عرض كتاب قراءة وكتابة

مدخل إلى البحث في العلوم السلوكية

Print Friendly, PDF & Email

مدخل إلى البحث في العلوم السلوكية

كثيرًا ما قرأت في سير قدماء العرب والسعوديين المبتعثين إلى الدراسات العليا في أمريكا وأوروبا انبهارهم من طرق التدريس الجامعي على اختلاف أنواعها التي يعود بعضها إلى مهارة الأستاذ وقدراته الذاتية، إضافة إلى عناية الجامعات هناك بمواد مكثفة عن فنون التعليم في الاختصاص الصحي أو الهندسي أو التقني أو الإداري أو الإنساني، وهي مهارات لم تكن ذات حضور أو أهمية تذكر في الجامعات العربية إلّا في زمن متأخر، إذ لا يكفي أن يحصل المرء على شهادة في اختصاص كي يغدو مؤهلًا لتدريس مقرراته وتعليم الطلاب مباشرة دون استيعاب مهارات تعليمية عامة وخاصة.

ومما عبر بي خلال قراءة تلك السير والمذكرات اعترافات أليمة بحراجة وضع الطلبة العرب أمام أساتذتهم وبين زملائهم الأجانب حين تقدموا ببحوث هشة تفتقد إلى المنهجية فضلًا عن العمق والابتكار وفن الكتابة وغير ذلك، مما حدا بهم إلى دراسة مواد في البحث العلمي وأساليبه، وتكرار المحاولة بعد قراءة متتابعة، وإفادة من إخلاص بعض الأساتذة وشهامة بعض نبهاء الطلاب، حتى تمكنوا من إتقان خطوات وأدوات ومناهج لم يسمعوا بها إبان دراستهم الأولية في جامعات بلادهم آنذاك.

وهو الأمر الذي تفطّن له أساتذة نبلاء مخلصون، مارسوا التدريس نظريًا والبحث والتقويم تطبيقًا عمليًا، وبعد أن درّسوا المنهجية نظريًا وتطبيقيًا لطلبة الدراسات العليا أدركوا مسيس الحاجة إلى تأليف لا يكرر الموجود، وإنما يكمله ملتزمًا بخصائص تجعله أكثر إحكامًا وأعظم فائدة مثل الإجرائية التي تجمع بين النظرية والتطبيق، والحداثة في الاتجاهات دون إغفال للجذور التاريخية، والتوثيق بنسبة العلم لأهله وحفظ فضل السابقين، مع تيسير العرض للطالب المبتدئ والأستاذ المجتهد، والشمولية لأركان البحث العلمي في خطواته ومناهجه وأدواته.

فكان من نتاجهم العلمي الراسخ كتاب عنوانه: المدخل إلى البحث في العلوم السلوكية، تأليف: د.صالح بن حمد العساف، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1409=1989م) ويقع في (449) صفحة، ويحتوي على إهداء مؤثر لوالده -رحمة الله عليه- وتوطئة وثلاثة أبواب. وقد توالت طبعات الكتاب بعد ذلك لأنه صار قبلة كثير من الدارسين والباحثين في جامعات المملكة وغيرها؛ خاصة أنه يشتمل على الخصائص الآنف ذكرها، ولأنه الكتاب الأول في سلسلة البحث في العلوم السلوكية، وهو خاص بالمفاهيم والمبادئ النظرية، ثمّ تلاه كتاب عملي تطبيقي بعنوان: دليل الباحث في العلوم السلوكية، وختم المؤلف د.العسّاف سلسلته بعد كتابي النظرية والتطبيق بالكتاب الثالث عن التقويم الذاتي للباحث في العلوم السلوكية.

وهذه السلسلة بمجموعها أشبه ببرنامج تعليم ذاتي خاصة للباحث المبتدئ، وتستهدف العلوم الإنسانية وإن كانت مفيدة لدارسي العلوم الطبيعية إلى حد كبير، وقد ركزت هذه السلسلة على العلوم السلوكية التي تخصّ الفرد مع أن العلوم الاجتماعية التي تُعنى بالمجتمع تستفيد من كثير مما ورد فيها. وتتماشى السلسلة مع ما دأبت مؤسسات التعليم العالي عليه من إدراج مقررات دراسية في النظرية والمبادئ المنهجية، وأخرى في التطبيق والمهارات البحثية، مع إصدار دليل يهتدي به الباحثون، وهذا ما جعل د.العساف يؤلف ثلاثيته التي تنفع الباحثين نظريًا وعمليًا، وترشدهم إلى الطريق الأكمل.

