مواسم ومجتمع

قصص في الحج والعمرة

Print Friendly, PDF & Email

قصص في الحج والعمرة

كلما حلّ موسم الحج أتذكر والديّ رحمهما الله، فكثيرًا ما حدثنا والدي عن رحلاته للحج والعمرة التي اصطحب في أغلبها والدته برًا بها وإكرامًا لها. وسمعت مرارًا من والدتي ذكرياتها عن رحلة حجها التي شاهدت فيها لأول مرة في حياتها شعوبًا من دول عديدة بأجسام ضخمة عملاقة، ولغات غريبة. ثمّ إنهما فيما بعد أوكلا عددًا من العبّاد المتفقهين بالحج عن آبائهم وأمهاتهم وأخواتهم وبعض أقاربهم من باب الإحسان والصلة. وإنه لموسم مبارك يهيج لي الذكرى التي لم تغب عن بال، ولم تذهب من لسان، ويطوف القلم في ميدانها بلا ملل.

فمما أذكره أني حججت في سنة سبقت ابتداء خدمات الاتصال بالهاتف الجوال، وحين ذهبت غير مرة إلى كبائن الهاتف الثابت للاتصال بالوالدة أجد الأجهزة مزدحمة جدًا، وحين يصلني الدور إما أني لا أسمع مجيبًا بسبب ارتباط الناس بمناسبات العيد، أو يتعطل جهاز الهاتف، ولذا لم أتمكن من مهاتفة الوالدة خلال أيام الحج فقلقت رحمها الله عليّ كثيرًا، ولم تهنأ بعيد ولا بأيام تشريق، بل صرفت أنظارها عن طفل رضيع قادم قبيل الحج بشهور حين قيل بأنه يشبهني، وقالت: أريد ابني لا شبيهه! فاللهم أسبغ عليها رحماتك وألطافك.

وفي أحد المخيمات تجاورنا مع مجموعة حجاج تناهز أعمارهم الستين وعددهم حول العشرة يفيضون نشاطًا وحيوية، وحين جرت بيني وبين بعضهم أحاديث، قال لي واحد منهم: نحن صحبة منذ ثلاثين عامًا، ونسافر معًا داخل المملكة وخارجها، وإذا تيسر لنا اعتمرنا وحججنا وذهبنا للبراري، فأعجبتني تلك الصحبة والإخوة لأولئك النفر من المنطقة الشرقية المباركة اللطيف أهلها، وتساءلت داخل نفسي: هل سأكون وصحبتي كذلك؟ فاللهم اجعلنا وإياهم من الأخلاء المتقين الذين لا يندمون على صحبة في الدنيا ولا في الآخرة.

وتكاثر مني نسيان ساعتي حين الوضوء خاصة، وكان أحد الزملاء يحضرها لي دومًا من أماكن متفرقة في المخيم ومنافعه، وفي إحدى المرات ناولني الساعة وقال مازحًا: وجدناها فوق سور الجمرة الصغرى! كذلك من طريف ما وقع لي أني صادفت صديقًا أثيرًا، فقلت له: ما رأيك أن نأكل شيئًا من الآيسكريم اللذيذ الشهير المجاور للحرم؟ فوافق خصوصًا أنه يسمع به ولم يتذوق طعمه، وحين ذهبنا طلبنا ما نريده، ثمّ تفاجأت بأن محفظتي ليست معي، فدفع الصديق الحبيب مبلغها وانتهى الموقف بضحك مشترك من قبلنا، والحمدلله أن أعجبه طعمها في ذلكم القيظ المكي اللاهب.

