إدارة وتربية سير وأعلام عرض كتاب

إذا كنت أستاذًا فتعال!

Print Friendly, PDF & Email

إذا كنت أستاذًا فتعال!

لم تمض ساعات على نشر مقالة مجهِدة في تحضيرها حول الوزراء الذين عبروا على صفحات سيرة القصيبي حياة في الإدارة، حتى وجدت من الحفاوة في القراءة والتعليقات ما جعلني أسعى لكتابة أختها الأخرى؛ فهي أقصر لانحصار موضعها في مكان ما من الكتاب، وربما أنها أكثر أهمية، فالتعليم عظيم الشأن والتأثير كما لا يخفى. وقد فصّل المؤلف في حكايته طالبًا وأستاذًا، وسوف أقتبس ما يمكن أن يفيد الأساتذة الكرام في التعليم العام وفي الجامعة، وقبل أن تثور ثائرة عدد قليل منهم؛ ألفت الأنظار الكريمة إلى أن القول كله لأستاذ وعميد ووزير وكاتب أديب، وإنما جمعته مع بعضه، وربما اختصرته وقدمت منه وأخرت.

كان أبو يارا يقضي وقته خلال سنواته الأولى في العمل أستاذًا بالجامعة داخل أروقة المكتبة، ويستمر فيها من الساعة الثامنة صباحًا حتى الثانية ظهرًا، وفي ذلكم المكان الذي لا يخطر على بال أكثر الناس إفراطًا في الخيال تقابل مع الأمير سلطان أول مرة. والفكرة التي يريد أستاذنا الجامعي إيصالها هي أن الأستاذ والمدرس -خاصة في الجامعة- له مكان آخر أولى من الانقطاع التام في المكاتب الفردية أو المرتبطة بمنصب إداري أو استشاري- على ضرورة المكتب وأهميته أحيانًا- وهذا المكان متنوع ما بين مكتبة، ومعمل، ومختبر، ومستشفى، ومصنع، ومزرعة، ومحكمة، ومصرف، وغير ذلك، وحقيق بالأستاذ والمعلّم منح جزء من الوقت لهذا المكان الملهم.

وعندما عُهد إلى د.غازي تدريس مادة مبادئ الإدارة العامة وموضوعها جديد عليه، حاول الاعتذار لكن مقتضى الحال ألزمه بالموافقة اضطرارًا؛ فقضى كل يوم من العطلة الصيفية بمكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت وهو يقرأ أيّ كتاب في هذا الحقل حتى استوعب المادة تمامًا، وأصبح عارفًا بها خبيرًا بتفريعاتها، ومع ذلك لم يدّرسها بسبب ضمه إلى عضوية لجنة أو وفد لإنهاء حرب اليمن. وبعد الفراغ من هذه المهمة الخطيرة قفل إلى كليته، وكلّف بتدريس سبعة مناهج -لأن أحد الأساتذة توفي فجأة- ليس منها مادة الإدارة العامة! والعبرة هنا هو حسن الاستعداد، وكمال الاحتشاد لمواجهة المسؤولية العلمية.

ومن لفتات أبي يارا التدريسية الرائعة قوله: لا يمكن للمادة أن تكون مفيدة ما لم تكن مشوقة، ولا تكون مشوقة مالم تكن مبسطة -أي مقرّبة للفهم- ولا يمكن أن تكون مفيدة ومشوقة ومبسطة ما لم يبذل المدرس أضعاف الجهد الذي يبذله الطالب! ويضيف: أقضي وقتًا طويلًا في التحضير يقارب ثلاث ساعات من القراءة لكل ساعة في الفصل أمام الطلاب؛ فلا يمكن لمدرس أن يُعدَّ محاضرة مشوقة إذا اكتفى بقراءة كتاب واحد، وسرعان ما يكتشف الطلبة الفرق بين محاضر حقيقي يشد انتباههم، وبين آخر يردد كالببغاء-هكذا ورد- ما يجدونه في الكتاب المقرر. وعليه يا رعاكم الله فلا تحصر علمك في كتاب واحد، وتجدّد، ونوع المصادر والمشارب، وثق أنك أكبر مستفيد.

ثمّ يمضي فيخبرنا عن نفسه: كنت أقول للطلبة في المحاضرة الأولى: إن رسوب أيّ طالب منهم يعني فشلي في تدريس المادة قبل فشله في استيعابها! ويؤكد مرة أخرى بأن التيسير والتعسير أو التشويق والتعقيد هو الفرق بين المدرس الناجح أو الفاشل. ويختم بنتيجة مهمة؛ إذ علّمته التجربة أن المدرس الذي يبسّط المادة للطلبة، يفتح أمام الطالب آفاقًا من المعرفة، ويحثه على الاستزادة منها. وهاهنا مربط فرس أصيل في مسألة التعليم؛ فالتعليم والتوجيه يقومان على الوضوح والتبيين، وليس على عكسهما من التعتيم والمتاهات التي يفتن بها البعض بزعم أنها أقرب للعمق والتفنّن، وأدلّ على علو مستوى التعب القديم والعبقرية الحالية، ويخطئ بحسب المؤلف مَن يجعل مادته أشبه بالألغاز والطلاسم!

