سياسة واقتصاد سير وأعلام

محمد بن سعود إمامًا ومؤسسًا

Print Friendly, PDF & Email

محمد بن سعود إمامًا ومؤسسًا

في تاريخنا السعودي الحاضر القريب الذي نعرفه ونعايشه، والبعيد خلال ثلاثمئة سنة الذي ندرسه ونحفظه، والأبعد إلى ستمئة عام الذي نلِّم به ونحسن تصوره، شخصيات، وأيام، ومواضع، وهي جديرة بأن يكون لمجموعها بروز داخل إطار يأخذ مكانه الذي يليق به في المكتبة التاريخية والحضارية المحلية والعربية والإسلامية والعالمية؛ فهو تاريخ من تطاوله وعراقته يشابه الحضارات الممتدة التي تستأهل الانفراد في سياق الحديث عن الدول والأمم، أو وضعه في نسق من البيان المبني على طول البقاء، وعمق الجذور.

ولتاريخنا الوطني سمات تؤكد في سياقات مختلفة العراقة الراسخة للإنسان، والمكان، والكيان، وتعيد بعث معاني الخصوصية والتفرد التي تفاخر بها كل أمة وأيّ مجتمع. وفي حين يجتهد أقوام لدرجة العنت المرهق أحيانًا من أجل الإثبات أو الإيهام أو سوق عريض الدعوى، نجد بحمد الله أن الأرض وما يحيط بها، وتاريخها الشفهي والمكتوب، ينطقان بالشهادة لتاريخنا، وإنها لشهادة تزيد من حقّ اليقين علمًا حتى لكأنه معاينة بالبصر، وسماعًا بالأذن، وإدراكًا بالحواس، وليس مسألة ذهنية فقط.

فمن الشخصيات المركزية المهمة في تاريخنا السعودي الإمام محمد بن سعود بن مقرن (1090-1179) الذي يُعدّ وريث ثلاثمئة سنة سابقة من الحكم والسيادة في الدرعية، ومؤسس دولة حديثة واسعة الأرجاء، ومورثها لمن تسلّم الراية بعده لمدة ثلاثمئة سنة لاحقة باقية متواصلة بخير وعلى خير وإلى خير بإذن المولى سبحانه وتعالى. وإنها لشخصية قمينٌ بأن تفرد لها الصفحات، ويُستجلى تاريخها المروي، وتُعاد قراءة عصرها وأناسه ومجرياته بما يفيد الدارس بالحقائق التاريخية، وهي قراءة تعين المنصف، وتفضح المتناقض الباحث عن الفرص، فالعدل والإنصاف مطلبان في الدنيا والآخرة.

من سمات إمامنا المؤسس أنه تسلّم الحكم من أسلافه فأخذ الكتاب بقوة، ثمّ حافظ عليه من تدخلات قوى قريبة وأخرى بعيدة، وهي وإن أظهرت الوداد والتقارب، إلّا أنه لم يعهد عنها السكون أو اندحار المطامع لولا تهيبها من قوة البلدة وحاكمها؛ فأمنت بذلك الدرعية بعد أن توحدت وقويت، وصارت واحة لها اسمها المذكور في عالم السياسة والأمن، وفي مجالات اقتصادية بالزراعة، والقوافل التجارية أو القاصدة للبيت الحرام، وبما فيها من مسكوكات متداولة، وأصبح حفيد مقرن، وابن سعود، من أعيان الأمراء المعروفين في البلدات النجدية؛ ولا عجب عقب ذلك أن يكون مأرزًا لمن رام النجاة والنجدة.

ثّم كان من بصيرته النافذة اغتنام الفرص السانحة له لتأكيد استقلاليته باستقبال من تكالبت عليه القوى والإمارات المجاورة والبعيدة، دون أن يأبه لأيّ إجراء محتمل منهم، وانطلق بذلك مغتنمًا اللحظة التاريخية في مسيرة توسع مرحلية لها ما يسندها ولا يعلو عليه مما لا قِبَلَ للآخرين به من قوة حسُن إعدادها، وتهيأت لها أحوال وأسباب، حتى أذعنت ديار وقبائل وأسر وحواضر، وغدت الدرعية مركز السيطرة والتحكم، وموئل الجذب والاستقطاب، وعندها زادت حركتها العلمية والثقافية والتجارية والعسكرية والسياسية؛ حتى لفتت هذه البلدة الأنظار، وشرعت الإرساليات تقصدها، والتقارير تسوّد عنها، وترسل بواسطة البريد برًا وبحرًا.

