إدارة وتربية سير وأعلام

عبدالله بانعمة وتغيير المفاهيم!

Print Friendly, PDF & Email

عبدالله بانعمة وتغيير المفاهيم!

أنت لا تقدر أبدًا؟ هو في غم وكدر دائم؟ قد أحاطت البلايا بإنسان إحاطة سوار غليظ بمعصم رقيق؟ وغيرها من جنسها فما أكثر الأعذار التي نسوقها لأنفسنا، ونزين بها القعود والتكاسل والتراخي؛ فيأتي الشيطان -نعوذ بالله منه- ليعزز رأينا القاصر، ويفرح بقصورنا الظاهر، لكن يأبى الله إلّا أن يقيم الحجة على عباده، وعلى أهل كل زمان ومكان؛ فالأرض لا تخلو لله من قائم لله بحجة كما قال الإمام الغزالي.

ومن الحجج علينا في زماننا وبلادنا الشيخ الداعية عبدالله بانعمة (1396-1444) الذي أصيب بشلل رباعي على إثر حادث وقع له في مسبح عام (1413=1993م)، وهو حينذاك في أول الشباب ومستهل العمر؛ فصار الفتى مشلول الأطراف، قعيد الأركان، لا يتحرك منه سوى رأسه، بيد أن هذا الرأس المتفرد بالحركة كان في حركته محركًا لقلوب وأرواح وأعمال، وعندما سكن أحدث حراكًا اهتزت له جنبات تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي، والعزاء لأسرته ومحبيه ولنا جميعًا؛ فقد كان نعمة لأكثرنا، وعامل تحفيز واستنهاض للهمم، وسببًا من أسباب الفأل والانشراح.

لقد شارك الشيخ الراحل بفعالية بالغة، وكفاءة رشيدة، واستمرار مذهل، وكانت مشاركته سببًا في تغيير القناعات الراسخة بأن الأداء يستلزم الكمال والتمام، وأن المسؤولية لا يحملها إلّا الأقوياء، وأن التأثير يتطلب صفات جسمانية، وأن ابتداء العمل لا بد له من استعداد دقيق واستحضار مستغرق، وقد سقطت كل هذه “المثبطات” بأمثلة من واقعنا، وإن شيخنا من تلك النماذج لبمكان سني بارز، وكم في البدايات الأولى من أسباب مباركة للمضاء والبقاء والنفع.

لذلك استثمر الشيخ الداعية جميع الوسائل المتاحة له بصناعة الفرص من أجل هداية الناس إلى رب العالمين، وتقريبهم إلى تحقيق مراد مولاهم سبحانه، والاهتداء بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولم يرفض إجابة من دعاه إلى لقاء دون أن يتقاضى مقابلًا ماديًا على ذلك أسوة بغيره، وهذا من بصيرته الاستثمارية في الآخرة التي سنصير إليها ولا محالة، بعد رقدة برزخية انفرادية قد تطول، وما أكثر توفيق مَنْ يستعد لهاتيك الرقدة وما بعدها من أهوال بزاد عظيم عسى أن يتقبل من ربنا فيربو وينمو.

كما أن الله قد وفق عبده إلى عمل صالح يبقى ويستمر حتى عقب مغادرته ساحات الحياة، وتلك من دلائل التوفيق، وسمات الحصافة، فما أشدّ بركة من أن يترك المرء وراءه آثارًا تُعدّ من حسناته الباقيات، وتجري عليه أجورها حتى وهو في قبره، ويا له من حبور وسعادة حينما يشاهد العبد صحيفة أعماله طويلة بالحسنات، مليئة بالصالحات، وفيها من استغفار عباد الله وأوليائه له، ودعائهم، وعملهم الصالح بسببه أو عنه، وفيها أجور من اقتدى به وبصنيعه القيادي الهادئ المؤثر بلا ضجيج.

ثمّ رحل الشيخ الكريم حينما ترجل من الدنيا الدنية وقد ظفر منها بأجر انتظار قدوم شهر رمضان، وأحدث له نية صيامه وقيامه والاجتهاد فيه، وإن المتاجرة بالنية لدأب الصالحين الأبرار. ورحل الداعية المحبوب ليلة جمعة عسى أن تكون علامة على حسن الختام، وصُلي عليه في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ودفن إلى جوار الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- وهم أعظم دعاة للحق عرفتهم البشرية بعد الأنبياء-عليهم الصلاة والسلام-، وفوق ذلك كان مدفنه في مدينة نازلها خير البشر-صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، وستخرجِ منها رجفةُ طرد الدجال أيّ منافق!

يا قوم! إنها لحياة قصيرة ستمضي بسرعة البرق الخاطف، ويا قوم! هي حياة مطبوعة على الكدر والكبد والمناكدة، فلم لا نجعلها غنيمة باقية بما فيها من مواطن الصبر، ومواضع الشكر، ولم لا نعظم الاستثمار لمستقبل آت ولا مناص، ولم لا نعمر دارًا نحن إليها صائرون. ويا قوم إن المحبة في النفوس، والود في القلوب، وانتشار لسان الصدق لأناس دون آخرين، كلها أقدار بيد ربنا الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي يأمر ملائكته الكرام بجعلها في الأرض، أو غرسها في القلوب، ولو تظافرت الدنيا بمن وما فيها على عكس ذلك لما استطاعوا؛ وإنها لعبرة تذوي أمامها الأموال والمناصب والشهوات والجمال وكل مغريات الحياة الدنيا، فلا يبقى إلّا ما كان لله فقط؛ لأن المتاجرة مع الكريم رابحة مضمونة مأمونة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 05 من شهرِ رجب الحرام عام 1444

27 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)