كما أن للحج مصادفات لقاء أكثرها جميل؛ فمنها أني عبرت من جوار تجمع فانفتل أحدهم وسلّم عليّ باحتفاء مع أني لا أعرفه، ثمّ سألني: هل فلان أخوك؟ فأجبته أن نعم! وكيف عرفت؟ فأحال سبب المعرفة إلى الشبه بيننا وأبلغني له السلام لطول العهد بينهما. ومن المصادفات مقابلة المشاهير عرضًا، إذ رأيت بعض العلماء والمفكرين والزعماء، وشاهدت عددًا من الفنانين في المشاعر والحرمين، ومع أني أفرح بحضورهم لهذه البقاع الطاهرة إلّا أني لا أزدحم للسلام عليهم كما يصنع آخرون، والله يهدينا وإياهم. ومن لطيف ما أخبرني به صديق مصري أنه تعاقد للعمل بالسعودية، بينما ذهب رفيقه إلى عُمان، ولم يلتقيا مدة عشر سنوات لاختلاف مواعيد الإجازة، وحصل اللقاء الحميم بينهما دون موعد في منى الطاهرة.

ومما لا أنساه في الحج أننا أصبحنا في مزدلفة يوم عيد الأضحى سنة (1427)، ويكاد الناس في جمع أن يتفقوا على تناقل رسالة واحدة هي إعدام صدام حسين رئيس العراق الأسبق، وبغض النظر عن الموقف من الرجل وتاريخه؛ فإن التوقيت مريب للغاية، ولا أظن التحالف الصليبي الباطني قد اختار ذلكم اليوم عبثًا حال ازدحام الحجيج في المشعر الحرام. ومن أخبار ليالي مزدلفة الجميلة أن النوم فيها يداهمني باكرًا مهما كان الإزعاج المحيط بي، ويستغرب من هذه النومة كل من يعرفني. وأذكر أن زميلًا هجره النوم فجلس في مكان خارج موقعنا ليتفاجأ بفتاة تجلس بجواره، وتتحدث معه بعربية فصيحة مع أنها من إحدى دول الجمهوريات المسلمة المجاورة لروسيا، والله يتقبل حجنا وحجه!

كذلك أتذكر أني ذهبت إلى مكة في أول العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك عام (1422) ما لم تخني الذاكرة، وفي تلك السنة قلت لصاحبي في السفر ولمن جاء يزورنا في مقر إقامتنا: سوف يصلي الشيخ سعود الشريم بالناس في وتر القيام،  فتعجبوا من مقولي لأن الشيخ لم يصل الوتر منذ سنوات. وفعلًا صلّى بنا الشيخ ليلة الثاني والعشرين من رمضان، واستغاث في وتره، ومما دعى به: اللهم ارحم أنين الآنّة وحنين الحانّة! وأخبرني أحد المشايخ فيما بعد أن عربًا من إحدى بلدان شمال أفريقيا سألوه بعد السلام عن ماهية الآنّة والحانّة!

وزرت بعد أداء العمرة معهد الحرم في المسجد الحرام تلبية لدعوة مسبقة، وقابلت بعض مسؤوليه، ثمّ كتبت عن المعهد مقالة بعد رجوعي مباشرة، وعرضت فيها بعض المقترحات العملية والأفكار الخاصة بالمعهد. وبعد سنوات وصلتني على البريد الإليكتروني رسالة لطيفة من أحد مسؤولي المعهد الجدد الذين تولوا العمل فيما بعد ولم أقابلهم، وأخطرني برسالته أن بعض ما اقترحته في المقال صار واقعًا والحمدلله، فشكرت له بشارته، وتلطفه بإخباري، وأسعدني أن ما يكتب يمكن أن ينفع ولو بعد حين.

ثمّ إني لا أنسى استغراب بعض من يسأل عن تكلفة الحج التي كانت في سنوات ليست بعيدة لا تزيد عن ألف ريال للفرد الواحد، دون أن نهين آدميتنا ببيات غير لائق، ومن غير تخطي الأنظمة إن في الحركة أو في المقام أو في المنام أو غير ذلك من شؤون أداء النسك، والتنقل بين المشاعر. وكنت أستهجن من يصف مثل تلك الرحلات بأنها رحلات على الرصيف؛ فليس هذا مقبولًا ولا مرضيًا لدينا، والحمدلله أن يسر البدائل المناسبة آنذاك، وإنها لرحلات أنيسة كتبت عن مواقفها وذكرياتها وحكاياتها مقالات سابقة.

