قراءة وكتابة مواسم ومجتمع

اكتب عن اسمك!

Print Friendly, PDF & Email

اكتب عن اسمك!

في أحد برامج التدريب على الكتابة التي أقدمها بين آونة وأخرى، جرى نقاش تطبيقي مع المشاركين عمّا يمكن أن يكتبوا حوله بناء على ماورد في القسم التدريبي الخاص بصناعة الفكرة، فقلت لهم: يمكنكم الكتابة عن كلّ شيء، عن الشارع، وعمّن حولكم من أناس وأشياء وأحداث ومناظر، وحتى أؤكد لهم كثرة الأفكار وتوافرها بين أيدينا وقربها الشديد اقترحت عليهم أن يكتب كلّ واحد منهم عن اسمه الذي يُنادى به!

فتعجب بعضهم! وقالوا: ماذا يمكن أن نكتب عن أسمائنا؟ فأجبتهم أن الممكن كثير، ومنه البحث عن معنى الاسم والكتابة فيه، وهذا الجانب هو الذي حفز الكاتب العراقي عبّود الخزرجي لتأليف كتاب عن معاني الأسماء العربية بعد أن سأله المعلّم في مرحلة دون الجامعة عن معنى “عبّود” فلم يعرفه، ومن ذلك الوقت عزم على الجمع والتأليف. وأذكر في هذا الباب أني صنعت ختمًا لمكتبتي قبل ثلاثين عامًا عند خطاط مصري لطيف، وأبى تخفيض السعر حتى قلت له ما رأيك أن أخبرك بمعنى اسمك شريطة التخفيض فوافق!

وعندها أنبأته عن معنى اسم “هشام وهاشم” وقصة الاسمين حسبما قرأت، ويبدو أن الطريقة أعجبتني وأعجبته فسألته عن اسم أبيه وحصلت على تخفيض جديد بعد أن أعلمته عن معنى ذلك الاسم! ووجدت الأمر مفيدًا ثقافيًا وماليًا فطلبت منه أن يخبرني عن اسم جده، وفعلًا نلت التخفيض الثالث باستحقاق لأن اسم الجدّ “إبراهيم” ومعانيه كثيرة مختلف فيها. ولم أفوّت الفرصة لسؤاله عن اسم جدّ والده لعلي أظفر بتخفيض إضافي، فكان من الأسماء المعبدة لله سبحانه وتعالى، ومعناه معروف والحمدلله الحميد على كل حال.

كما يمكن الكتابة عن سبب التسمية، والأسباب للتسمية فيها حكايات لا تنتهي، فمنهم من يُسمى على قريب أو صديق حي أو راحل، أو على شيخ وأستاذ، أو على ذي فضل، أو لتوافق مع عصر أو حدث، وغير ذلك، ومن أعجب ما سمعته مباشرة من رجل أن جميع من حوله تنازعوا في تسمية مولوده الأول، مع أن التسمية حقّ خالص للأب ومعه الأم، ومن الحكمة تركهما وشأنهما، فآثر الرجل قطع خلافهم الذي أزعجه بإطلاق اسم “عدنان” على ولده دون وجود سابق لهذا الاسم في محيطهم، ولي صديق نوى والده تسميته “صخرًا” بيد أن جدّ الصديق توفي فأصبح اسم الجد الجميل من نصيب الحفيد.

ومن أفكار الكتابة حول الاسم أن تسأل: هل سبقك به أحد من أسرتك أو قرابتك؟ وما علاقتك بمن سبقك منهم؟ وكيف جاء الاسم إليكم؟ ومما أذكره في هذا السياق أن أحد الزملاء هو أول “أسامة” في أسرتهم وبلدتهم وبعده تتابع عدد من الأسود! وأخبرني صديق أن اسم أحد آبائه “عبدالمغني” وهو اسم نادر في منطقتهم، وسبب التسمية يعود إلى وجود هذا الاسم في خؤولة الأب وهم أسرة مباركة لها علاقات وثيقة مع الحواضر العلمية وأشياخها، بينما استعار رجل اسم عامل عنده يحبه كثيرًا، وجعله لابنه “عبدالغفار” الذي أضحى أبًا الآن.

