سير وأعلام شريعة وقانون

الشيخ اللحيدان: العملاق شخصًا ودرسًا!

Print Friendly, PDF & Email

الشيخ اللحيدان: العملاق شخصًا ودرسًا!

مع فجر هذا اليوم الأربعاء، تداول الناس عبر الوسائل كافة خبر رحيل سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان (1350-1443) الذي يمثل رمزًا سعوديًا في الفتيا والقضاء، إذ عاصر علماء كبار في الذاكرة السعودية مثل ابن إبراهيم، والشنقيطي، وابن حميد، وعفيفي، وابن باز وغيرهم، إضافة إلى دخوله القوي في سلك العمل الحكومي في دائرة الإفتاء ثمّ عبر الرواق العدلي الضخم منذ عهد الملك سعود إلى عهد الملك عبدالله، مع استمراره في التعليم والفتيا إلى قبيل احتجاب الناس والأعمال من جراء جائحة كورونا، وهذا يعني أنه صرم نصف قرن في العمل الحكومي، وأزيد منه في التعليم والفتيا، دون أن يتمتع بكثير من الإجازات المستحقة له نظامًا.

ينتمي الشيخ إلى مدينة البكيرية، وقبيلة سبيع، ويقف على رأس أسرة عريقة في بلدته وعموم القصيم والمملكة، وهو من أطول أعضاء هيئة كبار العلماء بقاءً في العضوية؛ إذ أصبح عضوًا منذ نشأتها عام (1391) إلى يوم وفاته التي منحت الشيخ عبدالله بن منيع -أطال الله على الطاعة عمره وعمله- الانفراد بطول المدة لأنه دخل إلى الهيئة منذ بدايتها. ويظهر بذلك أن الشيخ صالح سبق في العضوية أسماء علمية كبيرة مقدّمة مثل الشيخ ابن عثيمين (1347-1421) وهو أسنّ من شيخنا اللحيدان، ومثل الشيخ بكر أبو زيد (1364-1429) وهو أصغر عمرًا من الشيخ صالح.

كما أن الشيخ صالح أول من خطب على منبر جامع نمرة في يوم عرفة ليكون فاصلًا بين عقود تترى تتابع على الخطابة فيها مشايخ من أسرة آل الشيخ العريقة، فقد سافر الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ (1336-1410) للعلاج ولم يحضر موسم حج عام (1399) فخطب بدلًا عنه الشيخ صالح خطبته الوحيدة في ذلك الموسم وأظنها أول خطبة كاملة مسجلة صوتًا وصورة ومتاحة على الإنترنت، وهي الخطبة التي تبعها في غرة المحرم من العام الجديد (1400) عمل آثم في الحرم المكي الشريف، وكان الشيخ صالح فيما يبدو أحد المشاركين في القضاء على أفرادها، وله قضاء في غيرها مما سبقها من أعمال التفجير والترويع خلال الثمانينات الهجرية من قبل طغام عابرين للحدود.

أيضًا للشيخ دروس علمية، وشروح للسنة وكتبها مع عناية مضاعفة بهذا الموضوع، وكلمات وعظية في مسجده، وفي الحرم المكي الشريف، وفي جامع عثمان بن عفان بحي الوادي بالرياض، إضافة إلى حضوره الإعلامي في برامج قناة المجد والتلفزيون السعودي، ومشاركاته الإذاعية مع برنامج نور على الدرب، وهو البرنامج العتيق العريق الذي يبث عبر إذاعة القرآن الكريم درة الإعلام السعودي وتاجه الذي لا يُدانى، والله يحميها. وله موقع في الانترنت وحساب ينشر مقاطعه وفتاويه من منصة تويتر، ولست أعلم عن رسمية هذه المنافذ أو مرجعيتها، وإذا كانت تنقل ميراث الشيخ كما هو فصنيعها خير يُحتذى، والأجر من الله.