ولم يكن الإمام غافلًا عن حركة التاريخ والتدوين في الغالب، لكنه آثر فيما يبدو الابتعاد عمّن يسجل ويكتب كي لا يكون عرضة لمؤامرة تئد مشروعه الكبير الكامن في ذهنه وتصوراته قبل تمامه، ولم يأمر بشيء من هذا الباب التوثيقي حتى لا ينشغل به خصوم الأمس ومنافسيه، ولعلّ هذا أحد أهم أسباب ندرة أخباره التاريخية قياسًا إلى مآثره وآثاره، وتلكم حكمة نفهمها إذا عشنا ذلكم العصر بتحدياته وأوضاعه؛ فالجذور حتى تتشبث بالأرض، وتتشبث بها الأرض، لا مناص لها من طول المكث في مكان خفي يحميها من العوادي والكوائن، ولو رجعنا لكثير من الدول الكبرى لما وجدنا شيئًا كثيرًا عن تاريخ مؤسسيها وبناتها العظام قياسًا لمن جاء بعدهم من ذرياتهم.

كما أننا لن نغرب إذا قلنا بأن الإمام المؤسس حمل في نفسه مشروع الدولة، ولربما أنه حرص على توضيحه لنجليه الإمام الحاكم العادل عبدالعزيز، والأمير المحارب الشجاع عبدالله، حتى شاركاه في الرؤية البعيدة، فضمن بذلك سياسة التعاقب الرشيد، ورعاية الفكرة، وحماية البذرة، وكان من مساعيهم لأجلها أعمال علمية، ومدنية، وعسكرية، وسياسية، واقتصادية، واجتماعية. ولقد كان المطمح مستحيلًا في الحساب البشري، وبعيدًا لدى أكبر المتفائلين، بيد أن من نبتت الفكرة بقلبه، وتطورت في ذهنه، يراها قريبًا منه ودانية إليه، ولبلوغها نشط في الكر والفر، والقرب والبعد، والاتصال والانفصال، والتحالف والتخالف، والقبض والبسط، والسلم والحرب، وإنها لمسائل يحسنها رجال الدولة في العصور، وآكد ما يكون الإحسان والإتقان، حينما يقف على رأس العمل سليل وريث ذو بصيرة وعزيمة وحكمة؛ فيضبط الحاضر بيد واثقة ذات أيد، ويرمق المستقبل بعين فاحصة ذات شمول، وبين اليد والعين، قلب يقظ، ولسان معبر، وعقل يدبر، ويحيط بذلك كله قدر من الله مالك الملك يجري بما شاء.

وكان ماكان فحمل الفكرة العظيمة أئمة وأمراء وقادة ورجال صدق وعهد، وذهبت حياة فئام منهم ثمنًا لها وفداء، وحينما شاء الله أن تنتهي الدولة الأولى بعدوان خارجي مزدوج، لم تلبث أن تعود الفكرة والدولة على أكتاف فرد جسور مقدام من تلكم السلسلة والأرومة المتداخلة مع البيئة وأهلها، وإنه لعَلَم لمثله يكتب التاريخ، ويرتبط بالإمام المؤسس من خلال أب واحد فقط؛ فجاء المؤسس الثاني الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود (1183-1249)، وعلى يديه كان التأسيس الثاني، لدولة أفادت من التجربة، وأدارت الأحداث بناء على إرث دولة قوية وقع الولاء لها في جذر القلوب، واستقر تقديرها في ثقافة الحاضرة والبادية، وفي وجدان الناس عامة وخاصة.

وقد حمى الله البلاد بالإمام محمد بن سعود من البقاء أوزاعًا، والاستمرار بالتشرذم، والوقوع تحت الاحتلال الأجنبي الذي يجثم على المواقع، وينهب الخيرات وينشر النعرات، ثمّ حفظ الله الفكرة والدولة والمصالح العامة من الشتات والضياع بشجاعة الإمام تركي بن عبدالله؛ فانبعثت الدولة من جديد وفي زمن قياسي حتى وإن كانت الجزيرة العربية آنذاك تموج بأحداث متلاطمة، وفتن وجيوش من الغرباء، ولأجل هذا ابتليت الأرض ومن فوقها بخلاف بزغ، وشيطان نزغ، حتى انحلت العرى، وانتهت الدولة الثانية بعد سنوات ضعف وتنازع جلب المواجع، ولربما أنه استثار في عيون الناس المدامع.