أيضًا يرتبط بالاسم طرائف يحسن الكتابة عنها، فمنها أن أستاذًا عزيزًا من إحدى بلاد الشام درسني وكان اسمه “نمر”، وقد تفاجأت حين علمت بأن جاره الملاصق له مباشرة أستاذ شامي اسمه “ذيب”! وسمعت عن رجل لديه ثلاثة أبناء هم: “شبل” و “نمر” و “فهد”. وقرأت مرة مقالة للكاتب الشهير جهاد الخازن يقول فيها إنه حضر حفلة زواج لشاب وشابة أحدهما من أسرة “القط”، والآخر من أسرة “الفأر”، وهي أسر كريمة معروفة في بعض البلاد. وكاد طالب أن يحرم من نيل وثيقة تخرجه الجامعي لأن اسمه الرباعي يماثل اسم طالب عليه قرض لصندوق الطلاب، ورقمهما الجامعي واحد مع اختلاف السنة، والكلية التي تخرج فيها يشبه مسماها اسم كلية الطالب المقترض، وشهدت بنفسي بداية هذه الواقعة ونهايتها.

وأنبأني العزيز “أ.د.محمد النذير” أن مشرفه العلمي في إحدى مراحل دراسته أستاذ كبير من السودان اسمه “د.محمد البشير”، وسمعت عن رجل زوّج ابنتيه لشابين يحمل كلّ واحد منهم اسم أسرة عريقة يماثل أسماء بعض الأنعام ولم يسلم الحال من تعليقات مستطرفة. ومن لطائف الأسماء أن أستاذًا جامعيًا، وزميل دراسة، ينتميان إلى قبائل عربية شمالية يحمل كلّ واحد منهما اسمًا يشابه أسماء الأجانب نطقًا وكتابة لدرجة أن الأول كأنه من أبطال رواية البؤساء، وشابه الثاني اسم لاعب معروف في منتخب فرنسا حينذاك، أما الثالث فضابط اسمه القديم “يوشع” قبل أن يبدله إلى “يوسف”، وأخبرني صديق أن اسم جد زميله في المرحلة المتوسطة “يوشع”!

كذلك يحرص بعض أبناء الأسر كثيرة العدد متشابهة الأسماء على تسمية أكبر أولاده أو أحدهم باسم مميز لسهولة التمييز والتعريف به، ولهذا السبب نجد أسماء غير معهودة ولا متكررة لدى بعض الأسر، ومن ذلك أن رجلًا رزق بصبي فاختار له اسم “إياس” كي ينفرد به وعسى أن يكون مثل القاضي إياس، وقبل نهاية أيام نفاس إياس حضر الأب في لقاء أسري لشرب القهوة والشاي وتبادل الأحاديث والأخبار بين العشائين، وبشّر الحاضرين بالمولود وربما أظهر السعادة باسمه الجديد؛ بيد أن أحد كبار الأسرة قال له: يا فلان معنا في هذه الجلسة أربعة من بني عمك لدى كلّ واحد منهم ابن اسمه إياس! ولو كنت أتذكر راوي هذه القصة لسألته ماذا أسمى الرجل ابنه الثاني؟

ومن الاحتمالات الكتابية بناء على الاسم التعمق في إحصاء الذين حملوا الاسم ذاته من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، ومن العلماء والكتّاب والأدباء والشعراء والقادة والزعماء ووجوه الناس والمؤثرين في مجتمعاتهم. ويناسب من هذا الباب تتبع مواطن انتشار الاسم في مكان أو عصر أو طبقة أو مهنة، والتحري حول تاريخ الاسم لمعرفة أول من تسمى به، “فأحمد” والد العالم اللغوي الكبير الخليل بن أحمد هو أول من حمل هذا الاسم بعد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف أحد اسمه “عبدالعزيز” أو “عبدالملك” قبل ابني مروان بن الحكم، والثاني منهما خليفة وأب لأربعة خلفاء، بينما اكتفى الأول من المجد بأنه والد الخليفة عمر بن عبدالعزيز المجدد الأول لهذا الدين رحمة الله ورضوانه عليه. وفي باب الأوليّات ذكر المؤرخ الفلسطيني د.نقولا زيادة في سيرته الماتعة أن ابنه “رائد” أول من خُلع عليه هذا الاسم فيما يعلم.

