سير وأعلام

منصور التركي: المدير الرمز

Print Friendly, PDF & Email

منصور التركي: المدير الرمز

تفرض بعض الشخصيات حضورها دون إجبار، بينما ينمحي آخرون بمجرد زوالهم ولو تمركزوا في كلّ زاوية وتسمروا أمام أيّ بارقة، ويظهر لي بأن معالي الدكتور منصور بن إبراهيم التركي (1362-1441) من الصنف الأول، فمع أنه خامس مسؤول يدير جامعة الملك سعود، ورابع مدير معيّن لها، إلّا أن اسمه محفور بتوقير بالغ في تاريخ الجامعة، وفروعها، ومبانيها، وأقسامها، وأنشطتها، وعلى لسان أساتيذها وعمدائها، وفي عراقة التقاليد الأكاديمية فيها.

درس أبو ريان الاقتصاد وتعمق فيه، وظلّ وفيًا لمنطلقات دينه وأحد دعاة إرساء علم اقتصاد مبني على النظرة الإسلامية؛ فلجميع العلوم أثر من البيئة التي وردت منها، يجعلها رهينة لإطارها، ومتأثرة بحمولتها من القيم والمسلّمات، ولأجل تحقيق أمنيته ترجم الدكتور وألّف في تخصصه، واقترح ترجمة كتب علماء الاقتصاد الذين سبقونا من المسلمين في آسيا وغيرها، وتلك عزة تنبئ عن نفسية لا تنهزم، وشموخ لا ينكسر، وهو ما نفتقده في بعض أهل الاختصاص المفتونين بما عرفوه، الملتفتين عمّا جهلوه من تراث أمتهم الضخم. ومن اللافت أن د.التركي لا يتعامل في أسهم البنوك وهو الذي يعلم قوتها وأرباحها، ولا أظنه فعل ذلك إلّا تجنبًا للربا وما يشبهه.

وحين أصبح معاليه مديرًا لجامعة الملك سعود بعد سنوات قضاها في منصب إداري رفيع بوزارة المالية يأمر وينهى ليس موظفيه فقط، بل وله سلطة على أكابر منسوبي الوزارات الأخرى، دلف إلى الجامعة خالعًا عباءة الإداري الضيقة، وملقيًا عصا المديرين الغليظة، ومدّ يديه للأساتذة والعاملين في الحرم العلمي الكبير، وفتح قلبه وابتسامته وباب مكتبه للكافة، ولم يغلقه دون الطلاب الذين شهدوا له بالبشاشة، والحرص على المشاركة في الأنشطة التي ازدهرت في سنوات إدارته.

كما قاد بتفانٍ وخبرة مفاوضات التعاقد لبناء مقر الجامعة الحالي، واستطاع بإصراره ومعرفته تخفيض المبلغ المطلوب من خمسة عشر مليار ريال إلى ثلثه دون أن يفقد المبنى شيئًا من أساسياته، وأنجز العمل خلال أربعين شهرًا، والمبلغ مع زمن التنفيذ رقمان قياسيان، والجودة مع عملية المبنى وفخامته مثال يذكر ويشكر، وأما النزاهة فأجرها عند العلي الكبير، وبعد ذلك تفرغ للتعاون مع زملائه في توسعة الأقسام، واستقبال المبتعثين، وإنشاء المراكز، وافتتاح الفروع التي غدت اليوم جامعات مستقلة ضخمة.

أما الذين عاصروه عن قرب فأثنوا على مسالكه الإدارية التي جمعت الإنصات مع اللطف والقوة، وذكروا أنه قطع الباب على الشائعات برفض سماعها إذا جاءت على هيئة مشينة، وبالوقوف على الحقائق بنفسه إذا بلغته الملحوظة بطريقة واضحة حسبما كتب الشيخ محمد الوشلي في مقالة وداعية مؤثرة. ومنها أنه منح الثقة والصلاحية لمن يستحقها من الفريق العامل معه، وحرص على إشاعة المشاورة وتبادل الآراء؛ فأجواء الجامعة ليست ثكنة عسكرية، أو دائرة أمنية ليس فيها إلّا آمر ومأمور وأمر، ولذلك التزم إبان إدارته بالتقاليد الأكاديمية حسب الممكن.

