سير وأعلام

نظرة من أبي في ورقة تقويم!

Print Friendly, PDF & Email

نظرة من أبي في ورقة تقويم!

بدأ والدي رحمه الله مسيرته العلمية في كتّاب ابن سايح بعيون الجواء، وحرص على حضور المجالس الثقافية والعلمية مثل درس الشيخ فيصل المبارك، أو الاستماع للمذياع، وجمع إلى سماع الأخبار القدرة على حفظها ووعيها واسترجاعها، ولولا انشغاله مع آبائه في تجارة العقيلات ثمّ استقلاله بالتجارة الداخلية لنال من هذه العلوم التي شغف بها قدرًا أعلى مما كان لديه؛ مع أنه تفوق على كثير من لِداته في هذا الميدان، واستمر يقرأ ويسمع ويستضيف ويجالس، ولا يستقلّ أيّ شيء من صنوف المعرفة، وسبل تحصيل العلم، ولو كانت حكمة في ورقة تقويم.

ومما عايشته أن أبي رحمه الله كان مولعًا بالتاريخ والسير والأخبار، وما أكثر ما سرد لنا الوقائع والأحداث المحلية والعالمية، ووصف مجريات كأنه شاهد عيان على بعضها من الدقة والإحاطة، وتعود هذه المزية إلى كثرة سماعه، وقوة حافظته، ومقدرته على التمييز بين المرويات، والجمع بينها أو الترجيح والتحليل. ومن طريف ما أذكره أن شقيقتي الكبرى “الجوهرة” -سلمها الله وعافاها- أعدّت بحثًا تاريخيًا عن حقبة سالفة وأحداث ماضية؛ فلما عرضتَه عليه، أخذه ونظر فيه؛ فلم يعجبه بعض مضمونه، وصرح بما يعتقده الصواب، بيد أن “الجوهرة” صارحته بأن السياق الوارد في أوراقها هو مطلوب أستاذة المادة التي لن تقبل بحثًا يخرج عن ذلك الإطار، والاضطرار يلجئ الطالب أحيانًا لإرضاء أستاذه، علمًا أنها مرويات تاريخية محفوظة؛ بيد أن الوالد يعتقد خلافها بلا وكس ولا شطط.

وكان من جملة عناية الوالد رحمه الله بالتاريخ حرصه على وجود تقويم أم القرى عن كلّ سنة هجرية جديدة أمامه، إذ يقلّب أوراق التقويم بنفسه يومًا إثر يوم، ويراجع مواعيد الصلاة؛ لأنه من المسابقين على الصف الأول، ومن المتأخرين في الخروج من المسجد، ويحسب وقت دخول ثلث الليل الآخر، ويعرف الفارق بين المدن خاصة إذا نوى التواصل الهاتفي مع أهل مودته من سكانها، وربما أنه كان يخطط لختماته القرآنية الشهرية تقبلها الله منه، وقد شاهدته مرارًا ينقل صفحة التقويم إلى اليوم التالي قبل خروجه المتأخر من المسجد بعد صلاة العشاء الآخرة.

فإذا راقت لأبي الحكمة المكتوبة بعناية وحسن انتقاء على ورقة التقويم، يُعيد قراءتها حتى يحفظها ويعي مغزاها، ولا يكتفي بذلك بل يرويها لنا، وربما كررها تثبيتًا لها وزيادة في التعليم، ومن إعجابه ببعض الحكم الواردة فيها أنه يحتفظ بالورقة معه -يأخذها من تقويمه لا من تقويم المسجد-، ليقرأ النص كما هو حرصًا على ضبط النص وصحة الرواية؛ مع أن الله حباه بذاكرة ممتازة، والله يكتب له أجر التعليم، والحدب في توصيل المعلومة وشرحها، وبيان الغامض فيها أو المغزى منها. وللعلم فإن أول نسخة من تقويم أم القرى صدرت بمكة عام (1346)، ثمّ آلت مسؤوليته إلى مطابع الحكومة بالرياض بداية من عام (1399)، ولا زالت التحديثات عليه تتوالى لتعظم منفعته، وتزيد فوائده، خاصة بعد ارتباط التقويم مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.

ثمّ إنه ذات مرة، وبلا مناسبة أو سبب ظاهر، نظر الوالد إلى التقويم نظرة طويلة، وشرع يقلّب الورقة التي بين يديه لذلكم اليوم، وبعدها رمقني بعينيه الصقريتين المترعتين بالمحبة لنا والحنان بنا، وقال لي -كنت الوحيد معه حينها-: أتعلم أنني ولدت في مثل هذا اليوم؟ وأني أكملت اليوم الثانية والستين من عمري، ودخلت في سنتي الثالثة والستين وهو نفس عمر الرسول صلى الله عليه وسلم! فسررت بالمعلومة التي كنت أجهلها، ورجوت الله له مديد العمر مع الطاعة والسعادة، ولم يدر بخلد أحد منا أن المكتوب في القدر غير ما نرجو.

ولست أدري ما الذي جعله يخبرني بتلك المعلومة؛ بيد أني على ثقة من أن هذا التحديد الدقيق كان سيصبح من المفقودات لولا هذه الواقعة التي لم تأت عليها سنة أخرى ووالدي من عداد الأحياء، مع أنه لم يكن شيخًا هرمًا، وهو صاحب حركة وعمل وحضور ومشاركات، والله يعوضه بالجنة العالية، ويكتب لنا وله أجر الفقد العاجل الموجع، وأن يصيّر برزخه ومبعثه في هناء وأمن وجنان باردة، ويعمّ بهذا الدعاء والدتي وكل مسلم ومسلمة.