امتاز الشيخ بصراحته الكبيرة وجرأة قلبه، فمن صراحته أنه قال على الملأ إبان مناقشة رسالة دكتوراة أو ماجستير إن بعض الناس يزعمون بأني لا أقرأ الرسائل العلمية التي أناقشها! ومقوله هذا جاء والقاعة غاصة أمامه بالمستمعين، واللقاء مسجل. وعندما شارك في مناقشة الشيخ ابن جبرين اعترف الشيخ المناقِش للشيخ المناقَش برسوخه العلمي وأن الإجراء الرسمي المعتاد فرصة للمذاكرة وتحصيل الفائدة، ولعلّ من حضر تلك المناقشة قد خرج بفوائد جمة. وبعد تداول فتوى رسمية منسوبة لمجموعة من العلماء لم يتأخر الشيخ صالح في إعلان أنه لم يُسأل وبالتالي فلم يفت بشيء، ولام من ينقل هذه الادعاء الجازم لأصحاب الشأن لما فيه من إساءة للطرفين.

كذلك فللشيخ نظرة عميقة نحو مسائل عديدة، فحين حدثه شيخ غيور عن بعض الأحداث عام (1414) طالبًا منه التحرك الإيجابي، قال له بهدوء: هذه موجة عالية وليس من المناسب مواجهتها الآن! وعندما زاره جمع من الكفاءات العلمية من أهل البلاد تفاجأ الشيخ من عددهم وتخصصاتهم وقال لهم: أين أنتم عنّا؟ وحثهم على مزيد من الفعالية والحيوية كما يصنع غيرهم من أصحاب الأفكار الأخرى. والحقيقة أن الهوة التي تشبه القطيعة بين كبار المشايخ والكفاءات من جمهرة الصالحين لأمر مؤسف قمين به أن يتوقف بلا رجعة.

ومن بصيرة الشيخ معرفته بما وراء بعض الدعوات والمشروعات التي تتخذ ستارًا من العلل الجميلة وخلف بعضها السمّ الزعاف بالمجتمع ومكوناته ومرافقه المهمة، ولأجل هذا لم تلن قناته في تلك النواحي إلّا إن استوثق من رجحان حسناتها. ومن توازن الشيخ أنه كان مهاب الجانب لدى القضاة وهم قوم أولوا بأس شديد، وفي الوقت ذاته وقف معهم وصان القضاء وأعان أفراده المحتاجين لفقر أو مرض أو دراسة.

ومع المكانة العالية للشيخ في علمه ومنصبه الوظيفي وتاريخه في خدمة العمل الحكومي والتجسير بين بعض كبار المشايخ أو الهيئات وبين بعض المسؤولين ذوي الأهمية، إلّا أن بعض وسائل الإعلام لم تراعِ ذلك، ولم ترقب في المجتمع ورموزه إلّاً ولا ذمة، فقد قطعوا أجزاء من حلقاته التلفزيونية المسجلة لأنه أفتى بحرمة أشياء مما يستعذبها القوم الذين صدعوا الرؤوس بضجيجهم حول الحرية والآخر وغيرها من تلك التهاويل المفرغة من الحقيقة. ومنها قصّ فتواه الشهيرة المحررة عن ملاك القنوات الفضائية المسيئة، وروايتها مجتزأة حسب الهوى المغرض، ثمّ الطيران بإفكهم المفترى شرقًا وغربًا ولم تكن إساءتهم للشيخ فقط، وإنما للبلد كافة.

وعندما أعفي الشيخ من منصبه الضخم عام (1430) أظهروا الابتهاج العارم بهذا الأمر، مع أنه قرار مثل غيره لا يستوجب تلكم الخفة خاصة تجاه رجل في منصب دستوري رفيع محاط بالتوقير عالميًا، ولم يكتف بعضهم بذلك إذ نسب إليه أيّ تعطيل أو خلل في مرفق القضاء، والحقيقة أن القضاء مثل غيره، جهاز حكومي مهم للغاية، يستوجب مع التقدير التطوير، وهو تطوير لا يخصه وحده بل يشمل كل جزء من جسم الحكومة؛ فالدم يسير في الجسم مالم يجد سددًا، والتيار الكهربائي يجري في دائرته مالم يفقد موصلًا، وتحقيق الفائدة يقتضي تعميم التحسين والإصلاح.

