إدارة وتربية سير وأعلام

ثقافة بين يديّ أبي!

Print Friendly, PDF & Email

ثقافة بين يديّ أبي!

ذات عيد، هاجت بي الذّكرى ولم أكن قد سلوت، وإنّما ارتفع مستواها حينذاك؛ فمددت يدي إلى أقرب جهاز، وفتحت حسابي في تويتر، وكتبت تغريدة واحدة ضمن وسم أسميته ذكرياتي مع أبي، وقد حرمني التّفاعل الكبير مع الوسم من النّوم، فكتبت بضع تغريدات متلاحقة، وكلّ فتاة بأبيها معجبة.

ثمّ طلب بعض القرّاء جمع محتوى الوسم في مادّة واحدة، ومع قبول الفكرة إلّا أنّي تأخّرت في التّنفيذ، وجمع ما يخصّني، والإضافة إليه، وهو ما أفعله الآن، وأتمنّى أن يسلك الآخرون هذا الطّريق، تعظيمًا لأجر آبائهم، ونفعًا لجيل الشّباب من الجنسين قبل أن يتحمّلوا مسؤوليّة بنيهم.

وسأذكر هنا الوسائل التي استخدمها والدي رحمه الله لرفع وعينا، وزيادة حصيلتنا الثّقافيّة، وقد اجتهد غفر الله له، وبذل ما في وسعه، علمًا أنّه لم يتمكن من الانصراف الكامل إلى العلم والتّعليم مع محبته لهما، بسبب انشغاله مع والده وعمّه في التّجارة ضمن قوافل العقيلات أو غيرها، والله يسبغ عليهم جميعًا رحمته ورضوانه، وعلى من سأذكره أدناه من المسلمين.

القرآن الكريم:

لوالدي ارتباط وثيق الصّلة بكتاب الله سبحانه وتعالى، وكانت ختماته كثيرة جدًا، والمصحف لا يكاد يبتعد عن يديه إلّا نادرًا، ولذلك كان يحفظ كثيرًا من الآيات والسّور، ويستظهرها، ويعرف مواضعها، ويعلم تفاسيرها ويذكرها لنا، ويجمعنا ليقرأ علينا دعاء الختمة، مع شرح غوامضه.

وأتذكر أنّ آية وردت فيّ مقرر التّوحيد، ونسبت لموضع غير صحيح من سورة النّساء فصوبّها لي، وفرح أستاذي بذلك كثيرًا؛ لأنّه لم يهتدِ إلى مكانها الصّحيح، وقرأ خطيب الجمعة آية على أنها من سورة آل عمران، وبعد الصّلاة قال لنا الوالد هي في الأعراف.

مع الشّيخين:

يستشهد والدي كثيرًا بأقوال الشّيخين ابن سايح، وفيصل المبارك، فأمّا الشّيخ السّايح فهو معروف عند أهل عيون الجواء، وربّما أنّ والدي سمع منه في طفولته، بينما حضر دروس الشّيخ فيصل في التّفسير حينما كان قاضيًا في الجوف، حيث قضى الوالد شطرًا من شبابه هناك، وامتلك مع والده منزلًا في سكاكا، وكان مستودعًا لبضائعهم التي يجلبونها من الشّام والعراق.

ويروي الوالد أنّه وقف بجوار الشّيخ فيصل بعيد المغرب، فسمعه يقول وهو ينظر إلى السّماء: “بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ…” الحديث، ثمّ يتنّهد قائلًا: إي والله قد عاد! وحين انتبه الشّيخ للشّاب المجاور له سأله: أنت من أهل العشاء؟ فأجابه بالنّفي، وأنّه يرغب في السّلام عليه ومساعدته في النّزول، وربّما أنّ الشّيخ فيصل كان يقدّم العشاء للمساكين والفقراء.

