سياسة واقتصاد

إلى وزير الزراعة

Print Friendly, PDF & Email

إلى وزير الزراعة

الأمن الغذائي والمائي جزء أصيل من الأمن القومي، وقوّة تدفع لاستقلال القرار السّياسي، وتمتين السّيادة، وتحرير الإرادة، وكلّ إجراء ينقص من جهود الاكتفاء منها يشبه معاول الهدم في صرح الحريّة الوطنيّة، ويعرض أيّ بلد لمشكلات متوالية؛ لذا تتنافس أمريكا والصين – مع قوتهما في كلّ شيء تقريبًا- على المركز الأول في الإنتاج الزراعي، وتزرع الهند وأمريكا والصين وروسيا والبرازيل والأرجنتين وفرنسا مناطق كبيرة من مساحة أراضيها مع تفوق بعضها الصناعي أو اختزان أرضها للنفط والمعادن، وإن تجربة البرازيل والصين لحرية بالدراسة والإفادة منها.

لأجل ذلك من غير المقبول أن ترتبط الزراعة في بعض الأذهان بالتخلّف، فهي مصدر دخل لروسيا أعظم من مبيعات السلاح، وموضوعات الزراعة لا تغيب عن مفاوضات التجارة العالمية. كما أن الزراعة شاركت بجدارة في القضاء على البطالة في الهند التي يعمل نصف سكانها بالزراعة، وكان لغضبتهم الأخيرة تأثير مقلق على حكومتهم وهي تدخل إلى الانتخابات، بينما يبلغ المزارعون مئات الملايين في الصين. ومن أهمية الزراعة أن ارتبطت بها منظمتان دوليتان هما “الفاو” و “الإيفاد”، والرئيس المؤسس للثانية سعودي ممن درسوا علوم الزراعة في أمريكا.

وكي ندرك خطورة هذا الحقل الذي ربما لا يضعه الناس في مكانه اللائق به، يمكن النظر إلى سجل وزراء الزراعة في “إسرائيل” التي تحتل أرض فلسطين الخصبة، وسنجد منهم أسماء مجرمي حرب وصقور سياسة، ممن أصبحوا رؤساء للحكومة، أو وزراء حرب وخارجية ورؤساء أحزاب، مثل “موشيه ديان” و “آرييل شارون” و “إيهود باراك” و “تسيبي ليفني”، وقرأت أن “مناحيم بيجن” كان وزيرًا للزراعة ولم أستطع التوثق من هذه المعلومة، وهؤلاء جميعهم من الأسماء التي لا تنسى في تاريخ دولة إسرائيل القصير مهما طال، فوعد الآخرة قريب وإن رأيناه بعيدًا.

والشيء بالشيء يذكر، فخلال جولات التطبيع بين مصر وإسرائيل، طار شارون في مروحية فوق جميع الأراضي المصرية الزراعية، وربما يكون في دهاليز المفاوضات قضايا زراعية ومائية محجوبة عن العلن، ولا يخفى شيء مهما اجتهدت أطرافه بستره. وبما أننا في مصر فمن المناسب الإشارة إلى يوسف والي أطول من تولى حقيبة الزراعة لمدة تقترب من ربع قرن، وكان في بعضها نائبًا لرئيس مجلس الوزراء، وأمينًا للحزب الوطني الحاكم آنذاك، وحامت حوله مقولات وتهم، والله حكم عدل وعنده كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

أما في السعودية التي أصبح للزراعة وزارة فيها عام (1373) فقد تولى إدارة الوزارة اثنا عشر وزيرًا أصيلًا ولم أحتسب الوزراء بالتكليف والنيابة، والأمير سلطان هو أول وزير لها، وتنقل الشيخ إبراهيم السويل بين الخارجية والزراعة ثمّ السفارة في أمريكا. وأغلب الوزراء المتأخرين مهندسون، وتعاقب عليها شقيقان هما الأمير عبدالعزيز الأحمد السديري الذي مات على مكتبه في الوزارة قبل تمام ثلاثة أشهر من توزيره، فخلفه أخوه الأمير خالد لمدة خمسة أعوام تقريبًا.