وبعد ترجل الشيخ عن منصبه لم يفقد مكانته لدى حكام البلاد وعند علمائها وعامة أهلها، ولربما أن وشاية المرجفين بالشيخ ارتدت فحارت عليه بعد حين غير طويل، بينما استمر الشيخ في الحضور الرسمي والإعلامي والعلمي والاجتماعي. ومن أسمى ما أذكره أني شاهدت -عبر الشاشة- مجلسًا ملكيًا حضره الشيخ بعد الإعفاء؛ فقام خَلَفه في منصبه الشيخ أ.د.صالح بن حميد عن مقعده القريب من الملك ليجلس فيه الشيخ اللحيدان بعيدًا عن الرسميات، وتلك من عظمة الرجال الكبار الذين يتركون الصَّغار للصِّغار، وينفردون بالسمو والعلو والبهاء.

ومن المناسب التنبيه إلى أن الشيخ في أول شبابه كاد أن يلتحق بأرامكو ويعمل فيها، لكن الله صرفه عن هذه الشركة الضخمة إلى العلم الذي حمله إلى منصب رفيع لا تقوى على مثله أرامكو ولا أخواتها. ومما يذكر أن الشيخ الأنيق كان من ثمار الشيخ المفتي الكبير محمد بن إبراهيم آل الشيخ (1311-1389) الذي تفرس فيه وقربه ثمّ مكنه وهو شاب من العمل في مكتبه وفي القضاء الذي يشرف عليه، وإن في القرب من الكبار لمزايا وقبسات لمن نظر بتفكر. وأخيرًا فإن في لغة الشيخ اللحيدان عذوبة ربما يكون مصدرها تضلعه من كتب الأدب حتى روي عنه قراءة الأغاني للأصفهاني عدة مرات، وهو كتاب يقع في أجزاء كثيرة، ومن مصادر أدبنا العربي الخالد المتينة. وسمعت أن الشيخ أسمى أحد أنجاله الكرام “عبدالرزاق” إجلالًا لشيخه الشيخ عبدالرزاق عفيفي، رحم الله الجميع.

أشير كي لا أنسى إلى أن أسرة الشيخ قد منحته التجلّة والمنزلة التي يستحقها، وبادر هو أسرته العريضة بالعناية والمشاركة في مناسباتها ومناسبات من اتصل معها بنسب قدر استطاعته، خاصة أن الشيخ بصير بالأنساب لدرجة أوسع من أهل النسب والمصاهرة أحيانًا، وسعى لترسيخ تماسك أسرته وألفتها فيما دق وجلّ، وخدمة أفرادها بما وهبه الله من شفاعات مسموعة، ومن المؤكد أنه شفع لآخرين ليسوا من أقاربه، وأنه خدم العمل الخيري والوقفي والمجتمعي والقضائي، وليس من بأس في نفع الأقربين؛ فهم دومًا بالمعروف أحقّ وأولى شريطة ألّا يكون في تقديمهم بخس لأحد أو مظلمة.

اللهم ارحم الشيخ صالح الذي سيصلى عليه عصر اليوم بجامع الراجحي في الرياض، وأخبرني من ذهب مبكرًا ليشارك في الصلاة أن الجموع مزدحمة حول المسجد مشاة وراكبين، وارحم يا ربنا جميع أمواتنا المذكورين هنا وسواهم، فقد كان الشيخ آخر المشايخ الأحياء المترجم لهم في الدرر السنية، وأحد المدافعين عن المرأة والمجتمع والقضاء، وواحد من الحريصين على الأمن والنماء والمعروف والطاعة بالمعروف. ولئن كان شيخنا سريعًا في مشيته، طوالًا في هيئته، مهيبًا في طلعته، أنيقًا في ملبسه، فصيحًا في حديثه، فهو فوق ذلك عملاق في شخصه، وعملاق في دروسه التي أعطاها خلال مسيرته في الحياة والعمل، ففيها بصائر لأهل العلم والفتيا والقضاء والشأن العام، وفوائد لعموم الناس الذين يريدون فعل الخير والدعوة إليه، وإنها لمن أنفع ما يورد ويتداول إن للاقتداء أو لزيادة الوعي وإيقاظ الفكر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 02 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1443

05 من شهر يناير عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. اللهم ارحم الشيخ صالح بن محمد اللحيدان وطيب ثراه . واكرم مثواه . واجعل الجنة مستقره وماواه. والهم اهله وذويه الصبر والسلوان . وارحم جميع اموات المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)