لكن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي (1285-1373) انطلق من مهجره بفروسية ومضاء حتى استرجع الملك المشتهر أمره، واستعاد للصحاري والبحار، وللسهول والجبال، ولأهل الخيام والقرى، ذكرياتها العذبة، وما نعمت به من أمن ووحدة وحفظ للضروريات؛ وعلى يديه بدأ التأسيس الثالث للدولة، وبثاقب رأيه اكتمل هدف التوحيد. وإن هؤلاء الأئمة الثلاثة ومن بينهم ومن أتى بعدهم، ليستذكرون تلك الأيام وهم يحمدون الله ويشكرونه ويثنون عليه، ويحيلون المنة والفضل له سبحانه، ولا ريب فالحمد والشكر واجب وفرض علينا جميعًا، تمامًا مثل الاعتراف بالمنجز المجهد الاستثنائي، وبقدرات أبطاله الشجعان.

إن تأسيس الدولة السعودية الأولى في 30 من شهر جمادى الآخرة عام (1139) الذي يوافقه 22 من شهر فبراير عام (1727م) –يوم التأسيس، وما لحقه من تأسيس ثانٍ عام (1240) وثالثٍ عام (1319) وصولًا إلى لحظة توحيد جامعة بتاريخ 21 من شهر جمادى الأولى عام (1351) الذي يوافقه 23 من شهر سبتمبر عام (1932) –اليوم الوطني، لمن الأيام التي لا تنسى في تاريخنا المحلي والعربي والإسلامي، ومن الفرائد أن تنهض دولة في ثلاثة أدوار متوالية، ولا يكاد أن يفصل بين المنحل والملتئم منها إلّا عقد من السنوات لم يكتب الله له التمام، ولله الأمر النافذ والحكمة البالغة.

كما أن حقيقة تلك الأحداث وثمارها يتلخص في أنها ملك للسلطة بالله ثمّ بالشيمة العربية كما قال الملك عبدالعزيز، ولذا فأيامنا تراث مجيد على أساسه نمضي حسبما ذكر الملك سعود (1319-1389)، ومستندها التي أشار إليها الملك فيصل (1324-1395) هو إيمان هذا الشعب بالله وتماسكه وتفانيه في خدمة وطنه، حتى أصبحت بلادنا مضرب الأمثال في العزة والكرامة والتقدم طبقًا لعبارة الملك خالد (1331-1402)، ولا غرو فهي على منهاج واضح في السياسة والحكم والدعوة والاجتماع كما جزم الملك فهد (1340-1426)، وعليه شهدت منذ تأسيسها نهضة حضارية شاملة وفقًا لتصريح الملك عبدالله (1343-1436).

ولقد اجتمع فيها ما جعلها أول نموذج ثابت الأركان في العصر الحديث بمنطقتنا كما قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظه الله تعالى، وهذا كله يشهد لنا ولبلادنا الغالية بأن لدينا عمق تاريخي مهم جدًا موغل بالقدم ويتلاقى مع الكثير من الحضارات كما بيّن ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان حفظه الله تعالى، وإن تلك العراقة لتجعلنا متمسكين بها، متماسكين معها ولها، داعين بالرحمة والرضوان لمن مضى من أوائلنا وأئمتنا، وبالتوفيق والعون للحاضرين والقادمين كابرًا عن كابر، الذين يحرزون الفكرة والدولة بالصيانة والحياطة والتمتين من أيّ عابث يزمع الفساد والإفساد المادي والمعنوي أيًا كان.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

السبت 27 من شهرِ رجب عام 1444

18 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. والله بلا مبالغة؛ حسافة أيامي اللي درست فيها تاريخ مع أشخاص مايعرفون يشرحون؛ هالمقالة رتبت الموضوع والتسلسل برأسي بشكل تمام، لأنه مهما قرأت من شروحات وتحليل قبل ما أقدر أستوعبها، مقالتك هذه بحفظها عن ظهر قلب فيها ربط سلس وواضح ومرتب، المفروض كل شخص يقرأها بحب .. لأنه يجب فعلًا أنه نعرف تاريخنا السعودي وهويتنا الوطنية و رموز وشخصيات هذا البلد العظيم..
    ليتك كنت استاذنا عشان نستوعب صح..
    شكرًا ألف والله 👏🏻

  2. ما شاء الله تبارك الله ..
    لله درك ..
    مقال يغني عن كتاب ..
    وخير ما يكتب في هذه المناسبة العزيزة على قلوبنا ..
    سلمت وسلمت أناملك ..

    حفظك الله ورعاك 🌹🌹

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)