سير وأعلام عرض كتاب

غازي القصيبي بين العراقة والفطرة

Print Friendly, PDF & Email

غازي القصيبي بين العراقة والفطرة

قليلة هي الشخصيات التي يصدق عليها تعبير ابن رشيق في عمدته عن المتنبي الذي جاء فملأ الدنيا وشغل الناس! ويبدو لي أن هذه الشخصيات يوجد فيها سمة أو أكثر جعلتها كذلك، مثل الموهبة البارعة، والقلق البازغ، والتنازع عليها أو حولها بين الفرقاء، إضافة إلى المنجزات والأعمال المنسوبة إلى تلكم الشخصية التي أصبحت نجمًا لامعًا، وشغلًا شاغلًا، واسمًا حاضرًا حتى في كتب العزاء والرثاء مثلما حدث مع واحد منها في حكاية محفوظة.

إذ كان الوزير الأديب ابن العميد يتحامل على المتنبي، ويغضُّ من شعره، حتى رُوي عن بعض أصحاب ابن العميد قوله: دخلت عليه يومًا فوجدته واجمًا، وكانت قد ماتت أخته عن قريب؛ فظننته واجدًا لأجلها، فقلت له: لا يحزن الله الوزير فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أُخمل ذكره، وقد ورد عليَّ نيف وستون كتابًا في التعزية ما منها إلّا وقد صدّر بقوله:

طوى الجزيرة حتى جاءني خبر **** فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملًا **** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

فكيف السبيل إلى إخماد ذكره؟ فقلت للوزير: إن القدر لا يغالب، والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر واشتهار الاسم، فالأولى ألّا تشغل فكرك بهذا الأمر!

والذي يظهر لي أن معالي الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي قد أدركته خصلة أو أكثر من قدوته الشعرية الكبرى أبي الطيب المتنبي الذي دأب القصيبي على أن يستشهد بأبياته وقصائده كثيرًا، فأصبح القصيبي مشهورًا معروفًا في حياته مثل أبي الطيب، مُشتغلًا بشأنه كله من أطياف شتى مدحًا وقدحًا، وهو يسمع ويرى ويتأثر أحيانًا، ولم يكن مثل ابن خلدون أو شكسبير؛ إذ لم يتعاظم انجفال الناس نحوهم، وزحفهم صوب مقدمة الأول ومسرحيات الثاني إلّا بعد عقود أو قرون خلت من رحيلهما عن دنيا الناس.

ومع كثرة ما كتب وقيل عن غازي القصيبي سواء أكتبها هو أم غيره، وصدرت عن محب أم شانئ، أو أوردها منصف أم متجن، أو سيقت أصالة أم عرضًا، فلا يزال سجل القصيبي مفتوحًا لمن شاء الكتابة عنه أو الحديث حوله، ولذلك أصبح له كرسي جامعي نشط، وتوالت طبعات كتبه، وتداول الناس مقاطع من كلماته المكتوبة أو المنطوقة، وصار إرثه قاسمًا مشتركًا بين أطراف من مشارب متباينة، اختلفوا عليه حيًا، واتفقوا على تقدير كثير من آرائه عقب غروب شمسه ذات يوم رمضاني حزين.

فإذا أردنا أن نصف القصيبي وصفًا اجتماعيًا ومجتمعيًا فسوف نقول إنه ولد لأب نجدي، ولأم حجازية ذات خؤولة تركية، ونشأ في الأحساء ثمّ البحرين ضمن أسرته العريقة القاطنة هناك. وهو ابن مجتمع عربي مسلم محافظ على أصوله وثوابته ومنابته، ويجتمع في غازي أمشاج متوازنة من الانفتاح الحجازي، والمحافظة النجدية والأحسائية، وقد ورثهما عن بيئتي والديه المنتمية في النهاية إلى جزيرة العرب، ودينها، وتقاليدها.

