سير وأعلام عرض كتاب

الخويطر: وسم على أديم رجل الدولة!

Print Friendly, PDF & Email

الخويطر: وسم على أديم رجل الدولة!

يحفل التاريخ منذ القدم بأسماء تتزاحم في المناصب العليا، وهو أمر طبيعي تقتضيه المجتمعات ونظم الحكومات باختلاف أنماطها، وليس بالضرورة أن يحمل جميع من نال المنصب صفة رجل الدولة، ذلك أن هذه السمة لا تكون إلا لمن أوجد من عدم، أو استعاد بعد فقد، أو أكمل مسيرة، أو حافظ على مكتسب، أو جدد قديمًا، أو نشط خاملًا، أو هذّب مترهلًا، وثمت جامع لا مناص في توافره مع جميع ما سبق؛ ألا وهو تقديم المصلحة العامة والعليا والدائمة على غيرها، وتوجيه الجهود كافة لخدمتها.

وحين ارتحل معالي الوزير الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر (1344-1435) نعاه ورثاه جم غفير من الكتاب وزملائه وطلابه وأقاربه، وتواترت آراؤهم على منحه لقب رجل الدولة، وهذا التوافق لا يمكن أن يكون عبثًا خاصة عندما يقوله أناس كثر متنوعون بعد رحيل الموصوف، ولا شيء يرجونه من وراء بوحهم.

فمما يُروى عن معالي د.مساعد العيبان وهو زميل الخويطر وشريكه في المجالس والصفة، أن د.عبدالعزيز كان حريصًا على تبرئة ذمة الدولة كي لا يكون لأحد عليها حق، فللدولة عنده ذمة كما للفرد، وإبراء ذمتها يحقق العدل ويشيع الأمن، وهو واجب في عنق من يحمل وزر المسؤولية، ومهمة شاقة لا يحسن أداءها إلا المسؤول الذي تبرأ به الذمة، فكلكم راع ومسؤول عما استرعاه الله.

ولم يحافظ الخويطر على المال العام كما اشتهر فقط، بل امتدت عنايته إلى الوقت العام حرصًا على المواعيد ووقت العمل لدرجة أنه يحمل نسخة من مفتاح مكتبه في الوزارة، وهو تصرف أشك أن يفعله من هو أقل من منصبه بمراتب، ويصل لمواعيده باكرًا بشهادة الأستاذ سليمان الوايل اليحيى، وبعد أن أذن لسكرتيره د.عبدالله العثيمين بتعلم اللغة الإنجليزية ألزمه بتعويض ساعات النهار بدوام مسائي بلا مقابل.

ولا يقف أبو محمد عند حدود المال والوقت وهما عظيمان خطيران، بل ارتقت همته وتعالت حتى شملت غيرته سمت المجتمع وثقافته وعراقته، فحمل على عاتقه عبء العناية باللغة والتاريخ والأدب، وانزوى عن الإعلام وكثرة الكلام، فلم يحرج نفسه أو بلاده، وكانت مواقفه وكلماته وقراراته مزدانة بالتحفظ والسكينة.

وإذا استبان له وجه رشد سعى إليه سعيًا حثيثًا خلافًا للتأني الذي غلب عليه واشتهر به، وأكبر دليل على ذلك تمكينه الأساتذة الشباب من عمادة كليات الجامعة، وقبوله مقترحات تطويرها، وإسراعه في حجز أرضها وتسجيلها باسمها، ومساندته للتنقيب عن الآثار، واستعانته بالسفير الشبيلي لشراء مخطوطات نفيسة من العراق حاول بعض النافذين هناك عرقلة بيعها أو شحنها للمملكة.

كما حاز معاليه صفتي النزاهة والعدل مع الجميع، ولذلك رفض تجديد أثاث مكتبه مكتفيًا بما تركه سلفه مادام يؤدي الغرض، ولما تبدت على كرسي الوزير تجاعيد السنين وأقترح أحد موظفي مكتبه شراء بديل جديد،كان الحل اليسير إحضار سجادة من البيت، وطرحها فوق الكرسي لتخفي آثار الزمن، وتصلح من شأنه دون إرهاق الميزانية بأموال أصلها لخدمة التعليم. وله من سياسات الشراء والتعاقد ما يقطع الطريق على العمولات والمصالح الخاصة والمبالغة في السعر، وأثر اختفاء الثراء الفاحش ظاهر عليه، والدراهم مهما خفيت لابد وأن تظهر، وهو مالم يلاحظه أحد عليه.