أسأل المولى العزيز القدير أن ييسر لنا الحج والعمرة، وأن يتقبلهما منا، وأن يكتب أجور من نوى وسعى دون أن يظفر بمراده. كما أضرع لمولاي أن يقبل من الحجاج والمعتمرين والزوار عباداتهم، وأن يحفظهم، ويعينهم على أداء الفريضة كما يحب ربنا ويرضى، حتى يعودوا لديارهم من رحلة الحج سالمين مغفورًا لهم، وبإيمان أقوى وتصورات أعمق وأصح. وأدعو الرب العظيم أن يوفق كل عامل لصالح الحجيج أيًا كان موقعه، وأن يرزقهم الإخلاص والسداد والتوفيق، ويكتب لهم من الأجور ما يثقل صحف أعمالهم يوم القيامة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس غرة شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1443

30 من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. رحلة الحج المقدسة رحلة الشوق العظيم ، يضطرم في وجدان الجميع لجاجة الأشواق للقاء تلك الأرض الطاهرة، وتختلج في أعماقنا شوقٌ فيه توهج جذوة العزم لمناسك الحج متجاوزين كل الصعوبات في تلك الرحلة العظيمة، لذة الحج و ما يحمل من معان عظيمة ودلالات كلها تسمو بالنفس نحو الغفران والنقاء، ترى في تلك الرحلة اجتماع ذلك المزيج العجيب، الفريد من الأجناس والألوان، والثقافات واللهجات ..اللكنات والطبائع الشخصية المختلفة.. وايضاً المواقف التي تحفر في عمق الذاكرة..
    ولكن يبقى أغرب ما فيها نوع من المشاعر التي لا تملك معها الاختيار سوى الصبر والانتظار على مضض، كما حدث مع والدتك غفر الله لها وأسكنها فسيح جناته حينما ذكرت((فقلقت رحمها الله عليّ كثيرًا، ولم تهنأ بعيد ولا بأيام تشريق،))،
    الآن أنا أدرك شعورها، لك ان تتصور تلك المشاعر المؤلمة .. أن يسافر لك روحاً هو جزء من روحك، لا تنام إلا على همسٍ من همسه، ولا يفارقك طيفٌ زائراً من طيفه، اتابع بتفكير شارد اي خبر عنه، اجمع قصاصات الأخبار عن كل حاج من مشارق الأرض ومغاربها لعل أحظى بشيء عنه، أرزح تحت وطأة فراقه، تجمعني أحلامي به كل يوم، أحاول الإمساك بكلمات تصف حدّة الشوق إليه لكنها تتفلت مني، مضت ليالي دونه يكتنفها الحزن، أوَ بكيت نهار العيد لإنه لم يبعث رسالة يهنئني قبل الجميع وهو الذي جعلني اعتاد أن يكون أول الواصلين!
    بينما تصطلي نيران قلبي شوقاً إليه، يبدو أنه ككل المسافرين، قد يكون صادف كما صادفت صديقًا أثيرًا، ليأكل شيئًا من الآيسكريم اللذيذ الشهير المجاور للحرم؟و لا أعلم بعد هل تذوق طعمه ام لا! المهم أنه يحاول أن يسلى بغربته عمن يحب!
    كل ما أردت قوله تعقيباً، تبقى حكايات الحج ومواقفها بين أفواه الرواة حكاية لا تتكرر!
    أما أنا في داخلي يبقى الشوق عالقًا إلى حين قدومه، واحتضان اشيائه ولقائه، سوف أبقى أنتظره بشوقٍ خالص لا يشبه سوى شوق تلك الأم-غفرالله لها- حينما انطفئت مباهج العيد في قلبها ورفضت الاستمتاع به الا برؤية حبيبها!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)