وإذا أردنا نعته حضاريًا فسوف نكتب إنه الإنسان السعودي موطنًا، العربي قومية، المسلم دينًا، الذي ظلّ معتزًا بهذه الخصائص التي لا تناشز فيها ولا تطاحن ولا تنافي بينها، وبقي مفتخرًا بها فرادى ومجتمعة، مستعلنًا دون مواربة أو تورية بأنه يحمل هذا الانتماء معه ولو ذهب إلى اليونسكو، ومعترفًا بأنه لن يتخلى عنه بأيّ مقابل مهما علا، وسيصنع من خدماته العالمية سبيلًا لخدمة وطنه، ولنفع قضاياه العربية والإسلامية، وسلمًا ترتقي عليه أمته باتجاه معارج السمو ومدارج الرفعة.

ثمّ إذا أردنا الحديث عنه مثقفًا؛ فقد نحتار أهو كاتب المقال، أم المسرحية، أم الرواية، أم الشعر؟ لكننا سنحتمي به ذاته لنخلص إلى جواب حاسم، إذ يرى أبو يارا نفسه شاعرًا بالمقام الأول، وهو مقام يسبقه بالطبع مقام القراءة والتأمل والحوار. وصاحبنا حسب تقسيمه شاعر من الطبقة الثانية، وروائي من الدرجة الثالثة، وما كتبه في باب الرواية قد لا يصح أن يُطلق عليه وصف هذا الفن الذي لم يدخله القصيبي من بوابة غربية، وإنما ولج إليه من الباب العربي التراثي، وأما الشعر فهو في الطبقة الثانية التي لا يسبقه في الطبقة الأولى منه سوى المتنبي، وامرؤ القيس، والجواهري، وبدوي الجبل؛ فهو وجه من النظر والرأي كما يصفه شاعرنا فيه غرور يتخفى في إهاب من التواضع!

أما إذا عرجنا على مجال الوظيفة العامة؛ فقد نسأل عن أيّ وظيفة عامة سكنت قلبه وروحه؟ أهي الوزارة بأضوائها علمًا أنه تفرد بأن أسندت إليه خمس وزارات بالأصالة وليس النيابة أو التكليف؟ أم السفارة برفاهيتها؟ أم الإدارة والعمادة بسلطانهما؟ أم المنصب الدولي بعالميته حتى لو لم يبلغه وإنما كاد؟ وكلها مواقع تجعل صاحبها الفطن النابه رجل دولة بامتياز، وما أندر رجال الدولة بين ذوي المناصب.

بيد أننا سنرجع إلى حكمه الفصل، وقوله الواضح في هذه المسألة، وهو الذي تصدقه مسيرته إبان محياه، وخلاصة القول المحكوم به أن القصيبي لا يرى نفسه إلّا أستاذًا ومعلمًا يصول ويجول في أروقة العلم ومدارسه؛ ولذلك كانت إجابة دعوات المدرسة، والجلوس إلى الطلبة، أيسر عليه وأحبّ له من الموافقة على أيّ دعوة إعلامية أو اجتماعية أو ذات وجاهة مهما كانت، ومهما احتف بها من مغريات.

وكل ذلك لا يجعلنا نخرج عن إطار المعقول والمقبول؛ فالدكتور غازي القصيبي في النهاية من أبناء أبينا الشيخ الكبير آدم عليه السلام، وفيه مما في إخوانه البشر من حب الثناء، والضيق من النقد، والإصرار على الرأي، وتقدير الذات ومواهب الجليل المنان عليها، ومن الطبيعي أن يغلط في قول أو عمل، وأن يدركه شيء من شطط أو جنوح، ولربما أنه نجح في أحوال كثيرة؛ فتعالى على مساوئ هذه الطبيعة، وسما بنفسه ومواقفه عن أن تطغى عليه لوازم الطين؛ كي لا تخفت فيه إشراقات الروح، ومع هذا فليس بغريب لو لم يستطع النجاح في أحوال غلبته فيها بشريته، أو استعجل خلالها وما تأنى، والكمال عزيز، والإنصاف مثله عزيز، ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها؟!