بينما كان ابن عنيزة وربيب المدينة النبوية في خاصة نفسه متآلفًا مع صحبه، زاهدًا في المظاهر ويكفي أنه أدى فريضة الحج مثل فقراء المسلمين متنازلًا عن الرفاهية طبقًا لرواية د.أحمد التويجري، وبعد تقاعده عن العمل أكثر التردد على مراتع صباه في المدينة النبوية التي أوصى أن يدفن فيها، وفي حياته سابق مؤذن مسجدهم إلى فتح الباب والآذان فجرًا نقلًا عن تغريدة للأستاذ علي الشدي في نعيه، هذا غير أعمال خيرية رعاها، عرف الناس منها توزيع الماء، ودعم المراكز الصحية، ولعلّ ما غاب عن الإحصاء أكثر، فقد وقفت قديمًا على خبر مشروعات خيرية ودعوية كبرى استوت قائمة بفضل أموال عدد من مديري الجامعات وجهودهم، وليس منهم أحد محسوب على المشايخ، والله يتقبل منهم، وقد لاحظت أن بعض أصحاب المعالي نافسوا على عمل الخير ورفع الآذان بعد تقاعدهم احتسابًا كما فعل د.منصور.

أيضًا أشاد الناس بسمة عجيبة فيه، إذ يهبُّ لعون الضعيف أكثر من القوي الذي يجد أكثر من ناصر ومعين، وتلك لعمر الله خصيصة لا يفعلها منافس على الدنيا، ويا لعظم أجرها الذي زاد على ثواب الاعتكاف شهرًا. ومما رواه لي أحد المغردين أنه نقل لمعاليه شكوى طالب من طلاب المنح، يأتي للمملكة من بلده ضمن عدد قليل من مواطنيه، فلا يجد خدمة سريعة في الاستقبال والسكن، فتفاعل الإداري الحصيف العملي، ووجه بحلّ مشكلة الطالب، وبادر لتنظيم إجراء متبع ونظام دقيق يمنع تكرارها مع غيره، وبان عليه التأثر من هذا الموقف الخاطئ، وكان يقول: تصرف الدولة الكثير من الأموال والأعمال ثمّ نخسر هؤلاء الطلاب بسبب أخطاء سخيفة، وهي رسالة من معاليه البصير لجميع من يعمل عملًا يدخل ضمن مفهوم القوة الناعمة، وهذه الرسالة يجب مراعاتها؛ حتى لا يفسد حادث أرعن حكمة سنين طويلة، ويضيع قول غير محسوب أموالًا محسوبة.

ثمّ حدثني مغرد بناء على طلبي بقوله: تقدمت لدراسة الماجستير في أحد الأقسام، فقُبلت وعيَّنوا لي مشرفًا أصبح في نفس الوقت رئيسًا للقسم، ولسبب لا أعلمه اقترح المشرف على مجلس القسم تجميد قبولي، فذهبت يمنةً ويسرةً بين القسم وعمادة الكلية وعمادة الدراسات العليا وعمادة شؤون الطلاب دون جدوى، وزاد الطين بِلة أنني لم أكن من سكان الرياض، وإنما انتقلت إليها لأجل الدراسة.

‏وبعد أن طالت المدة ولم أجد مخرجًا، ذهبت إلى عميد شؤون الطلاب وجلست للانتظار وملامح الهَم تكسو وجهي، وكان بجواري رجلان عاميان يتحدثان، وأنا ساكت واجمٌ، فقال لي أحدهما: ما بك؟ قلت: لا شيء! فألح عليّ فأخبرته ببعض أمري، فطلب مني كتابة عريضة ومقابلته غدًا، ووعدني بالفرج وأنا أردد في نفسي: ماذا سيفعل هذا المسكين بجانب أولئك العسِرين من العمداء وغيرهم؟

‏فكتبت طلبي وقابلت صاحبي وسألته: من تكون؟ فقال: أنا السائق الشخصي لمدير الجامعة الدكتور منصور التركي، وسأكلمه عن موضوعك عندما أعود به إلى البيت، وأخذ بيدي إلى سكرتارية مكتب مدير الجامعة، وطلب منهم توثيق كتابي برقم وعرضه على معالي المدير، وكنت قبلًا أتهيب من شيء اسمه مدير الجامعة، وأظنه أعسر من هؤلاء الذين تحت سلطته، ولكن ظني لم يكن في محله!