جلساء متنوعون:

كان يحضر إلى مجلس الوالد ومتجره أناس مختلفون، أو يشاركهم في مجالسهم، ففيهم من لديه علم شرعي كالشّيخ عثمان الصّغير، ومنهم الأديب الكاتب كالشّيخ إبراهيم الحسّون الذي كان يختبر ثقافتنا في السّيرة والتّاريخ والنّحو، وفيهم رواة شعر، ووعاظ، وعوام تمتاز أحاديثهم بالتّلقائيّة والإمتاع، ومن ضمنهم أفاضل من العراق، وفلسطين، ومصر، وكنا نشارك في الجلسة، ونستمع، ونناقش.

التّشجيع المبكر:

يفرح الوالد كثيرًا حينما يحصل أحدنا على شهادة تفوق، أو يجيد لغة، أو يكتب مقالة، أو ينشئ قصيدة، أو يقرأ كتابًا، ويعبّر عن سروره بالتّفاعل الإيجابي مع ذلك، وهذا من التّحفيز وتنشيط الهمّة.

نور على الدّرب:

يستمع الوالد بحضورنا إلى هذا البرنامج خاصّة حين يكون الّلقاء مع الشّيخين عبدالله بن حميد، أو عبدالعزيز بن باز، وكان صوت الشّيخ ابن حميد آسرًا، وطريقته في إعادة السّؤال رائقة. ولم أشاهد وجه والدي الكريم مظلمًا من خبر وفاة أحد بعد والديه وعمّه وشقيقته، إلّا لما بلغه نبأ وفاة شخصين أحدهما الشّيخ ابن حميد، وهذا من عظيم محبّة الوالد للشّيخ وتقديره له، كغالب أهل القصيم الذين عاصروه قاضيًا ملهمًا في بلادهم.

والحقيقة أنّ هذا البرنامج الذي بدأ عام 1392 بفكرة من الشّيخ صالح العلي النّاصر، وأدار أوّل حلقة منه الإعلامي الرّزين د.منصور الخضيري، يمثّل مع إذاعة القرآن الكريم وإذاعة نداء الإسلام مفخرتين للإعلام السّعودي لا يدانيهما مشروع إعلامي البتة، وكم لهما من آثار حميدة في الآفاق البعيدة والقريبة.

قول على قول:

يتابع الوالد كعادة أبناء جيله إذاعة لندن، ومن ضمنها برنامج قول على قول، الذي أعدّه وقدّمه الإعلامي الفلسطيني حسن الكرمي لمدة ثلاثين عامًا، ثمّ طبعه في مجلدات اشتريتها بمجرّد رؤيتها وفاء لذكرى والدي، ولمضمونها الشّعري الجميل، علمًا أنّ الكرمي عمّر لأكثر من قرن، وهو من عائلة فقهاء، وكتّاب، وشعراء.

السّياسة بين السّائل والمجيب:

من البرامج المفضّلة للوالد، ثمّ طبع أخيرًا في كتب من الحجم المتوسط، ومن الطّريف أنّ البرنامج أصبح اسمه فيما بعد بين السّائل والمجيب بحذف كلمة السّياسة، فتضايق الوالد وزهد فيه، وحين وردهم سؤال عن أمر شرعي، أقفل المذياع وقال: نحن بديننا أعلم منكم!

ابن الرّافدين اليهودي:

يرّن في أذني صوت هذا الرّجل الذي كان يقدّم برنامجًا ساخرًا عبر إذاعة صوت إسرائيل من أورشليم القدس، وهو إعلامي عراقي يهودي اسمه سلمان دبّي، وكان أداؤه مبدعًا، وأكثر سخريته من نظام البعث في العراق، وقد مات ابن الرّافدين عام (2002م)، قبل أن يشاهد نهاية حزب البعث، واعتقال أركانه ثمّ إعدامهم.

وبالمناسبة، فالكتب التي تتحدث عن يهود العراق كثيرة خصوصاً في الفترة الأخيرة، وبعضها يحاول حفظ تاريخهم، أو صنع رواية تفخيميّة لوجودهم، ومنها ما يسعى لكشف غموض رحيلهم، واختصّ جزء منها بالحديث عن مدارسهم ومشاريعهم.

