إدارة وتربية سير وأعلام

ماذا أخبرتني أمي بعد وفاتها؟

Print Friendly, PDF & Email

ماذا أخبرتني أمي بعد وفاتها؟

ظلت أمي رحمها الله وغفر لها طوال حياتها معلّمة لي بصبرها وصمتها وكلامها وجميل فعالها وحسن رأيها، وحينما شاء الله لها أن تغادر الدنيا قبيل ظهر يوم الأربعاء الخامس من شهر رمضان، علمتني خلال أقل من يوم عددًا كبيرًا من الدروس والأشياء، ولولا وقع الموت، والانشغال بما بعده، لكتبتها قبل تمام يوم على رحيلها، ولعلّ في تأخيرها إفساح المجال لسابقتها، وهذا درس في الخيرة والأناة.

وإني لأرجو لوالدتي خير وفادة بين يدي ربنا الكريم الرحيم، ثمّ بما أعرفه عنها بحكم القرب والبنوة، وبعد ذلك كله تفاؤلًا بكون أول الواصلين إلى باب غرفتها بعد أن فارقت روحها جسدها كان أخي عبدالرحمن ورحمة الله قريبة من المحسنين، وأن الطبيب الذي أبلغنا عن تطورات لحظاتها الأخيرة اسمه ريان؛ والله يجعلها تدخل الجنان من أبوابها ومن باب الريان إذ صامت أكثر من ستين رمضان، ومئات الأيام من التطوع نحتسبها عند مولانا ولا نحسبها.

أما ما علمتني إياه أمي في أول أيام برزخها فمنه أن الأعمال وإن كانت يسيرة إلّا أن وقعها على الآخرين عظيم، فقد قال لي أحد صغار أحفادها: كانت جدتي بشوشة في وجهي دومًا وتعطيني ما في يديها دون تردد. وأخبرني جار انتقل من الحي أنه استقبل أضيافًا خلال غياب زوجته عن المنزل فأنجدته أمي بواسطة شقيقي، وجهزت القهوة والشاي وتوابعها حتى أن أضياف الجار لم يشعروا بأن منزله خالٍ من قهرمانته. وحكت شابة أنها تذكر الوالدة في طفولتها وكيف عاملتها كما لو كانت حفيدتها. وتحدثت كثيرات عن أكلة التمن التي طعمنها لأول مرة من صنيع يديها بمهارة ومذاق لذيذ، فاللهم كما أدخلت السرور على هؤلاء وغيرهم؛ فاملأ مرقدها أنسًا وسعادة، وهبها ما كانت تتمناه من الحسنى وزيادة.

كما أخبرتني والدتي في الساعات الأولى لتركها الدنيا أن التيسير والتسهيل قدر رباني يُستبشر به، فقد توفيت وجميع نسلها حاضرون أو قريبون منها؛ كي يشهدوا وداعها، ويشاركوا في يومها الجديد الأول. وانتقل جسدها الطاهر من غرفة العناية المركزة إلى سيارة جامع الجوهرة البابطين مرورًا بثلاجة الموتى دون أن تدخلها البتة، فذهبت إلى المغسلة مباشرة بطراوة جسم سلم من برودة الثلاجة، وكان نقلها خفيفًا علينا من سرير إلى نقالة، ومن نقالة إلى أخرى حتى استقرت في السيارة.

ويتواصل التيسير معها إذ سخر الله لها من يوسع قبرها ويحجزه لها، ثمّ شاركت بعض كريماتها في غسيلها وفق السنة بسهولة وارتياح تام، وأديت الصلاة عليها بعد العشاء والناس قد أفطروا وسلموا من أثر الحر والعطش والزحام، ولأجل هذا كان الحضور للصلاة والتشييع كبيرًا مع أنها الجنازة الوحيدة حينذاك. وتستمر منظومة التيسير في سماحة الطريق إلى المقبرة، وفي إنزالها إلى القبر وإدراجها في اللحد، دون أن ترهق أحدًا، أو يحدث خطأ أو خلل، والحمدلله أن أعان على حملها ووضعها برفق وهدوء، والله يتحمل عنها أيّ تقصير ويضع عنها المؤاخذة بغفرانه؛ حتى تغدو في رمسها مثل عروس تنتظر يوم زفافها بلهف، والموعد الجنة.

ولأن أمي عاشت حياتها وهي تشيع التيسير على من حولها؛ فلا تكلّف ولا تضيّق على بنيها مع أنهم جميعًا يرون العز والشرف في خدمتها والتذلل لها مع الخضوع وخفض الجناح؛ فقد وفقنا الله لاختيار طريقة نحسب أنها ترضيها، وتريح الناس في التعزية، وتحول دون سفرهم من مدينة إلى مدينة، أو المعاناة مع زحمة الشوارع في ليالي رمضان، أو تشكل على من لا يجيد استعمال التقنية؛ ولذلك اكتفي بالعزاء في المسجد والمقبرة، ووضع رابط لمجلس عزاء افتراضي على تطبيق التراسل الفوري الواتساب؛ فدخل إليه المعزون من بقاع عديدة بسهولة، وأدوا الواجب مأجورين مشكورين، ثمّ انصرفوا دون أن يضيع لهم وقت، أو ترتبك جداولهم اليومية، فاللهم كما يسرت أمنا لنا وعلينا وللآخرين في محياها ومماتها، فيسر حسابها واجعله عرضًا يسيرًا تنقلب بعده إلى أهلها مسرورة تنادي على من يقرأ كتابها الذي أخذته باليمين.