وذكر وزير الإعلام الأسبق الشّيخ محمد عبده يماني عن الوزير الخويطر تكرر رؤيا في منامه ملخصها أنّ ثعباناً يحاصر جزءاً من مكتبته، وحين صعد الخويطر إلى المكان المحدد في مكتبته، وجد كتابين سبق أن استعارهما من مكتبة الجامعة، ونسي إرجاعهما، فأعادهما من فوره، وكم من ثعبان في بطون البعض، وجيوبهم، لكنّهم لم يشعروا بها.

أما العدل فاستبان من رفضه الشفاعات والاستثناءات، فحين طُلب منه استثناء أخيه الطبيب صالح من اختبار معادلة الشهادة أبى مع أن أخاه من أمهر الأطباء كما أثبتت تطبيقاته، وأفاد الأستاذ الكاتب حمد القاضي بأن الوزير الخويطر رفض شفاعته لمعلم مع متين الصلة بينهما، وألح عليه إنسان في واسطة فأجابه: وماذا يفعل من لا يعرف وزيرًا؟ وأمر ابنه الوحيد المهندس محمد ألّا يخبر مسؤولي أرامكو عن صلته بالوزير ولذلك لم يحصل على وظيفة يتمناها.

بينما لا يبخل على وزارته فيما يخدم أركان العملية التعليمية، وليس صحيحًا أنه أعاد فوائض نقدية إلى وزارة المالية؛ بل كان كثير الطلب منها، وأحد طلباته قوبل برفض الوزير الشيخ محمد أبا الخيل؛ بيد أن إجازته بدأت قبل أن يوقع كتاب الرفض، وحل الخويطر نائبًا عنه، فأمضى رأي الوزير الأساسي، ثم طلب من الإدارة المعنية بوزارة المعارف تسويغ طلبها وإرساله من جديد، وكان لا مناص حينها من موافقة وزير المالية عليه بعد رجوعه من الإجازة.

كما دافع عن حقوق المعلمين ومكتسباتهم الوظيفية، ورفض مشاركة الوزارة في أي لجنة تستهدف تقليص ما يتقاضاه المعلمون، وما أجدرنا بتقدير المعلمين والمعلمات، وتهيئة أجواء صحية إبداعية لأركان العملية التعليمية حتى تنعم بلادنا بثمارها، فالتعليم قنطرة لما بعده، وعليه تبنى الآمال.

ويبدو لي أن معاليه نهل من الأدب فغلبته الرقة مع الخدم وضعفة الناس، وأفاد من اللغة رحابة العقل واتساع المفردات حتى أنه يروي أي حكاية ويستل ببراعة ما يشين منها، واقتبس من التاريخ البصيرة والعبر، واكتسب من الممارسة الإدارية الحكمة، ومن المناصب الوزارية الكثيرة أصالة ونيابة الكتمان مع طول النَفس، وتوج ذلك بالصدق والصدق منجاة، وعليه فليس غريبًا أن يُروى عن الملك فيصل ثناء عاطر على الخويطر واعتباره ثروة وطنية لا يُفرط بها، ثمّ يعمل مع أربعة ملوك دون انقطاع، ويُمنح وسامًا عاليًا، وقبلها ثقة كبيرة يحمل بموجبها رسائل شفهية لزعماء ودول.

واستثمر د.الخويطر كل وقته فيما يفيد، ورحل عن أزيد من تسعين عامًا وترك قريبًا من مئة كتاب، وبعد أن سأله الكاتب الأنيق د.إبراهيم التركي عن سر هذا النشاط التأليفي أخبره من فوره بقوله: الشيخ العبودي وأنا لا نلعب البلوت! وفي عصرنا يمكن أن يضاف: وليس لنا حسابات في التواصل الاجتماعي أو الواتساب.

ويؤكد المحامي الكاتب د.محمد المشوح ذلك ويزيد الأمر توضيحًا بقوله: منذ ثمانين عامًا دأب الشيخ العبودي والدكتور الخويطر على تدوين يومي، ومن المنطقي أن يحمي التدوين اليومي الذاكرة من النسيان، ويقود اجتماعه إلى كم يمكن أن يُستل منه كيف بهيج نافع، وهي نصيحة عملية عزيزة أسداها د.الخويطر للكاتبة د.عزيزة المانع، ومختصرها ألّا تنام قبل أن تكتب.

لذا عمر الخويطر وقته بعد العمل الحكومي المضني بالقراءة والتأليف، وهو سريع القراءة دقيق الملحوظات، ويكتب المقدمات لمن طلب منه إذا رأى أن عمله الثقافي يستأهل، ولا يستنكف من إيضاح رأيه في كتاب لمؤلف شهير أو مغمور، وحين أعجب بسيرة اللواء الأديب عبدالله السعدون عزم على كتابة مقالتين عنها؛ فاسترسل قلمه إلى تأليف كتاب تفاعلي كامل مع هذه السيرة السعيدة.

