مواسم ومجتمع

كيف تحافظ الأسر على عراقتها؟

Print Friendly, PDF & Email

كيف تحافظ الأسر على عراقتها؟

دعاني الزملاء في مؤسسة جسور للعمل العائلي كي أتحدث ضمن لقاءات مقهى جسور، وجسور هي مؤسسة وبيت خبرة مختص بالعمل العائلي، والمقهى موضع مختصر للحديث حول اختصاصهم، وينقل الحديث مباشرة ويظلّ محفوظًا عقب ذلك، وكل هذا في سعي علمي وعملي حثيث لبناء الجسور، وردم الفجوات في هذا الشأن الحيوي والأساسي. وقد اتفقنا على أن يكون اللقاء عن كيفية محافظة الأسر على عراقتها. وهو عنوان سبق لي الكتابة حوله، ووجدت تفاعلًا كبيرًا معه، ومطالبات بالتوسع، وعسى أن تكون هذه المواد نواة لعمل أكبر عن هذا الحقل الذي يحتاج إلى جهد في البحث والجمع والتحليل؛ كي يؤتي ثماره المرجوة؛ والمرجو منه كثير كبير دائم.

أولًا: لماذا نتحدث عن عراقة الأسر والحفاظ عليها:

  1. لكل مجتمع عراقة، ومن أهم سمات عراقة المجتمعات وجود أسر عريقة، فحيثما جالت العيون في عالمنا العربي من بغداد والموصل إلى فاس وتطوان سوف نجد الأسر العريقة الشامخة، والأسر متقدمة على غيرها من الماديات.
  2. تماسك المجتمعات مرتهن بترابط الأسر، والأسر الرمزية محورية في هذا الباب.
  3. طبيعة الأسر التقليد والتأثر، ولذا تغدو الأسر العريقة في موضع القيادة والقدوة.
  4. أهمية التعاقب والتوارث كي لا تندثر الفضائل والمكتسبات والقيم.
  5. أن سبل التوجيه والتعليم والتربية لا تكفي وحدها للحفاظ على عراقة الأسر.
  6. كثرة المؤثرات السلبية التي تنخر في الفرد والأسرة والمجتمع.
  7. اندثار عراقة أسر بسبب الإهمال والتراخي والمشكلات المتفاقمة.
  8. أن هذا من سبيل الأنبياء وسنتهم، وهو منهج سارت عليه أسر كثيرة في عدة حضارات.

ثانيًا: ماهي العراقة:

هي صفة نبيلة متوارثة، أو مكتسب حميد، أو طريقة رفيعة، واحدة أو أزيد، جعلت للأسرة امتيازًا في محيطها، ووسمها في مجال أو أكثر، وظلّ حاضرًا فيها لعدة أجيال يتبع اللاحق منهم السابق.

ثالثًا: سمات الأسر العريقة:

  1. الرمزية في مجتمعها.
  2. التوارث بين أجيالها.
  3. التأثير المكاني والزماني.
  4. مراعاة التراتبية العمودية داخل الأسرة.
  5. مراعاة التراتبية الأفقية مع الأسر والكيانات الأخرى.
  6. تقدير المجال العام وتجنب خدشه.
  7. توقير أركان الثقافة المحلية المستندة على الدين والتاريخ واللغة.

رابعًا: كيف تحافظ الأسر على عراقتها؟

*حفظ تاريخ الأسرة:  

  • صيانة الوثائق والمخطوطات والكتب المتعلّقة بالأسرة.
  • رواية تاريخ الأسر ومنشئها وانتقالاتها والتأليف فيه.
  • تكرار الأسماء في الأسرة.
  • تصميم شجرة الأسرة وتحديثها واتخاذها سبيلًا للتقارب والتعريف.

*المحافظة على التقاليد الأسرية:

تلتزم بعض الأسر العريقة بتقاليد خاصّة منطلقة من أعرافها ومصالحها، ومن ذلك مراسم الزّواج والميلاد والعزاء والمشاركات العامة. ومن هذا الباب ترميم مجالس الأسلاف وآثارهم، وضبط بيئة الأسرة منعًا لأي إجراء يحدث الشقاق.

