قراءة وكتابة

هل في الكتابة إفراط؟!

Print Friendly, PDF & Email

هل في الكتابة إفراط؟!

كنا في جلسة بحرية أنيسة وأنيقة ورائقة ولذيذة، وهي في وسط الصحراء، ولا بحر حولها، وإنما كنت مدعوًا للعشاء في مطعم يقدم المأكولات البحرية التي يسري بين الناس مقولات بأنها تبعث على الحيوية، وتمنح المزيد من الطاقة، والله أعلم بالحقيقة، وإن كنت أذهب إلى ما يراه أحد أكابرنا الراحلين بهذا الخصوص، ومختصره النفي! وكان هدف الاجتماع في ذلك المكان الغالي، المحفوف بالجمال واللطف، مناقشة مشروع كتابي، وبعد الفراغ من وجبة العشاء والاستمتاع بشرب الشاي في أكواب زجاجية، سألني صاحبي الأثير، وهو عراب هذا اللقاء عن سر إفراطي في الكتابة!

الحقيقة أن السؤال لم يفاجئني حتى لو كنا مع أناس أراهم للمرة الأولى، ويعود نفي المفاجأة لتقنية فكرية سوف أحدثكم عنها في مكان ما داخل هذا المقال. المهم أني شرعت بالإجابة التلقائية عن سؤال صاحبي المثقف العزيز، ذي المآثر الكثيرة عندي، مع اعتقادي بأنه يعرف أكثر الجواب، وآمل ألّا يكون المستمعون الآخرون المستهدفون بسماع إجابتي قد تسرب إليهم الملل، علمًا أني أحاول دائمًا مراقبة المستمع، فإن شعرت بأنه لا يستفيد أو لا يستمتع توقفت؛ فهو خير لي ولهم ولما يدور بيننا.

فأول شيء، وهو معروف في عالم الكتابة لدرجة تقترب من الإجماع، أن كثرة القراءة تهيج المرء على الكتابة، لكنها -للمفارقة- ربما تحجزه عنها أحيانًا عندما يستلذ الكاتب بالقراءة فلا يقوى على تركها، أو يقع فريسة للمقارنات والظنون السيئة بالنفس وقدراتها. والقراءة هي رافد الكتابة الأعظم؛ لأنها تفتح ذهن القارئ على فكرة أو ما يماثلها أو ما يناقضها، وربما جعلته يبصر حقلًا لم يطرأ له على بال، أو وجد في الكتاب ما يدعو لمراجعته بأيّ نوع من أنواع التدوين عن الكتب، ولو كتب القارئ المتوسط عن جزء مما يقرأ لما توقف عن الكتابة البتة.

ثمّ إن من أسباب كثرة الكتابة حرث المرء في ذاكرته، فكم من مرة ومرة تذكرت قصصًا للأبوين رحمهما الله، أو أحداثًا زمن الدراسة، أو غير ذلك من ذكرياتي، وكان من المناسب إيراد الواقعة والتعليق عليها بما يفيد، وربما كتبت عن شيء حديث العهد كي لا أنساه، ووجدت بفضل الله من التجربة أن عصر هذه الحكايات ينتج عنها مادة فيها فائدة وإمتاع سواء اجتمعا أم افترقا، وكم من مرة كتبت عن موقف صار لي مع صاحب السؤال عن الإفراط الكتابي، ومنها هذا المقال! ولذلك فبعد نهاية ذلكم اللقاء قررت كتابة ما تحاورنا به والإضافة عليه، لتثبيته، وربما يفيد المطلع عليه، وهذا سبب يرفد كثرة الكتابة؛ إذ أحرر أيّ محاضرة، أو استضافة، أو مشاركة، ثمّ أنشرها.

ومن أسباب الإعانة على الكتابة أني بفضل الله مستمع جيد إلى حدٍّ معقول، وبالتالي أفيد من مرويات الآخرين وآرائهم، وكم من مرة قلت لمحدثي: إما أن تكتبها أنت أو هي لأخيك قبل أن يفترسها ذئب النسيان! وقد أصبح من المعتاد عند أولئك الأفاضل أن يخصني الواحد منهم بشيء مميز وفريد أحيانًا للكتابة عنه؛ ولهذه القصة مقال آخر متى نشطت له، وبالجملة فكلما كبرت آذان الكاتب اتسع عقله، وزاد مداد قلمه.