لذلك فعجيب عنده أمر مدرس يخوّف طلابه من حجم الكتاب الكبير! فكيف لو أدرك كاتبنا أساتذة يروعون طلبتهم من كلّ شيء في المادة وطريقتها واختبارها! والليونة المتوازنة مع الطلبة منهج متبع لديه فهو القائل: علاقتي مع الطلبة تقوم على التقدير والكثير من المودة المتبادلة، ولا يرسب في مواده إلّا من يصر على الرسوب؛ لأنه يضيف عشرة بالمئة من الدرجة لمن يحتاج الوصول إلى حدّ النجاح؛ واضعًا في الحسبان أن حماسة الطالب للدراسة -خاصة النظرية- تعوض عن النقص اليسير أثناء الامتحان، ومن التيسير عنده ألّا يُعاقب الطالب على سوء خطه وتمنعه دون القراءة، وأن يُراعي وقع الضغوط النفسية المترافقة مع الامتحانات على نفسيات الطلاب.

كما تصبح فرحته كبيرة عندما يتقدم إليه أحد بعد سنوات ويخبره أنه من طلابه، وهو الذي لم يجعل العلاقة معهم تعليمية داخل القاعة فقط؛ بل يقضي الكثير من الوقت مصاحبًا لطلبته، فيأكل معهم في المطعم، ويلعب وإياهم كرة التنس، وتُسمع ضحكاتهم في القاعة وهو فيها، ويعطي بعض المحاضرات في حديقة الكلية، ويوقّع ما يكتبه لهم دون وضع حرف الدال قبل اسمه فهم يعرفونها من الأساس، وفي نهاية السنة يدعو طلبة البكالوريوس الخريجين إلى عشاء وداعي في منزله.

إنّ التدريس لدى القصيبي فنٌّ لا علاقة له بكمية العلم التي يختزنها المدرس؛ لأنه يقوم على فنّ إيصال المعلومة بطريقة مفهومة واضحة ترسخ ولا تُنسى. ويرى أن التركيز على البحث دون تقدير موضوع التدريس عند الترقيات لا يخدم مصلحة الطالب، ويظلم المدرس المجتهد في نفع طلابه ومادته. ويقترح جعل تأليف الكتب، والترجمة، من الأعمال المعتبرة في الترقيات الأكاديمية، ويؤيد إضافة محتوى محلي في المناسب من المناهج والمواد الدراسية؛ حتى لو اعترض عليه بعضهم بحجة أنه يريد تدريس أشعاره!

هذه طريقة أستاذ شغوف بمهنته السامية، وبعمله مع عقول الطلاب وأرواحهم، ولذا فلا غرو أن يكتب: يكفيني أن أُترك وشأني مع طلبتي؛ فشغلي بهم لم يجعل لديّ وقتًا للتذمر والبحث عن مواضع الشكوى، ومواطن التنغيص. ويبدو لي أن أحد أسرار تفوقه في ممارسة التعليم، وفي مناصبه كافة، أنه لم يقارن نفسه بالآخرين، ولم ينافس أحدًا على شيء، ولم يضع وقتًا في اللهاث والمسابقة والمزاحمة، بل كانت أقوى تحدياته داخلية يوقن بها دون أن تظهر للعلن، ولذا اعترف -دون أن يتواضع بالضرورة- قائلًا: إن شهادة الدكتوراه لا تعني مزيد فطنة أو ذكاء أو عبقرية لحاملها، وإنما جهد مبذول، ومقدرة على البحث، ولا شك أنهما مما يُشكر ويذكر لمن وفق إليهما، وتعامل معهما باعتدال.

وكم هو جدير بالجامعات ومؤسسات التعليم الرسمية والخاصة من وزارات وشركات وغيرها، أن تهب للمعلّم والأستاذ ما يستأهله ويعينه على تأدية الأمانة الثقيلة التي سيُسأل عنها، ويشمل ذلك الاستقرار المادي، والإعانة على البحث والتطبيق العملي والكتابة والنشر، إضافة إلى التوسعة عليه في الوقت، وإتاحة مشاركته مع بقية مؤسسات المجتمع على اختلاف مرجعيتها فيما يستثمر علمه، ويبرزه في محيطه ومجاله، وينفعه وينفع به، دون أيّ إضرار بمسؤوليته الأهم والأولى في التعليم والتدريب والأخذ بيد الناشئة والشباب.

فيا أيها الأستاذ، ويا أيتها الأستاذة، سواء أكنت في الجامعة أم فيما يسبقها، وأيًا كان تخصصك في أصول الفقه، أو مصطلح الحديث، أو اللغة، أو الفيزياء، أو الطب، أو التمويل، أو القانون، أو الإعلام والسياسة، أو الاجتماع والتربية، أو البيئة والفضاء، أو التقنية والذكاء الاصطناعي، أو غير ذلك، دونك شيء من تجربة من سبقك، فخذ بأحسنها، وطوّر وزد وابتكر، ولعلك أن تنشر تجربتك لاحقًا، والله يبارك فيك ولك وبك ومنك، ويجعل ثمارك مباركة يانعة ظاهرة في مخرجاتك العلمية والعملية خاصة فيما بين يديك من طلبة وطالبات؛ فمهنة التعليم تعين على تجديد النشاط والحيوية، وتزيد في العلم والعقل، وليس بكثير علينا حين ننتظر من أطرافها بركات متوالية متعالية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 09 من شهرِ شعبان عام 1443

12 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)