مواسم ومجتمع

على مائدة الإفطار!

Print Friendly, PDF & Email

على مائدة الإفطار!

ربما لا تجتمع أغلب الأسر المسلمة في عصرنا هذا على وجبة طعام مثل اجتماعها على مائدة الإفطار في أيام شهر رمضان المبارك، وهذه فضيلة تضاف لفضائل هذا الموسم العظيم المنتظر، الذي بمقدمه يتغير كثير من الناس نحو الأحسن، وتبدو الحياة بمنظر أبهى يختلف عما كانت عليه قبله، وسوف يختلف كذلك عما ستؤول إليه بعده، ولا غرو ففضل هذا الزمان القصير ظاهر جلي.

بل إن هذه المائدة الطيبة تكاد أن تكون الوحيدة التي تجمع أهل البلدة كلهم عليها في وقت واحد، إذ تخلو الطرق أو تكاد، ويحلو الانتظار وهو في بعض الأحيان مرُّ المذاق. وتمتاز مائدة الإفطار بقدر من السكون والخشوع، وبلذاذة لا تعدلها أيّ مائدة أخرى حتى إذا كانت غير متكلّفة، ففيها فرحة الصائم بفطره، وفرحته بموعود مولاه، وأمله في استجابة دعائه، ويزين ذلك كله أنها موضع لحفظ الذكريات مع الأبوين والإخوة والأخوات، وسبب لبقاء عبق الأسرة وترسيخ روابطها.

وعلى مائدة الإفطار ينتظر الجميع صوت الأذان أن يعلو، وهو وإن كان يرتفع فيفطر الصائمون ومن معهم، إلّا أن له أكثر من دلالة؛ فهذه الأمة مرتبطة بشعائر دينها، ومنضبطة بتوجيهات مصادرها الأصلية، ولا يكاد أن يحركها بانتظام دفعة واحدة، صوب أمر مشترك، وغاية واضحة، سوى هذا الدين وتعاليمه وشعائره وأذكاره، فالموفق من سار خلف سنن هذا الشرع المطهر، وتبع أحكامه القويمة، ففيها المنجى وإليها الملتجأ، وبها تستدفع شرور الدنيا وغوائلها، وبها تتقى النار التي تلظى.

ثمّ إن مائدة الإفطار، وإن اجتمعت عليها صنوف المطعومات والمشروبات، فستظل الرطب والتمور في المرتبة الأولى بتسابق أيدي الصائمين إليها؛ حتى لو وجد الصائم إلى جواره الفراولة والمشمش بألوانها الزاهية، وروائحها الزاكية، ومذاقاتها اللافتة، فهي لا تنافس الرطب والتمر للتنصيص عليهما في السنة الشريفة، وما أحرانا بأن نقتفي أثر سنة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في كل شيء. ومثل التمر يفوز الماء واللبن على أيّ مشروب آخر مهما كانت مغرياته؛ ولئن فتن أقوام بدخان متطاير، أو قهوة سوداء، أو شاي منعنع، إلّا أن الماء واللبن يتربعان على قائمة مشروبات الصائمين، وبهما وردت السنة الجديرة بالطاعة والتقديم في الشؤون كافة، سواء ما خصّ البطن منها أو ما فوقه وتحته.

وعلى مائدة الإفطار يغتنم الصائمون فرصة الدعوة المجابة، فيصرفونها لأنفسهم ولمن يحبون، ولبلادهم، ولأمتهم، ولمن نكب من المسلمين، ولا يحول بينهم وبين صادق الدعاء ومخلصه شيء مهما بلغ نفوذه أو عظمت سطوته، وإن الرب القدير لمجيب دعوات الضعفة، ومخمومي القلوب، والعبّاد، والأولياء الصالحين، فهذا موعود حقّ جاءت به الأخبار الثابتة، ولن تخلفه الأمة البتة، وإنما الشأن فيمن يدعو بحضور قلب، ولوعة اضطرار، مع الإيمان بالحكمة الربانية في تعجيل الإجابة أو تأخيرها.

كما أن موائد الإفطار تتجاوز المنازل المغلقة إلى المجالس العامرة، والساحات المفتوحة، والمساجد، والجوامع، والطرق، إذ ينفق الكرماء عليها أموالهم، ويصرف لها الخيرة أوقاتهم وجهودهم، وما أجدرها بحسن الإدارة كي تذهب لمستحقيها، وتنجو من الإسراف والهدر، وحتى يجتمع مع الموائد العامرة الفوائد الخالدة؛ فربما اهتدى ضال، وعرف حائر، ورجع شارد، وكم كان في الإطعام والإغاثة من سبب لخير عاجل أو آجل، ويكفي منه دفع المصائب، ومصارع السوء، والخروج من معرة البخل، ومثلبة غياب النجدة.

ألا ما أكمل مائدة الإفطار، وما أعلى ذكرياتها الحسان العِذاب، فعلى رأسها كان والدي رحمه الله يتمتم بالدعاء والابتهال، ويحثنا على ذلك بصنيعه المشاهد قبل خطابه الآمر، وكانت والدتي غفر الله لها تديرها بكل حب، وتتباشر وهي توزع صنوف الطعام علينا بعد التمر والماء، وتسأل كل واحد من فلذات كبدها عن أيّ صنف يشتهي، وأيّ نوع يبتغي، فاللهم آجرهما وتقبل منهما أحسن العمل، وارفع لهما الدرجات العالية عندك.

أفلت شموس أحبتي وترحَّلوا   واستوحشتْ دارٌ تئن ومنزلُ
كانوا هنا بين العيون ورمشِها   حلُّوا ومن بعد المُقام تحولوا

وقد يحصل للبعض بناء على فارق التوقيت فرصة في أن يتابع برنامج الفقيه الأديب الشيخ المكي والشامي علي الطنطاوي -رحمه الله- الذي يحمل عنوان هذا المقال “على مائدة الإفطار”، واستمر ضيفًا على شاشة التلفزيون السعودي سنوات عددًا، وما أحوج الشاشات المختلف حجمها وطرائقها وأجهزتها لمثل هذا الشيخ في علمه وفقهه، وفي أدبه وسمته، وفي حكمته وهدوئه، وفي جمال أحدوثته وطلاوتها، وفي أبعاده التربوية والمجتمعية، التي تسري للنفوس مثل نسمة عليلة لاتجد مدافعًا، ولا مقاومًا، فيستفيد المقبل الموفق، ويغنم الباحث عن الصواب، ويصمت الشانئ المتربص طوعًا أو كرهًا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين غرة شهر رمضان المبارك عام 1445

11 من شهر مارس عام 2024م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. زاك الله خيرا ، الكاتب احمد ، مقال جميل وراءع تسر النفوس بقراءته ، وبالأخص للناس اللذين كتب عليهم العيش. في المهجر ، لقد أرجعتنا بمقالك الهادف إلى عشرات السنين ، إلى ايام الصبى ، التي كانت ايام ذهبية ، وبالأخص إلى الام وما تبذله من جهد لجعل هذا الشهر ، الكريم من اجمل الايام ، للاجتماع على السفرة ، وجزا الله خيرا برنامج الاجاويد ، على قناة المجد ،وكل المشتركين فيه ، لما يقدومونه من برامج شيقة وهادفه ومفيدة ، ترجعنا إلى ايام شبابنا ، فلهم الشكر الجزيل ، وجعل كل ما يقدمونه في ميزان حسناتهم وحسنات والديهم أنا واحدة من اللين أتابع هذه القناة ، واستفاد منها ،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)