يتكون الكتاب الأول المشار إليه من ثلاثة أبواب، فالباب الأول عنوانه: خطوات إعداد البحث في العلوم السلوكية ويقع في (152) صفحة وفيه خمسة فصول، بينما جاء الباب الثاني عن مناهج البحث في العلوم السلوكية في (168) صفحة وفيه عشرة فصول، أما الباب الثالث فكان عنوانه: أدوات البحث في العلوم السلوكية عبر (108) صفحات وفيه أربعة فصول، ويتلو كلّ فصل في الكتاب ما يخصه من حواش، مع قائمة ببلوجرافية لبعضها.

وفي الباب الأول خطوات عبرت عنها عناوين الفصول هي توضيح ماهية المشكلة، ومراجعة الدراسات السابقة، وتصميم البحث وتحديد خطواته الإجرائية، وتحليل المعلومات وتفسيرها، وملخص البحث وعرض النتائج والتوصيات. أما الباب الثاني ففيه تصنيف مناهج البحث، ثمّ تخصيص فصل لكل منهج من المناهج الوصفية (المسحي، والوثائقي، والحقلي، وتحليل المحتوى، والسببي المقارن، والارتباطي، والتتبعي)، وبعدها عقد المؤلف فصلًا للمنهج التاريخي، وآخر للمنهج التجريبي، وختم الكتاب بالباب الثالث الذي يحتوي على أدوات البحث في العلوم السلوكية، وأولها الاستبانة فالمقابلة ثمّ الملاحظة وأخيرًا الاختبارات.

كما تظهر في كتاب د.صالح العسّاف أغراض التأليف التالية عدا الأول منها وهي: اختراع معدوم، أو جمع متفرق، أو تكميل ناقص، أو تفصيل مجمل، أو تهذيب مطول، أو ترتيب مخلّط، أو تعيين مبهم، أو تبيين خطأ. ولاريب أن أيّ مسعى يقود إلى تعليم الناس -والناشئة والشباب على وجه الخصوص- مهارات التفكير والبحث والقراءة والكتابة بأنواعها لهو من المساعي الحميدة المشكورة لصاحبها في الدنيا، والله لا يحرم أربابها من الأجر والرضوان، فما أحوج الأمة إلى من يوقظ عقولها، ويرفع وعيها، ويحميها من الانجرار خلف أيّ صوت، أو الافتتان بأيّ قول أو رأي، أو الاستكانة والرضا بالخنوع والاستضعاف.

إن كتب المنهجية في البحث كثيرة لا ينقطع تأليفها أو إعادة طباعتها، وهي ظاهرة صحية لإعداد الباحثين بما يتجاوز تلقين المعرفة إلى إتقان الوصول إليها، وإحسان تقديم الحلول العملية لمشكلات حقيقية، ولذا تعظم الحاجة إلى كتب عملية تطبيقية تجيب عن أسئلة ملحة من قبيل ماذا وكيف، وكان هذا أحد دوافع المؤلف إلى إنجاز عمله العلمي المجهد، إضافة إلى ما لاحظه من ضعف مستوى كتابة البحوث، وضرورة إعداد الباحث الجلد، فسعى إلى تحقيق هذه الغاية الشريفة بماله وجهده ووقته مسافرًا ومقيمًا، مفكرًا وكاتبًا، مستشيرًا ومستخيرًا، قبل أن يطمئن إلى مناسبة تبييض ما سوده من صفحات كثيرة، ومع ذلك فهو يرحب بأيّ إضافة أو مقترح أو رأي؛ إذ انعقد العزم لديه على العودة إلى الصواب بمجرد أن ينبه إليه، وهذا خلق علمي منهجي لا يستغرب عليه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 14 من شهرِ ذي الحجة عام 1442

24 من شهر يوليو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)