كذلك علمتني السيدة الوالدة في يوم مصابها أن أقبل من الناس عذرهم دون استقصاء، وأرضى بأيّ شيء جميل تمكنوا من فعله، فمن لم يستطع المشاركة فمن القطعي أنه معذور بأكثر من حجة، ومن أدى الواجب بأيّ طريقة فهو منه مقبول وله الشكر والدعاء. وكان من تعليمها الحسن أن جعلتنا نرى أناسًا شاركونا مع أننا لم نستطع مشاركتهم في مصاب لهم قريب فقدرنا لهم ذلك، وغاب آخرون وفي غيبتهم أكثر من سبب وجيه، ولسنا نمتنّ عليهم ولا على غيرهم بمشاركة سابقة أو غيرها. وقد أوقفتنا الأم الغالية في لحظات فراقها المؤلم على فضل بناة المساجد، والعاملين في مغاسل الموتى، وعامة المحتسبين بالعون والإحسان، وعليهم يُقاس جميع من يؤدي فروضًا كفائيًة تسقط بهم عن الآخرين التبعة والمسؤولية.

أيضًا علمت من أمي أن أحد أعظم استثمارات المرء هو استثماره في عمله الصالح الذي يبقى، ومنه ما يكون عن طريق ذريته ومن خلال عقبه، ولذا فما كادت الوالدة تدخل في مرحلة طبية حرجة إلى أن استلت روحها منها حتى بادر أفراد من خاصتها ومن يرتبط بهم للعمرة عنها، والإطعام، والصدقة، وغير ذلك من المبرات وصنائع المعروف التي كانت سابقة لكنها زادت مع مصابها، كي تختم حياتها بالصالحات الباقيات من كسب يديها حتى وإن كتب عليها غياب الوعي في أيامها الأخيرة العصيبة.

وفهمت عن أمي أهمية الدعاء بالميتة الحسنة السوية، إذ حماها الله في موتتها من أيّ نقص أو تشويه، إضافة إلى استجابة سؤالها الدائم لربها بجعل مرحلة النهاية سهلة؛ إذ وعيت عنها في سالف أيامها كثرة الدعاء بأن تنتقل من حولها وقوتها إلى قبرها دون أن تعبر بزمن عجز، أو مدة خرف، أو وقت إيذاء لنفسها أو للآخرين، وهو ماكان بفضل من الله عليها وعلينا.

وأيقنت من الوالدة في أواخر أيامها عظم قيمة أن يدرك المرء أبويه أو أحدهما فيبرهما ويحسن إليهما؛ بيد أني استوثقت بدرجة أكبر وأنا أرى جثمان أمي مسجى في أكثر من مكان أن البر لا ينتهي بوفاة الأبوين؛ بل إن بابه الأعظم الذي أغلق بالوفاة لا يعني انعدام الأبواب الأخرى، فكم من منفذ إلى البر والإحسان إليهما بعد أن غابا عن هذه البسيطة، والموفق من واصل البر، أو أدرك التفريط، ومن ذلك الدعاء وفعل الأعمال الصالحة، وصلة قرابتهما وأهل ودهما، وحسن تمثيلهما والثناء على تربيتهما من خلال أقوال الذرية ومواقفهم وتصرفاتهم.

وأضاءت لي الوالدة في يومها البرزخي الأول معاني كثيرة منها أهمية استصحاب شعور الوداع مع أداء العبادة، فما أسعد من يصلي ويصوم ويحج ويتلو ويتصدق وهو مستصحب لاحتمالية أن تكون حسنته هذه هي الأخيرة؛ فيجتهد في الإتيان بها على أكمل صورة وأتمها. ومنها أن الموت بهيبته يكاد أن يذيب كلّ شيء فتبدو الدنيا لناظرها حقيرة صغيرة لا تستأهل هذا العناء والاجتهاد. ومنها أن البراعة التفاعلية مع الناس في أحداثهم الحزينة والسارة تصنع لهم فرقًا ربما لا يدرك أبعاده المبادر للتفاعل؛ لكن أثره على نفوس الآخرين مثل الماء البارد على الكبد في يوم قائض طويل.