ثمّ إنّ من مجالات الإبداع الكتابي عن الاسم إعمال الخيال بعد طرح سؤال افتراضي، والخيال والافتراض من طرق صناعة الفكرة الكتابية وغيرها، وخلاصة السؤال: لو لم يكن هذا هو اسمك فماذا تتمنى أن يكون؟ ودع عنك الجواب المثالي المستهلك بأنك لن تتمنى إلّا اسمك وحلّق بنا متخيلًا مفترضًا. كذلك سوف يطلعنا الصريح من الكتّاب على مدى التناسب بينه وبين اسمه؛ لأن البعض يُبتلى باسم يخالف حاله تمامًا، وفي بعض الأحيان لا يتلاءم مع مرحلته العمرية، أو مكانته، أو غير ذلك، ومما لا أنساه أن أسرة جاورتنا في خيام الحج عام (1419)، وكان معهم طفل اسمه “أديب” ليس له من اسمه نصيب! وسوف أكتب قصته معنا بحول الله لاحقًا. وختمت الأفكار للكتابة انطلاقًا من الاسم بأن معكوس الاسم، ومرادفاته، وكنيته الشعبية، وترخيمه، وتناسقه مع أسماء إخوانك وأبنائك وزوجك، ومعناه في غير العربية، جميعها حقول قابلة للاستزراع الكتابي الخصيب.

وبعد أن أفضت في بيان هذا الأمر، لمعت بوارق في عيون من أثاروا الموضوع، وتشجع سائل وسأل: هل فعلت أنت؟! فأجبتهم أني قد فعلت وكتبت عن اسمي في نفس يوم ميلادي، ثمّ كتبت ليس مقالة واحدة عن الأسماء بل مقالتين عن معاني الأسماء وما يحيط بها من وقائع، وخصصت الأولى لأسماء البنات، وجعلت الثانية عامة، ولو نشطت لكتبت معهما ثالثة إذ أن بقاء الأختين وحدهما مدة طويلة يوجب استدعاء ما يؤنسهما من جنسهما، وهو أمر أحرص عليه فيما أكتبه، وفيما أكتبه فقط!

إن الكتابة مع صعوبتها ومشقتها ستغدو ألين بين يدي من تعوّد عليها حتى تتثنى أمامه في منظر يغري على الإمساك بالقلم، أوفتح الشاشة وإعداد لوحة المفاتيح، وما على المرء إذ ذاك إلّا الشروع في التدوين والاسترسال دون انقطاع أو تنقيح أو معالجة، وبعد الهدوء وإيجاد منطقة فراغ من زمن أو حال يسوغ للكاتب الرجوع إلى ما سطره ليعمِل فيه عقله وعلمه وعينه الجمالية ولغته، والله يوفق مَنْ كتب فنفع أو أمتع، ويهدي من سوّد سطرًا أو أزيد بغير ذلك، فقد مللنا كثرة مَنْ يهذي!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الاثنين 16 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

26 من شهر يوليو عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. مقال شيق وحيوي . تشجيع للراغبين عن معرفة اسماهم وماذا تعني . { لاان لكل امرئ من اسمه نصيب }هذا ماقاله العرب قديما . كما قيل ان كل شخص ياخذ صفاتا من اسمه . على الاكثر . لاان الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة الحديبية حين اقبل سهيل بن عمرو من قبل قريش للتفاوض من الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال لااصحابه قد سهل لكم من امركم . تفاؤلا باسم سهيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)