إن شخصية معالي الدكتور غازي القصيبي فيها من الفطرة التي فطر الله الناس عليها دون تصنع طهر، أو ادعاء كمال، أو التزام بزي أو مظهر، وهي الفطرة التي تشبث بها، وتصاعدت معه حتى استبانت جليّة في آخر أيامه عند ساعات الأصيل التي تلامس لحظات الغروب التي سوف تحلّ بأي كائن حي ولا مناص، وجاءت شواهد هذه الفطرة في أعمال، وكلمات، وأبيات من الشعر كأنها من شعر أبي العتاهية!

وهي شخصية فيها قدر كبير من عراقة الأسرة والمجتمع والحضارة؛ تلك العراقة التي رضعها منذ صغره، ووعاها في يفاعته، واقتنع بها في كهولته، حتى صيرته صعب المراس لا يتنازل ثقافيًا وحضاريًا، ويأبى أن يعطي الدنية لأمته وبلاده ولو غضبت منه دول وحكومات، وإن ذا المحتد الأصيل، والتربية القديمة، ليؤوي إلى ركن شديد متين إذا تهاوى القاعدون على حرف مع أيّ رجفة ولو كانت وهمية!

وهي شخصية سليل أسرة عريقة ثرية مؤثرة، ونجل رجل متدين يطبع الكتب السلفية، ويرتبط بالوشائج مع العلماء والمفكرين، ويمثّل الملوك والساسة، ويعالج مصالحه ومصالح بلاده ومواطنيه مع الإنجليز الدهاة المحتلين، ومع ذلك وضع القصيبي مناصبه وقدراته في كفة المواطن العادي الذي يأمل بتيسير أموره، والراحة من التعقيد الإداري البغيض عند أبي سهيل، ولم يأنف من التجاوب مع رسالة شاب دون العشرين تأتيه من مدينة حدودية وهو وزير للصناعة والكهرباء، ولم يتردد في اقتطاع جزء من وقته للإجابة عن استفسار فتاة عشرينية وهو وزير للعمل.

لذلك أجدني اليوم في سعادة كبيرة حينما أشارك في كتابة تقديم لمؤلَّف يختلف عن كثير مما كُتب عن معالي الدكتور القصيبي، وعنوان هذا الكتاب: غازي القصيبي مرة أخرى: قصص وذكريات وأشعار ومراسلات، تأليف المحامي الدكتور سعد بن محمد السعد، الذي عرف القصيبي عن قرب مذ كان وزيرًا للصناعة والكهرباء، ثمّ تقارب منه وظيفيًا إبان تسميته سفيرًا للمملكة في البحرين.

واستمرت علائق السعد والقصيبي حتى بعد تنائي المكان، وكثرة الصوارف، وتوالي المسؤوليات، دون أن تتنافر القلوب أو تجف الذكريات الجميلة بينهما، وهي علاقات فيها محبة وتوقير وتقديم، وفيها مراسلات مكتوبة بخط اليد وأخرى مطبوعة، وتبادل للمكاتبات شعرًا ونثرًا، بلغة إخوانية صادقة بلا تكلّف يفسدها، ولا انتظار للنشر يؤطرها.

وإن محتويات هذا الكتاب لتؤكد فيما تؤكد عليه من فضائل ومكارم أن القصيبي رجل ذو فطرة نقية، وعراقة راسخة، وأن السعد ذو وفاء ثابت، ومحبة صادقة، وأن الذي جمع بينهما ليس مصلحة دنيوية زائلة، وإنما خدمة المواطن، والبلد، واللغة، والدين. وحسنًا فعل مؤلفنا حينما أصدر هذا الكتاب، وعندما سعى مجتهدًا لإعادة إصداره مزيدًا بعد أن لاقت طبعته الأولى إقبالًا وقبولًا وثناء مستحقًا لجميع أركان الكتاب الذي يفيض نورًا بالفطرة، ويستعلي مهابة بالعراقة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الخميس الخامس من شهر ذي القعدة عام 1444

25 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)