*الاحتفاء بكبراء الأسرة:

حتى ينشأ الصّغار على معرفة الأمور التي تنال بها العظمة والرّفعة والتأثير الكبير، ويستهدفون النبوغ والإنجاز، ولكل أسرة عميد وكبراء ونماذج مشرفة من الرجال والنساء يُسعى إليهم للسلام والمعايدة، ويرجع لرأيهم ومشورتهم.

*إدارة التّعاقب:

تعمل الأسر المؤثرة على توريث مجدها لأجيالها، بإشراكهم منذ الصّغر، وتعريفهم بأسرار العمل ومفاتحه، ويظهر هذا مثلًا في تعاقب العمل والمهن لدى أسر كثيرة حتى في القضاء والعلم والإمامة والطوافة والتدريس فضلًا عن التجارة والحكم. وأعظم تعاقب هو تعاهد الإيمان حين سأل يعقوب عليه السلام بنيه عليهم السّلام: “ما تعبدون من بعدي”؟ وهي عراقة الإيمان ولها وجه كامل في سورة البقرة يبدأ من الآية رقم (127) وتظهر بجلاء أهمية التربية، وضرورة الدعاء للأبناء بالصلاح، واستمرار الخيرية فيهم.

*افتتاح المجالس وعمرانها:

نجد أنّ الأسر البصيرة تفتتح مجالس وديوانيات دوريّة لا تغيب عنها أجيالها، وتستضيف فيها الناس من عامة وخاصة كما استضاف مجلس الخاقاني في بغداد عالم الاجتماع د.علي الوردي، ومثلما استضافت ثلوثية العوهلي في عنيزة أستاذ التاريخ د.أحمد البسام، ويحسب لاثنينية عبدالمقصود خوجه في جدة تكريمها لعدد ضخم من أهل الفضل. وتخدم الأسر مجالسها بمقر دائم، وموعد ثابت، وإدارة مسؤولة، وبرنامج جاذب، وغير ذلك.

*تهيئة الأبناء والبنات وتنمية مهاراتهم:

سواء من خلال الدراسة، أو التجارب، أو القراءة، أو غير ذلك، وكم حفظت المدرسة العليا للإدارة في فرنسا، وكلية ساند هيرست في بريطانيا، وكلية فكتوريا بمصر، من أسماء الدارسين فيها المنتمين لأسر عريقة. ومن هذا القبيل أن أنشأت بعض الأسر مؤسسات ينحصر عملها في تعميق مهارات أبنائها وبناتها، والارتقاء بقدراتهم العلمية والعملية، واستثمرت أسرة البسام موسم الصيف في تعويد طلاب المرحلة المتوسطة على القراءة، ولدى أسرة الحمدان برنامج مذهل في حفظ القرآن والسنة شارك فيه الرجال والنساء من الأعمار كافة.

*التطبيقات القيادية:

القيادة موهبة وفن قابل للتّعلم والاكتساب، وأفضل ميدان للتّدريب عليها هو إتاحة الفرص للتّطبيق مع التّقويم والإرشاد، ولذا تبتكر الأسر مشروعات أو تستحدث ما يمنح الفرصة لبنيها وبناتها كي يتولوا القيادة ولو بترتيب رحلة بر أو سفر مشترك أو مناسبة أو عمل تجاري يسير. ومن مفردات هذه الخطوات التعويد على فن الإصغاء وإجادة الحديث ومهارة الإبانة عما في النفس.

*معايشة الأجيال مع الأنداد دون تمييز:

ولذلك آثار حميدة على القدرات الإدارية، والمواهب العقلية، والاستعدادات النفسية لأنجال الأسر العريقة، ومما يروى عن الملك فيصل حينما ابتعث نجليه الأميرين سعود وتركي للدراسة في أمريكا أن أوكل إلى جميل البارودي متابعتهم، وطلب منه أخذهم بالعزيمة، وكتابة تقارير عن دراستهم، وخلطهم بالطلاب دون تفرقة أو رفاهية.