المهم أن والدي لم يبق على قيد الحياة بعد هذه الحادثة إلّا شهرًا واحدًا ويومًا واحدًا فقط، إذ توفي في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول الموافق للتاسع عشر من شهر سبتمبر، بعد عشرين يومًا قضاها في المستشفى إلى أن وافته المنية بقسم العناية الفائقة بمستشفى الملك فيصل التخصصي، وصلي عليه في جامع الراجحي القديم، ودفن في مقبرة النسيم شرق الرياض، والله يوسع عليه المثوى، ويبّرد له المضجع، ويفتح له إلى الجنة بابًا عظيمًا لا ينغلق إلى قيام الساعة.

ومن العجيب اللافت أن أحد الأقارب اتصل بي قبل مدة قائلًا: متى كان مولد أبيك؟ فقلت له: سأجيبك بعد أن تخبرني عن فائدة هذه المعلومة لك، فقال: سألني فلان من جماعتنا أهل الجواء؛ وغايته من السؤال معرفة تاريخ ميلاد والده بالضبط؛ لأن السائل سمع من أبيه مرارًا بأن مولده كان في نفس يوم ميلاد “عبدالمحسن” بناء على كلام والديه -أي أجداد السائل-، والسائل لا يعرف ذلكم التاريخ، ولم يحدّد له أبوه ذلك اليوم فيما مضى، ولا يمكن سؤال الأب الآن فعمره تجاوز التسعين، والذاكرة ضعيفة؛ وحتى لو أجاب فمن العسير التيقن من صحة قوله.

فأخبرت قريبي بأني أروي عن والدي مباشرة أنه ولد في العشرين من شهر صفر، وربما أن ذلك اليوم كان يوم جمعة على الأغلب، ويصادف بالتاريخ الميلادي الرابع والعشرين من شهر يونيو. وفيما بعد قرأت بعد بحث يسير أن في مثل ذلكم اليوم بالتاريخ الهجري ولد -مع اختلاف السنوات طبعًا- الملك فيصل، والسلطان حسين كامل، والعالم أحمد الشرباصي، وتوفي فيه السلطان سليمان القانوني، والمكلة علياء، رحم الله الجميع، وسبحان من جعل الوالد سببًا في حفظ هذه المعلومة، وإدخال السرور على قلوب أبناء رجل من أسنانه المعمرين، ولم يكن لهم سبيل إلى معرفة يوم مولد أبيهم لولا أن الله قد كتب لنا تلك اللحظة الخاطفة.

والخلاصة الأهم للآباء والأمهات، وهي من صنيع الأسرة العريقة، ومختصرها حضهم على الحديث مع أولادهم وبناتهم، ورواية حكايات الأبوين لهم، وتكرار سيرة الآباء والأجداد أمامهم؛ فسيأتي يوم يستعذبها الأبناء، وتمر بهم أيام وليالٍ يتذاكرونها فيما بينهم باستملاح وتلذذ، ومن المؤكد أن النابه من الأحفاد سوف يسأل أبويه عن بعضها، والحصيف من الآباء يسبقهم ويرويها لهم حتى لو لم يستخبروا عنها. والخلاصة الأخرى للأبناء من الذكور والإناث ألّا يتركوا مجالس والديهم وأجدادهم، وأن يحرصوا على حضورها واستثمار حياتهم وذاكرتهم وإقبالهم، فيستمعوا لهم بإنصات، مع الحوار بأدب رفيع، وجناح خفيض، وسيأتي عليهم زمان يتمنى فيه الواحد لحظة من الزمن مع أبيه أو أمه، أو دقيقة من صوته المسجل ليأنس به، أو مقطعًا فيه صورته الحية وهو يتحدث كي تسري الطمأنينة في النفوس؛ ويا لهف نفسي….

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 20 من شهرِ صفر عام 1444

16 من شهر سبتمبر عام 2022م

Please follow and like us:

7 Comments

  1. اللهم اغفر لهما وارحمهما وقدس ارواحهما في الفردوس الأعلى من الجنه
    كلامك جميل جدا كجمال طرحك وافكارك واقتراحك سهل التنفيذ ويعود بفوائد لاتعد ولا تحصى على الابناء والاحفاد

  2. غفر الله له، واسكنه فسيح جناته، وجعل مثواه الجنة..
    اثناء قرأتي، كررت المقالة عدة مرات، لك أن تتصور..
    انشطرت ذاتي إلى نصفين! وتشقق الهواء، تذكرت شخصًا أتوسد محبته بل أشد، يشبهه في أمرين بل كأنه هو، “مولعًا بالتاريخ والسير والأخبار، وبعدها… رمقني بعينيه الصقريتين المترعتين بالمحبة لنا والحنان بنا”!
    مقالة تستنطق الحروف المثقلة بالبُعد، وتنزع من الصدر البائس ضلعًا، فيضٌ من الترقب يتمنى فيه الواحد لحظة من الزمن مع من يحب، دقيقة من صوته المسجل ليأنس به، أو مقطعًا فيه صورته وهو يتحدث كي تسري الطمأنينة في النفوس؛ ويا لهف نفسي!
    يا لهف نفسي شوقًا إليه! لصوته! لحديثه!
    امتداد وتيرة الغياب مؤلمة، تتركنا في كفن الصمت!

  3. غفر الله له ولزوجته ولوالديهم واسكنهم فسيح جناته وبارك الله لهم في اولادهم واحفادهم . وكثر الله من امثاله نعم القدوى هذا الاب الصالح

  4. مقال فاخر كعادتك، رحم الله والدك ووالدتك وكتب في ميزانك من زاد بره وحرصه على والديه بعد قراءة ما كتبت 👌🏻

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)