ولم ينشغل الوزير الخويطر بادعاء التدين أو الوطنية، ولم يحاول نزعهما عن غيره، ولم يضع وقته بتزكية نفسه أو عمله، وتركها للآخرين وللزمن، فما كان نافعًا أو مخلصًا لله فسيبقى، ومن خصاله أنك لا تسمع منه قولًا جارحًا ولا مفاكهة تخرج عن وقار العلماء كما قال الشيخ أبو عبدالرحمن بن عقيل، ومنها الإصغاء مع خفض صوت حديثه إذا تكلم، وعندما يشرع أحد في لمز غائب يقطعه بقوله: ولكن ثم يسرد مناقب المغموز بسوء، فينقلب الاتجاه من مثالب إلى مآثر بلا مآثم.

كما يقيل عثرة المخطئ ويفتح صدره للمعتذر لأنه يعلم يقينًا أننا بشر ولسنا رسلًا معصومين أو ملائكة منزهين، ويتساوى الناس لديه بالترحيب والتحية، ويمشي مع زواره حتى الباب معللًا رفضه ترك ذلك أو الاكتفاء بالتوديع عن بُعد بأن أضيافه مشوا إليه مسافات أفلا يمشي معهم خطوات؟! ويمتاز مجلسه أنه مجلس أنس وانشراح وفوائد، ولا تدور فيه نقاشات حادة أو تطرح موضوعات خلافية، ويذكرني بمجلس الأب أنستانس الكرملي.

بينما يلتقط معاليه السانحة الإيجابية من أي موقف، إذ انتظر سائقه عند باب الوزارة وحين هم البعض باستعجال السائق المشغول بالقهوة منعهم وقال دعوني أجرب قدرتي على الوقوف الطويل بعد إجراء عملية في الركبتين، تلك التجربة التي كتب عنها كتابًا ليشجع من يعاني على الخلاص من آلامهما، ودخل على مكتب يحمل صندوقًا من الكتب رافضًا أن يساعده أحد فالحمل تدريب طبيعي لليد.

وليست المشقة على الآخرين في قاموسه، فهو يعاون طباخه في منزله بجدة بلا تحرج، وسكن في حي دون أن يضايق أهله كما يفعل بعض الكبراء، وأصبح بينهم نسمة مباركة يشاركهم في مناسباتهم خالعًا عباءة المنصب، فاتحًا باب داره يومين أسبوعيًا، وأوصى أن تقام صلاة الجنازة عليه في المسجد المجاور للمقبرة حتى لا يرهق من يشيعه.

تجلّت لي هذه السمات خلال مطالعة كتاب عنوانه: د.عبدالعزيز الخويطر: وسم على أديم النزاهة والوطن، تأليف الأديب الأستاذ حمد بن عبدالله القاضي، وصدرت طبعته الأولى عام (1436) عن دار القمرين للنشر والتوزيع، ويقع في (207) صفحات، ويتكون من إهداء وإضاءة وسيرة مختصرة للخويطر، بعدها سبعة أبواب، ثم الوداع، فتعريف مختصر بالمؤلف، وريع الكتاب لصالح الجمعية السعودية الخيرية لمرضى الكبد، وأكثر الوقائع الآنفة التي نظرت إليها بتحليل مروية في هذا الكتاب بتفصيل أوسع.

أشير إلى أن الخويطر نال أطول عضوية متواصلة لمواطن في مجلس الوزراء (1394-1435)، وينقل عنه حث أصحاب الخبرات على كتابتها، وهو ما فعله في معلمته الضخمة وسم على أديم الزمن، وحكى فيها شيئًا كثيرًا مما وعاه وعاصره في عنيزة ومكة والقاهرة ولندن والرياض حتى غدت خزانة وطنية نفيسة، وصار الكتاب ذو الأجزاء وسمًا على أكثر من أديم.

وكم أتمنى أن تستفيد القطاعات الحكومية من مستودعات الخبرة والمعرفة هؤلاء، فالخويطر كنز أسرار غابت حكمتها بوفاته، ومثله الشيخ محمد النويصر الذي وضع يده على رأسه وهو يجيب مقترح القصيبي بكتابة سيرته قائلًا: من هذا إلى القبر! وليس مطلوبًا من أمثالهم كشف الأسرار، وإنما إضاءة الطريق، ومنح الأجيال الجديدة من المسؤولين خلاصة نقية مختصرة عملية؛ تعينهم على قطع رحلة الأمانة حتى تغنم بلادهم في الدنيا، ويغنموا النجاة في الآخرة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 03 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1440

04 من شهر أغسطس عام 2019م 

Please follow and like us:

20 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)