هنا لندن:

كانت لندن حاضرة في وجدان كبارنا بسماعهم لأخبارها المسائيّة غالبًا؛ لأنّها أنقى صوتًا، وأجمع لأخبار اليوم، وأكثر مصداقيّة وصراحة. وكانت أخبار لندن، ودقّات ساعتها من برنامج والدي اليومي، ومعه عرفنا أصوات ماجد سرحان، ومحمّد الصّالح الصّيد، وهدى الرّشيد، وغيرهم، ومن خلالها تابعنا الأحداث السّاخنة حينذاك، مثل حروب الخليج أبعدها الله، واستمعنا للآراء المتباينة من كافة الأطراف.

مع الطّنطاوي والرّاوي:

ليس لوالدي حظّ كبير من البرامج التّلفزيونيّة، لكنّه كان يحرص على مشاهدة برنامج نور وهداية للشّيخ عليّ الطّنطاوي ظهيرة كلّ جمعة، وبعد أن يلقي الطّنطاوي التّحية، يرد عليه الوالد ويعقّب: نحن والله نحبك! كما يتابع والدي برنامج الشّيخ محمّد الرّاوي عن تفسير القرآن، وتناقل الرّسل بينهما السّلام والمحبة والدّعاء، ولم يطرب لبرنامج مصطفى محمود، وكنّا شركاؤه في المشاهدة والإفادة.

ورقة تقويم:

إذا وجد الوالد أنّ في ورقة التّقويم ما يستأهل النّقل، فإنّه ينتزعها، ويقرأها علينا حين اجتماعنا، فلم يكن يزهد بأيّ معلومة، ولم يضنّ علينا بإضافة مهما كان مصدرها.

ولا تخلو أحاديث الوالد من مواقف، وقصص، وتاريخ، وحكم، ودروس، حرص على إيرادها لنا، وتكرارها علينا، فمنها ما وعيناه حينها، وآمنّا به، وفيها ما لم ندرك أبعادها، أو لم نوافق عليها، بيد أنّنا الآن وبيننا وبين لفتاته أكثر من ربع قرن، نكاد أن نشدّ عليها أيدينا، ونجزم بصوابها، فاللهم لا تحرمه أجرها، وضاعف له حسناته، واكتب له الأنس والسّعادة في برزخه، ومبعثه، وحين يلقاك.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 12 من شهرِ رمضان المبارك عام 1439

28 من شهر مايو عام 2018م 

Please follow and like us:

10 Comments

  1. بسم الله الرحمن الرحيم
    لقد امتعتنا بسيرة والدك الشيقة الهادفة . رحمه الله رحمة واسعة . واسكنه فسيح جناته . انه السميع المجيب.نعم ايها الكاتب القدير لقد زاد واثرى رحمه الله في حصيلتكم الثقافية وتنوعها والتركيز لما يستفاد منه القارئ لدينه ودنياه . شي واضح ومتميز لما يلمسه القراء اللذين يقراؤن لكم.لك الحق ان تفتخر به . وجعل عملكم في ميزان حسناتكم وحسنات والديكم

  2. رحم الله والدك ووالدينا وجميع موتى المسلمين

    الله الله
    لم تجدبني سيرة والدك فقط
    بل انجذبت للرعيل السابق وحياتهم
    المليئة بالبساطة والعلم والسعادة والهناء
    الأصل في حياتهم تقوى الله ومتابعة رضوانه ويتوكلون عليه ويسعون في أرضه ويرزقون رزقاً هانئاً بلا هم ولا كدر في خواطرهم
    والآن بعُدنا كثيراً عن تلك الأصول فأصبحت النعم بأيدينا بلا طعم وأصبح الهم يغلف العقول والأبدان والمجتمعات حتى قيدتنا عن السعي بلا قيود خدرتنا فبتنا كمن يصحو من إفاقه لا يدري أين هو ولا ماذا يريد يغفو ويصحو والحال هو الحال

    اللهم اجعل خير سابقينا فينا
    وأعد علينا الهناء والسعادة
    واجعل الفأل أمامنا ورحمتك تسعنا وفضلك العظيم سابغاً علينا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)