كذلك من دواعي كثرة الكتابة الحرص على المفاخرة بأفاضل أهل العصر وأهل البلد أو غيرهم ممن سبقنا بالزمان أو خالفنا بالمكان، وقد تكون الكتابة عن راحل حال وفاته مباشرة، وهذه لها تفاعل أكثر من الكتابة عن الأحياء أو الراحلين منذ زمن بعيد. ومن طريف ما سمعته تعجب البعض من سرعة الكتابة عمن أدركته المنية لدرجة نشر المقال قبل إدراج المكتوب عنه في قبره، وسبق لي تفسير ذلك في مقال سابق. ومن الطريف والمحزن معًا أن بعض المحبين يقولون نعرف وفاة بعض الأخيار مما تكتبه، مع أني لا أخص الراحلين فقط بالكتابة، وقد أكتب عن حي يرزق؛ فيتورط من رسخت في ذهنه هذه الصورة الخاطئة. ولا أكتمكم سرًا فبعض القراء يطالبني ألّا أكتب عن حي أبدًا، وبعضهم يحث على ذلك حثًا من باب تكريم الأحياء، ومن الطبيعي أن أفعل ما أراه الأصوب بعد الاستخارة؛ فيندر أن أنشر شيء قبل أداء ركعتي استخارة.

علمًا أن الكتابة في السير والتراجم تنصرف في جلّ الأوقات حسب اجتهادي للثناء على الخصال الحميدة، والإشادة بالمناقب والمكارم، أو رواية المواقف الجليلة والطريفة، أو الإشارة للشهادات النادرة. وهذه الكتابة إما أن تكون ابتدائية بعون من الله وتوفيق، أو مقتبسة من كتاب عن سيرة صاحب الترجمة بفضل من الله وتأييد، وبعض من كتبت عنهم لم أسبق إليهم فيما أعلم، والحمدلله. وكان من ثمار هذا النوع من الكتابة أن وقفت على موضوعات وأكثرت من الكتابة حولها مثل: رجل الدولة، والعراقة، وخطباء عرفة، وأخبار البلدان، وسير بعض المؤسسات أو المشروعات.

كذلك قادتني جداول المعلومات التي جمعتها إلى كتابة مسهبة لافتة للنظر عن تاريخ مجلس الوزراء السعودي الموقر، وعن أعضائه وما يرتبط بهم من معلومات في شؤون عديدة، وبعضها من النوادر التي لم تُعرف من قبل أو تشتهر، وأقول ذلك تحديثًا بنعمة الله واعترافًا بوافر مننه، وليس مجرد افتخار صرف، أو ادعاء لا يسنده برهان. ولو وجدت قدرًا من التعاون لكتبت عن مؤسسات أخرى مهمة وعن شخصياتها، لكن المعلومة الأكيدة تنقصني.

ومما يسر لي الكتابة محاولة التجديد في طرق موضوعات موسمية دينية ووطنية وغيرها مثل: شهر رمضان، والأعياد، والحج، ويوم التأسيس، واليوم الوطني، والدراسة، والمسابقات الرياضية، وغيرها، ولو جمعت هذه المقالات الموسمية لجاءت في كتاب متوسط الحجم، يضم خمسين مقالًا أو قريبًا من هذا الرقم. ويقترب من هذا الصنف محاولة التدبر في بعض آيات الكتاب العزيز، وأحاديث السنة النبوية، وأحداث السيرة المطهرة، على حذر ووجل.