ثمّ إنه كان من إخبار الوالدة لي أن الدنيا على سعتها بدونها ضيقة، وأن الأفق وإن امتلأ بالكواكب والأقمار والأنوار فهو بلا وجودها مظلم حندس، وأن المباهج والمسرات تكاد أن تفقد طعمها وقد غابت أمي، وأن أيّ خطوة أخطوها ستغدو غير مسبوقة بدعوة من أمي تستجلب التوفيق، وتستغيث طالبة المدد والعون من المولى العزيز؛ فاللهم يا رحمن يا رحيم يا رؤوف أسألك وأنت القدير البر الودود أن تكرم وفادة أمي، وتنير مرقدها، وتبرد مضجعها، وتجري عليها من نعمائك في جدثها ما يجعلهاوالدي وكل مسلم- من ساكني القبور الذين يقولون: رب أقم الساعة؛ وذلك لعمركم درس وأيّ درس!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الجمعة 07 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

08 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

14 Comments

  1. اختي الفاضلة العزيزة حصة اسال الله العلي القدير ان يرحم مثواك .ويطيب ثراك . ويجعل جنات الفردوس مستقرك وماواك.انت ومن تحبين من اهلك واحبابك . ويلهم اهلك وذويك الصبر والسلوان . وارحم جميع المسلمين.
    الكاتب الفاضل ما كتبته بنعي والدتك العزيزة بهذا الاسلوب . يعتبر صدقة جارية عن روحها الطاهرة من ابن بار بوالدته ولكل ام اخلصت وادت وضحت . بطريقة ترضي الله .وكان حصتها السلوى. بالاية المال والبنون زينة الحياةالدنيا والباقيات الصالحات خير وابقى

  2. الابنة الفاضلة امنة محمد نويجي .بارك الله فيك . استعير جملتك البليغة المعبرة{من خلفت مثلكم لم تمت} يا استاذ احمد .لقد ورثت عن الوالدة الفاضلة خصالها الحميدة . بفضل من الله

  3. أقبلت على ربها في شهر عظيم، وجعل ما أصابها كفارة ورزقكم برها وصلتها بعد وفاتها وأحسن الله إليها مثلما أحسنت لكم ولغيركم.
    وعظم الله اجركم واحسن الله عزاكم.

  4. أسعدني هذا التعليق الذي وردني عبر الواتساب ويقول فيه راويه:
    حصل معي موقف يدل تسخير الناس لهارحمها الله
    كان بجواري بالمسجد ونحن ننتظر الصلاة عليها شاب مصري عليه سمات الخير يلهج لها بالدعاء ولم يتوقف حتى تمت الصلاة عليها
    وبعد السلام سألته هل تعرفها قال لا
    وما احسب هذا الشي إلا أنه من تسخير الله لها ومثله كثير لانعرفهم عليها رحمة الله

  5. #حصة_المنيع
    محمومٌ صدري لفقدها، كأن روحها كانت قطعة من الجنة فعادت إليها، لم ألتقي بها يوماً، ولم أسمع لصوتها همساً، إلا أن حسن خبرها و جميل صنيعها له أثر يفوح عطره كرائحة المسك، يديها بالعطاءات امتدت، وللخير صافحت، سيدة كريمة أصلها راسخٌ وفرعها شامخٌ، جمعت شرف الأخلاق، وشرف الأعراقِ، حفيدة الأكارم وأمٌ عظيمة لرجالٍ أفاضل، أثر خيرها باقٍ ومجد فضلها ليوم الدين باسق، لا أعلم هل اعزيكم أم أعزي نفسي فليس المصاب عندكم بأعظم منه عندي، مُصيبةٌ بفقدها على القلب حلّت، وألمَّتْ فَألمَتْ، و مُصاب فقدها عظيم و خطب البين جسيم، وكل من عرف محاسنها كان مأتمهم عليها واحدٌ، ما أعظمها مفقودة، وأكرمها ملحودة، وإننا ننوح عليها بنوح المناقب، ونرثيها كما قيل مع النجوم الثواقب، ونبكيها بدموع المحاجر، لكن سلمت روحها لبارئها، وهكذا هي خطوب الدهر تكدّرها الشوائب، وتتخللها المصائب، ولا تصفو الأيام فيها على حال واحد، لكن لكل من تجرع لوعة فقدها،ولابنائها وبناتها، وأحفادها وحفيداتها، والله أنها أنجبت” فرع لأكرم أصلٍ”، وفي بقائكم دعائين لها ما يجبُر الكسر، فما والله الدنيا دار قرار، فمنا من راحلٍ ليومه، ومنا من هو مدعوٍ لغده، وكل مستوفٍ لأجله، وقيل في الأثر ما المقام في الدنيا إلا لرحلةٍ، الموت أخف خطوبها، و شوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر، و ما الحيلة و قد حلّ القضاء، وفرض العزاء، ونزل البلاء، إلا الرضى بالقضاء، فاللهم صبراً -لقلبي-صبراً جميلاً، ولكم جميعاً صبراً صبرا، و ربط الله على قلوبكم روحًا روحا، اللهم ارحمها في هذه الأيام المباركة رحمة واسعه، رحمة تسع السموات والأرض، وأجعل قبرها في نور دائم لا ينقطع، واجعلها في جنتك آمنة مطمئنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)