كما يحفظ سجل وزراء الزراعة اسمين متشابهين هما الأستاذ عبدالرحمن بن سليمان آل الشيخ وزير الزراعة لأقل من سنة، والدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز آل الشيخ الذي يعدّ أطول الوزراء عهدًا إذ تصل وزارته لعقدين. وللوزير آل الشيخ أوليّات مرتبطة بعضويته في مجلس الوزراء سأشير إليها في مقالة أخرى. ومن طريف ما يُروى أن الأمير فهد -الملك فيما بعد- رشح د.آل الشيخ لوزارة الزراعة في حكومة الملك خالد الجديدة عام (1395)، فأراد الملك رؤيته والحديث معه، وخلال المقابلة أبدى الملك خالد استغرابه من متخصص في الاقتصاد الزراعي وهو لا يلبس العقال، فخلع الأمير فهد عقاله ووضعه على رأس الوزير، ومن تلك اللحظة لم يترك لبس العقال.

ومن أعظم ما قرأته عن مواقف وزراء الزراعة أن أجهزة التصوير لم تستطع حجب دموع وزير الزراعة في بنين “جاستون دوسوهوي”، الذي لم يتمالك نفسه وبكى خلال خطاب ألقاه رئيس البلاد “باتريس تالون” أمام البرلمان، عقب إعلان الرئيس تحقيق جمهورية بنين المرتبة الأولى في زراعة القطن أفريقيًا. ويسهم القطن بنسبة 40 % من عائدات النقد الأجنبي في الجمهورية، و12% من الناتج المحلي الإجمالي، و60 % من صناعة النسيج الوطنية، ويوفر دخلًا لأكثر من ثلاثمئة ألف مزارع، ويدعم ثلث سكان الدولة أو أكثر.

وحينما سمع نقيب الفلاحين في مصر هذا الخبر المفرح المحزن توقع في تصريحات صحفية أن يبكي وزير الزراعة المصري حزنًا على زراعة القطن في عام (2020م)، بسبب تراجع مساحات زراعة القطن إلى 150 ألف فدان، مقابل 237 ألف فدان في عام (2019م) نتيجة للفشل في التسويق وتدني سعر الشراء من المزارعين. وإن عقد مقارنة بين التجربة الزراعية لمصر والصين يوضح الفرق في التخطيط والأداء؛ فالأولى لازالت تستورد، والثانية تحاول القفز من المرتبة الثانية إلى الأولى عالميًا في المنتجات الزراعية، والمقارنة كاملة منشورة في كتاب ألّفه د.آل الشيخ وزير الزراعة السعودي الأسبق.

وفي إيطاليا التي تحتضن مقر “الفاو” و “الإيفاد” انتقدت المعارضة اليمينية وزيرة الزراعة “تيريزا بيلانوفا” التي انتشر بكاؤها فرحًا خلال إعلان عفو حكومي مؤقت عن العاملين من المهاجرين غير الشرعيين، وهو موقف نبيل من الوزيرة التي لم تأبه لليمين المتطرف ذي السطوة الجاثمة على أوروبا وأمريكا. وبما أننا في إيطاليا فمن الطريف المحرج أن الحكومة عينت “فرانشيسكو براغا” وهو أستاذ كندي من أصول إيطالية وزير دولة لشؤون الزراعة مع أنه غادر إيطاليا منذ ثلاثة عقود تقريبًا! والحقيقة أن المنصب يخص “فرانكو براغا” القريب من اسم مواطنه المهاجر ولذلك حدث الالتباس وسبقت التهاني إلى غير صاحب المنصب. ولم يسلم هذا الانتقاء من انتقاد “فرانشيسكو براغا” للحكومة الإيطالية على اختيارها مهندسًا مدنيًا لقيادة عمل في الأغذية دون أن يكون اقتصاديًا ملمًا بشؤون المجال.