بقي أن أقول لمن يقرأ: إنه من عظيم نعمة الله ألّا يقيّد المرء نفسه بطقوس كتابية، وأن يحاول الكتابة على أيّ حال، وفي أيّ زمان أو مكان، وقد تكون الكتابة على ورق، أو في شاشة، أو داخل الذهن، وهذه الأخيرة قليل فاعلها مع أهميتها. ومن النعم الإلهية المسداة  -ونعم الرب لا تُحصى- ألّا يبتلى الكاتب بالبحث عن الكمال المستحيل، فأعمال البشر مهما أحكمت وأتقنت فستظل عرضة للنقد، وفيها من الثغرات بحسب فطنة الناظر فيها محبًا كان أم مبغضًا! وفي الكتابة متنفس وروح وراحة، وفيها تعليم للذات أنفع من أكثر طرق التعلّم، وفيها تقويم للسلوك وإن اعوج المرة تلو المرة، وايًا كان فمن المحتمل أن ينتفع بالكتابة إنسان واحد أو أكثر، وهذا مغنم وحده يكفي للدفع نحو هذا الباب الثمين الغالي من التأثير الحسن الخالد.

وقبل الختام، أخبركم عن حكاية الأسئلة المفاجئة، وأختم بقصة لطيفة عن الكتابة، فلي مع الأسئلة المفاجئة طريقة أعلّمها باستمرار لمن هم حولي، وخلاصتها أني عندما أذهب إلى لقاء أو اجتماع أو مجلس، أحاول حصر الأسئلة المحتمل طرحها، أو الموضوعات الوارد طرقها، وبالتالي أتجهز للجواب عنها، أو للمشاركة فيها إن قدّرت في ذلك مصلحة. وقد ينتهي اللقاء دون أن يعرض لي شيء مما تهيأت له؛ بيد أني أكتسب الفائدة بالمعلومة، والأهم هو التدريب على التحضير، والاستعداد، والمرونة الذهنية، وانتفاء الذهول من أيّ مفاجأة، أو الدهشة عند أيّ سؤال.

أما القصة الأخيرة، ففي مرة كنت في مجلس ومناسبة اجتماعية، فاقترب مني رجل ثري أعرفه، وسبق لي أن رأيته مرارًا، وربما أنه استثمر تباعد الناس وانفضاض المجلس بعد الفراغ من العشاء، وقال لي بما يشبه الهمس: أغبطك على كثرة الكتابة وهذه الثقافة وكم أتمناهما! فأجبته بجرأة غير معهودة عندي: -ويشهد خاصة الأصحاب على ما بي من حياء وربما تبسم بعضهم وهو يقرأ خبر هذه الشهادة-: كم تعطيني من مليون وأعطيك الثقافة والكتابة كلها بلا مثنوية -أي بلا استثناء-؟! فبهت الرجل من جوابي الذي لم يتوقعه، لذلك خففت ما حلّ به من فاجعة حينما أعلمته أنها مزحة، وأن الأمر يُدرك بالقراءة لا أكثر، وعقب ذلك امتنع عن إعلان هذه الأمنية أمامي لا سرًا ولا جهارًا، والحقيقة التي أطوي عليها الصدر، أني أحب الكتابة ولن أتنازل عنها مختارًا، وإن كنت أحبُّ أيضًا ذلكم الغائب الجميل المقترح استبداله بها!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 11  من شهرِ رمضان عام 1445

21 من شهر مارس عام 2024م

Please follow and like us:

9 Comments

  1. ماشاء الله جميييل جدا هذا المقال

    ولتعلم أن استمراريتك نقتدي بها كما أنها محفز إيجابي 👏🏻

    هنيئا لك وبارك الله في حرفك دائما

  2. الرغبة الجارفة في الكتابة دائمًا تأخذنا بالتفكير نحو الغائبين، إنها تخفف وطأة الانتظار ، الكتابة تنهض بالحس من الجفاف الى ينبوع متدفق من الدفء، نتخلص بالكتابة من كل عطب يهدد الروح، ومن كل جمود يُزهق النفس، نريق الحبر فوق الورق، نكتب عن الأحياء تقديرًا لهم وعن الأموات وفاء لهم، لكن أصعب أنواع الكتابة وأشقها على النفس أن نكتب كلمة واحدة للأشخاص اللذين يتربعون في حجرات القلب!
    ليس مستغرب عليك أن تجنح مقالاتك نحو الآفاق، ومنها هذه البديعة التي تنضم لعقد لؤلؤك الفريد الذي يطوق جيد الكتابات.. أنت لست مُحفزا لنا فقط بل مُلهمنا دائمًا كاتبنا…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)