قراءة وكتابة

شرف الكتابة

Print Friendly, PDF & Email

شرف الكتابة

عند غالب الناس شيء أو أكثر يفرح الواحد منهم به ويفاخر، وأيّ أمر حميد بذاته، أو بمآله، أو بهما معًا، فهو نعمة من الله وهبها لمن شاء من خلقه؛ ففرّق بينهم المواهب والقدرات، وكلّ شيء عنده بمقدار وقدر مقدور، والله يكتبنا من أهل الشكر والإحسان فيما وهب، والصبر عمّا منع، ويجعل الخير والخيرة مصاحبة لنا فما قدّر وقضى، ويهدينا لما يرضيه فيما أعطى وفيما حجب.

والكتابة نعمة ربانية سواء أكانت موهبة جبلّية، أو مقدرة مكتسبة، أو خليطًا منهما، ولأنها كذلك سعى لإتقانها أو التشبث بها خلق كثير حتى من الزعماء والساسة الذين جلسوا على كراسي السلطة زمنًا يطول أو يقصر، ولمكانتها روي عن معاوية -رضي الله عنه- أو المأمون قوله: الكتّاب رؤساء على الناس، وهذه الرئاسة المعنوية تصبح بلاءً ما لم تُحط بالشرف من جميع جوانبها.

فأول شرف تستلزمه الكتابة هو سمو المقصد ونبل الغاية، وهو من الأمور الخفية التي لا يعلم حقيقتها إلّا الله سبحانه، وإن كانت لها بوادر تدل على وجودها من عدمه دونما جزم يقيني، فالكتابة عمل لا يقتصر على صاحبه، وله القابلية للبقاء، والسيرورة عبر الزمان والمكان والإنسان، وما أسعد من كانت مراميه بريئة من الطيش والزيغ، والبهتان والكذب، والتزلّف والارتزاق الآثم، والعدوان والتعالم.

ثمّ يبرز شرف الفكرة والمضمون، فأحسن معنى وأكرم محتوى هو ما ارتبط بالحقّ، والعدل، والإحسان، والفضائل، والأخلاق الكريمة، وجلب المكاسب الدنيوية والأخروية، أو دفع الشرور والأخطار، وسواء كانت الفكرة بادية للعيان، أو متوارية خلف رمز أو مثال، فمن الضرورة أن تكون نبيلة سليلة كرام، تحسن الانتساب لأهلها والبلاغ عنهم، وترفع رؤوسهم في المحافل إن حضروا وإن غابوا، وما سوى ذلك فداء متناسل يجدر بالكاتب العاقل الفرار منه.

ومن الطبيعي أن يعقب الحديث عن المعنى الالتفات إلى اللفظ وشرفه، وهو شرف يُنال من فصاحة الكلمة في نفسها، ومناسبتها لموضعها، وبلاغتها في الدلالة على المراد منها، وحسن رصفها مع سياقها وجوارها، ومن شرف اللفظ أيضًا ألّا يكون مبتذلًا أو هجينًا أو سوقيًا أو عاميًا باستثناءات يسيرة يقتضيها مقامها، ولكلّ مقام أحواله الخاصة به على مقاسه دون ضيق خانق، أو سعة ممجوجة زائدة عن الحاجة.

كما يتأتى الشرف من فرادة الأسلوب واستقلاله، فما أدنى أن يظلّ الكاتب أسيرًا لتقليد كاتب أُعجب به زمن التكوين، حين كان من ناشئة الكتّاب وشداة الأدب، وأما بعد امتلاك الناصية، واشتداد العود، فما أجمل الاستقلال دون زللٍ أو زغلٍ أو جنوح، فالمهم أن تصبغ أسلوبك بروحك وعقلك ولفظك حتى يعرفه القارئ قبل أن يرى اسمك، ومن طريف ما قرأته عن كاتب عالمي أنه أدمن في مستهلّ شبابه القراءة لكافكا ثمّ قرأ لغيره ونوع ذائقته، وعندما علّق ناقد على أحد كتبه بأنه يجد فيه من ريح كافكا غضب المؤلف وهاج، وأسرع إلى مكتبته وأحرق جميع كتب هذا الرجل الذي رحل مبكرًا، وبقي علامة فارقة في عالم الكتابة.

كذلك من شرف الكتابة أن يحتشد لها المرء كأنه سيقود جيشًا في معركة يواجه بها خصمًا شرسًا، وهذا يستلزم حسن التدريب والاستعداد، وكثرة المحاولات بما فيها من كرٍّ وفر، واستخدام الأدوات المتاحة وإيجاد الوسيلة إلى ما عزّ منها، ومن أولاها وأسناها توثيق العلاقة مع البحث وتقليب أوجه الفكر والقراءة، وانتقاء الثمين الرفيع من المقروء، وعلى الكاتب ألّا يصيب تاريخه بمقتل في ترك القراءة حتى وإن قيل بأن دوستويفسكي نادر القراءة، وأن هيجل لم يحمل من الكتب إلّا توافهها!

أما حين يجتمع للكتابة شرفها من جهاتها كافة، فسوف يفوز الكاتب بالتأثير إن عاجلًا أو آجلًا، وسيكتب لأعماله الخلود والمسير مع الشمس شروقًا وغروبًا، وسوف تمتلك سلطة معنوية يصعب نزعها، وقوة ذاتية فاعلة تظهر وتكمن تفاعلًا مع البيئة والأجواء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وتمام الفضل أن يغدو فعل الكتابة من العمل المتقبل الرابي، ولا تكون من الطيبات المعجلة في الحياة الدنيا لصاحبها.

ولأنه بضدها تتميز الأشياء؛ فقد تصبح الكتابة منزلقًا نحو القاع إذا فقدت شيئًا من عوامل الشرف المذكورة آنفًا، ودمغها الباطل بكثير أو قليل، وصارت من عداد جنده، فهي ظلم أو جرم أو غرم، تعين على العدوان، ولا تردع البغي، وتصمت حيث يجب الكلام؛ فلا ينبت منها محمدة تصمد أمام العواصف، ولا توجِد لصاحبها سعادة تتغلّب على المنغصات، والعاقل خصيم نفسه، ومن الحصافة أن يأبى المرء لنفسه، ولخلاصات قلمه وفكره هذا المصير الموحل الآسن، فأيّ بصير يرضى أن يتمرغ في الخبث المنتن؟!

إن التفاضل سنة اجتماعية، فكاتب يصعد حتى يتسامى ويرتقي نحو القمم العالية، وآخر يهوي حتى يحشر نفسه في درك سحيق، وكلّ واحد منهما ربما ينافس على القيادة في الفكر، والأسلوب، والتراكيب، والكلمات، ويستثمر لصالحه أوضاعًا أو أمواجًا، بيد أن الأوضاع لا تدوم، والأمواج سوف تسكن يومًا، فلا يطفو على السطح إلّا الراسيات الشامخات من الباقيات الصالحات، وما عند الله خير وأوفى لأهل الشرف في القلب، والذهن، واللسان، والقلم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأحد 05 من شهرِ جمادى الأولى عام 1442

20 من شهر ديسمبر عام 2020م

 

Please follow and like us:

One Comment

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفضه الله ورعاه عن مقالتك القيمة شرف الكتابة . وهنيئا للكتاب اهل الشرف في القلب .والذهن. واللسان والقلم . نسال الله ان يوفقهم لما يحبه ويرضاه . ويبارك لهم في جهودهم ورزقهم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)