‏ثمّ راجعت مكتب المدير في اليوم التالي فقالوا لي: ادخل وكلمه، وما أن رأت عيناي سعة المكان، وفخامة فرشه، وجلوس المدير وراء منضدته في آخر المكتب، والأعلام من ورائه ترفرف، والزينة والدروع تبرق، حتى أنكرت مشيتي؛ فلم تعد قدماي تلك التي أعرفهما، وسرعان ما زال عني الروع والذهول، إذ لم أشعر إلّا وقد نهض معاليه من على كرسيه، ثمّ أقبل عليّ واستقبلني في المنتصف باسمًا مشرقاً وصافحني –بل ضرب كفه بكفي– فأذهب بذلك خيفتي، وأجلسني مستمعًا لي، وطلب مني أن أراجع قسمي في اليوم التالي.

‏وحين راجعتهم فإذا بهم قد لانت عريكتهم وذهب شرهم، وفي أول جلسة للقسم عينوا لي مشرفًا من ألطف وأحسن الناس خلقًا وعلمًا وتفانيًا، ومرت السنون وتخرجت وتوظفت وتقاعدت ولم يزل منصور التركي الإنسان الذي لم تذهب صورته وموقفه ذلك من خلدي، ولم يزل ضمن من أدعو لهم صباحًا ومساء ممن أحسنوا إليّ، ولعلّ هذه الدعوات مع غيرها أن ترفع درجة د.منصور الذي غادر الدنيا إلى الآخرة قبل ثلاثة أيام. كما نقل د.محمد القنيبط موقف المدير التركي الحازم من تمديد بعثة طالب دراسات عليا تأخر اضطرارًا، وأرادت إدارة الابتعاث عرقلته فمنعها، وبعد سنة واحدة عاد المبتعث ومعه شهادة الدكتوراه.

إن د.منصور التركي بما وهب من سمات إدارية وإقدام وحسن ظن بالأخرين، مع فطنة وذكاء، لرجل دولة جدير بأن تستجلى مكامن شخصيته الإدارية والفطرية كما صنعت إثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجه في احتفائها به عام (1413)، وللعلم فهو ثالث سعودي يحصل على الدكتوراة في الاقتصاد بعد د.يوسف نعمة الله، ود.محسون جلال، وعسى أن تؤدي جامعتنا العريقة شيئًا من ذلك، فلمعاليه رمزية في مسيرة الجامعة ووجدان بنيها جعلته أشبه بمدير مؤسس نافس من سبقه من أصحاب المعالي د.عبدالوهاب عزام، والشيخ ناصر المنقور، ود.عبدالعزيز الخويطر، ود.عبدالعزيز الفدا، ولم يفقد أهميته في سجل الجامعة حتى بعد مغادرته لمنصبه الرفيع فيها بثلث قرن، ولم تضمحل آثاره وأخباره مع أنه أدار الجامعة بعد أربعة، وقبل أربعة!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 16 من شهرِ ذي القعدة عام 1441

07 من شهر يوليو عام 2020م  

Please follow and like us:

3 Comments

  1. سرد جميل والله لسيرة د. منصور جعلت دمعتي تنزل من عيني لجميع أفعاله مع الطلبه حتى وصل الأمر ببعضهم أن يدعو له حتى يموت كأنه أبوه! ياحظ هذا المنصور بما فعله بدنياه حتى ينعم به في قبره وأخراه، رحمه الله وجزاه جنته💐

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)