*المشاركة الإيجابيّة في العمل التطوعي والشؤون المهمة:

وهذا عرف أشبه بالإلزام لدى أسر حاكمة عربية وأجنبية، ومن بركات أسرة الشايع في الكويت أعمالها الخيرية في قرغيزيا مثلًا، ولدى أسر أخرى معاهد تعليمية في أفريقيا وآسيا، وأعمال إغاثية، وكم في التطوع من مزايا لأهله قبل غيرهم. كما تعوّد الأسر النّابهة أبناءها على المشاركة الإيجابية في الشّؤون العامة، ومن المعهود أن تسند الأسر لأبنائها أعمالًا تجعلهم قريبين من الناس والمجتمع في الرياضة والاستثمار والعمل غير الربحي. ومن هذا الجنس انتشار الجوائز داخل الأسر سواء كانت مقصورة عليها، أو موسعة لمدينة أو بلد أو حتى للعالم.

*العناية بالوقف:

سواء كان الوقف للأسرة بعامة أم لفرد منها بعينه؛ لأنه سيفيد الذرية والأسرة في المقام الأول، ثم ينفع المجتمع المحيط فالأبعد. ومن سمات أوقاف الأسر مشاركة الأبناء في نظارتها وإدارتها دون أن يصبحوا من أسباب تعثرها أو من العوائق التي تقف في طريقها. وإن الوقف ليضمن تواصل العمل، ويمنع انقطاع الأنشطة، ويعالج الشح والقصور.

خامسًا: ثمار العراقة:

  1. العراقة صمام أمان للمجتمع وملاذ يأرز إليه.
  2. العراقة تشيع التفاؤل والبهجة، وتبقي على المعروف وصنائعه.
  3. العراقة تقود للتسابق إلى المحامد والمكتسبات.
  4. العراقة تضيف للمكان قيمة وللتاريخ عبقًا.
  5. العراقة تجعل المجتمع رياديًا وقياديًا بين نظرائه.
  6. العراقة تئد الدعوات المريبة لهدم الأسرة وإشاعة الشذوذ.

سادسًا: كيف تندثر العراقة:

  1. ترك التعاهد والانصراف عن المستقبل.
  2. الانشغال بالخلافات وبنيات الطريق.
  3. الانغماس في التوافه والمغريات فتصير الأسرة على الهامش بعد أن كانت أصلًا.
  4. التغاضي عن أخطاء الأسرة أو أفرادها المؤثرين سواء كان الخطأ بتفريط، أو فعل مناقض للعراقة، أو بمنقصة فيها مأثم أو مغرم أو ظلم.
  5. مناكفة ثقافة المكان والبيئة المجاورة.
  6. صعوبة احتواء الجديد والغفلة عن المستقبل.
  7. انتشار الفردية البغيضة والأنانية السلبية داخل الأسرة.

إن المحافظة على الأسر العريقة وتمتين بنيانها لمن سبل الرشاد ومناهج الشرف الرفيع، لما في ذلك من مصالح تتجاوز الأسرة ذاتها وإن كانت أكبر المستفيدين من بقاء العراقة، ونقائها من الشوائب. وما أجدر القامات الكبرى في الأسر ذات العراقة والتاريخ والأثر أن يولوا هذه الجوانب ما تستحقها؛ حتى لا تصبح النار العظيمة المشتعلة في يوم ما رمادًا بخيسًا تذروه الرياح، وكي لا تدفن الرمال الدافقة المجد التليد، أو تقتلع الرياح العاتية الجذور التي تعب الأوائل في غرسها وسقيها وتعاهدها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 20 من شهرِ ربيع الأول عام 1443

26 من شهر أكتوبر عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. كلام جميل عن العراقة، التي افتقدتها اليوم بعض الأسر،ربما يعود السبب إلى تسرب عادات غريبة بينها، أو أن الجيل الجديد لا يعير اهتمام للعراقة بحجة التفتح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)