يقودنا هذا إلى طرائف وزراء الزراعة عبر العالم، فمنها أن وزيرة الزراعة الألمانية “جوليا كولنكر” تعرضت لموقف لا تحسد عليه بعد أن تعثرت وسقطت على الأرض بسبب التواء كاحلها، خلال حضورها جلسة في برلمان بلادها “البوندستاج”. كما غضب مواطن هندي من وزير الزراعة “شاراد باوار” فصفعه على وجهه إبان حديثه لوسائل الإعلام احتجاجًا على ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وروى د.الخويطر عن زميله وزير الزراعة الشيخ حسن المشاري الحسين أنه كثير النسيان لدرجة فوات مواعيد ومناسبات عليه.

كذلك سأل الرئيس المصري الراحل أنور السادات -إذا صحت الرواية- وزير الزراعة سيد مرعى عن مزرعة تسمين العجول في الفيوم التي وعد بإنجازها؟ فأجاب الوزير بأنها جاهزة مع أن الحقيقة خلاف ذلك، وحين زار السادات المزرعة بعد يوم من استفساره عنها اكتشف أنها عمل يوم وليلة فقط! وشغل وزير الزراعة النيجيري “أودو أوجبا” وسائل الإعلام حين أبدى حنقه على مواطنيه الذين يطلبون البيتزا من خارج البلاد مما يضر بالمنتجات المحلية. وعندما خلا كرسي وزارة الزراعة السعودية تطلّع له آخرون، ومنهم رئيس مؤسسة مرتبطة بالزراعة لدرجة أنّ موظفيه يتناقلون عنه سؤاله إياهم بلَهَف وحرص بين فينة وأخرى: هل أصلح وزيرًا لها؟ ألم تسمعوا شيئًا؟!

إن شؤون الزراعة مهمة جدًا، فهي مؤثرة على الأمن الداخلي والقومي، ورافعة للاقتصاد منقصة للبطالة، وتتداخل أحيانًا مع الأوبئة والتهريب، وترتبط بالمياه والبيئة، وهذه الخصائص تجعل أمرها أعظم، وما أجدر كلّ بلاد بأن تعرف مناطقها وسلالها الغذائية، ومحاصيلها، وتسعى في الإفادة من الزراعة واقتصادها وصناعتها، كي لا تقع تحت رحمة غيرها، ومن هذا الباب ألّا تصغي لمقترحات دول تسعى للسيطرة على كلّ ذرة، وفيما روي أنّ وزير الزراعة الأمريكي حفيت أقدامه، وبحّ صوته، وهو يحاول ثني بعض البلاد العربية عن الاستمرار في خططها نحو الاكتفاء وتطوير الزراعة والثروة الحيوانية، وحين رفضت وزارة الزراعة الأسترالية فحص صادراتها الحيوانية في مختبرات سعودية؛ كبرًا وتعنتًا وخشية من افتضاح مستوى جودة ما تبيعه لبعض الدول؛ صدر قرار بوقف الاستيراد منهم مما أنعش السوق المحلي وارتقى به؛ ولذلك فليس بغريب أن يكون اسم وزارة الزراعة أو الفلاحة كما في المغرب العربي عند الحكومة الإيرانية وزارة الجهاد الزراعي!

ومما يناسب إيراده ونحن نكتب عن الزراعة أن وزارة الزراعة الروسية جعلت بوابتها على شكل جميل لافت له ارتباط بالزراعة، وهو إبداع يمكن تقليده من جميع الوزارات شريطة أن تكون تكاليفه معقولة. أيضًا نلحظ تقاطع معنى الزراعة مع الثقافة في اللغة الإنجليزية، ولا عجب بعد ذلك أن يشتهر كتّاب وروائيون تخصصوا في علوم الزراعة، ومن هذا الباب بروز ممثلين دأبوا على إضحاك الجماهير في مصر والسعودية، هذا غير أنّ البستنة، والعمل في المزرعة، والعناية بالورد والزهر، من الهوايات المحببة لجمهرة من الكتّاب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 24 من شهرِ رمضان عام 1442

06 من شهر مايو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)