن سعود بن جلوي، والشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم البراهيم، ثم أمراء من آل السديري هم عبدالله بن سعد السديري، وبعده ابنه عبدالرحمن، وبعد وفاة الأمير عبدالمحسن كان لوكيل الإمارة سعد الناصر السديري جهوده حتى تسمية الأمير الجديد.

أيضًا نجد لدى أغلب أمراء البلدتين المقدستين تاريخ من العمل الإداري في الحكومة أو في القطاع الخاص، ويضاف لذلك ما اشتهر به الملك فيصل من دهاء سياسي وبعد نظر، وما عرف عن الأمير محمد من قوة الشخصية، وما ينقل عن عناية الأميرين عبدالمحسن ومقرن بالكتاب والأدب والمكتبات الخاصة، وما يروى عن مساندة الأمير عبدالمجيد للأعمال المجتمعية والتطوعية، وما اشتهر به الأميران خالد الفيصل وفيصل بن سلمان من قرب من عالم الصحافة والثقافة والأدب والمواهب، مع ممارسة بعض هذه المواهب بالكتابة نثرًا وشعرًا، أو رسمًا وقنصًا، وفي كل خير من العناية بالحج والعمرة والحرمين وشؤونهما وأئمتهما، وإنما سطرت ما أعلمه، وفوق كل ذي علم عليم.

واليوم توجد في كل منطقة إدارية سعودية جامعة أو أكثر، هذا غير المراكز والجمعيات والمؤسسات التاريخية، فليت أن أقسام التاريخ والاجتماع والإدارة في كل جامعة تخصص جزءًا من رسائلها العلمية المنهجية لدراسة المنطقة، وشخصيتها، وإنسانها، مع التأريخ لأمرائها ومنجزاتهم، ففي ذلك بعد العراقة والأصالة خدمة للعلم، والتاريخ، وإثراء للمحتوى العربي والسعودي، وحفظ لذاكرتنا المحلية، وثناء على ذوي الفضل والهمم، وسيكون لمثل هذا المنتج العلمي قيمته ومرجعيته خاصة إذا وسم بمزيد من العمق والموضوعية، وتحققت فيه شروط البحث العلمي التي لا تخفى على الجامعات وأساتذتها، ولا على الباحثين والمؤرخين، وإن البلاد وأناسها ورموزها ليستأهلون مثل هذه الجهود المباركة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 25 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1444

13 من شهر يوليو عام 2023م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. مقال جميل كجمال قلبك وروحك .
    والله اني مستمتع وانا اتنقل بين الاسماء والتاريخ سلسله جميله بقلمك المحترف الجميل شكراً لك .
    ارسلتها للزملاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)