سير وأعلام

اللواء عبدالله العليان حامل اللواء

Print Friendly, PDF & Email

اللواء عبدالله العليان حامل اللواء

ثق إلى حدّ كبير بأن أحدًا سوف يسأل عنك بعد غيابك، ولو أن يكون السائل من بنيك أو أحفادك ومن في حكمهم، هذا إذا لم يكن لك في الحياة خطر أو تأثير، فإن كان لك في دنيا الناس حضور لافت، ومشاركة لا يمكن تجاوزها، فإن هذه الثقة تصل إلى درجة اليقين وعينه. وكم يشتاق الباقون إلى شيء من ذكرى أبويهم عقب رحيلهم، وقد سمعت كلمة من الشيخ ابن جبير يتمنى فيها لو سجل مع والده لقاء مصورًا، ومثله كثير ملأ الحنين قلوبهم إلى صوت أم أو أب بعد وفاتهم، وهجمت عليهم الأسئلة المدفون جوابها تحت التراب.

وعندما رحل عن الدنيا في اليوم الثامن العشر من الشهر المنصرم اللواء عبدالله بن حمد الصالح العليان (1354-1444)، كان قد وفق إلى ترك أوراق فيها شيء من الخبر والذكرى والعبر، يأنس إليها بنوه وبناته، وينظر فيها الابن والحفيد خاصة إذا ما اشتد الشوق، وتكاثر السؤال؛ فيجد الحي رائحة الميت، وأحاديثه، وشيئًا من روحه وخبره؛ فيسعد بها، ويتخذها حنانًا يأوي إليه كلما تاقت نفس الابن البار إلى أثر عن والده الحبيب.

ففي هاتيك الأوراق المختصرة سنجد وصفًا لحياة الكدّ والشقاء، إذ يقول كاتبهاكنت واحداً من الذين لبسوا الثياب المرقعة، وهو ثوب واحد فقط، وسافروا حفاة أيامًا متوالية في أزمان تصلى بها الشمس المستكن فضلًا عن الضاحي، أو يلسع زمهريرها لابس ثقيل الثياب فكيف بمن نصيبه منها الخفيف الذي لا يقي؟! ثمّ وصف الدراسة وما لاقاه من عنت وفلكة وصعوبات، وحياة الارتحال بحثًا عن عمل شريف، ولقمة كريمة، واقتراب من الاكتفاء ولو بغسل الصحون كي يغتني عن الخلق، ويحفظ الحياء وماء الوجه، والله يرحم أولئك المكافحين.

ثمّ تنقلنا السيرة الأسرية الخاصة إلى ذكرياته الدراسية في المدرسة الابتدائية، والمدرسة العسكرية بالطائف، إلى أن ابتعث للدراسة العسكرية في مصر، وقد مقت سيل الإهانة الموجه للطلبة في الكليات العسكرية، وعندما صار له أمر ونهي في الكلية الحربية قضى على هذا الإرث البغيض المستورد قدر استطاعته. ومن ذكريات الدراسة ما تحصل عليه من برامج ودورات، ومن أميزها أنه بعد التقاعد مباشرة درس اللغة الإنجليزية في أمريكا؛ فللعلم نهمة لا ترتبط بالعمل، ولا بالدنيا.

كما جاء في السيرة أخبار عن سيرة اللواء العملية قبل تقاعده وبعدها، وفيها أنه عمل داخل المملكة وخارجها ملحقًا عسكريًا في قطر وهو الأول هناك، وضابط اتصال في سفارة الكويت، وشارك مع القوات العربية لحماية الكويت من تهديد عبدالكريم قاسم. وفي الكويت عرضت عليه فرصة مالية ستغنيه مدى الحياة فرفضها لحرمتها، وفي قطر أحبه حكامها وغيرهم وصارت له مكانة طيبة بينهم، كما وجد الود والتقريب من ملك الأردن. أما في المملكة فكان إبان عمله ميالًا للضبط الذي لا يقطع الباب على التيسير، ولذلك أصبحت علاقته طيبة مع زملائه على اختلاف المواقع، مما أهله لتأسيس إدارة جديدة للمتقاعدين في وزارة الدفاع، وتولي إدارتها مباشرة.

وعندما أصبح مسؤولًا عن متقاعدي الوزارة تفاجأ من معاناة يجدها المتقاعد في سبيل إكمال الحياة أو نيل خدمة يستحقها؛ فسعى جهده للمطالبة اللحوحة لهم بما يستأهلونه، وقوبلت مطالباته بترحيب ورضا من بعض المسؤولين، بيد أنها لم ترق لآخرين فكان جزاؤه ضمه إلى صفوف المتقاعدين وهو على رأس الخمسين من عمره، وصدر القرار خلال سفره.

ومع ذلك لم يضع جهده إذ أن كل متقاعد يعرف جهوده، ولم تقف عنده عجلة الحياة إذ استمتع بها مع الصحبة والمشي والسفر بعد التقاعد. وبعد انصرافه عن العمل العسكري أتاه تكليف عزيز من وزير الدفاع للعمل في الخزن الإستراتيجي، فأمضى عمله لمدة عقد تام مع شباب أكسبهم خبرته ودرايته، واقتبس منهم جذوة الشباب وشعلة النشاط حتى استطاع إكمال كتابة البحوث الإدارية، ونشرها في أكثر من أربع مجلدات، تحتوي على مئة وعشرين بحثًا.

لذلك فمن الطبيعي أن يكون له مواقف عملية لا تنسى، منها أن دبابة تعطلت في الطائف، وكان شرط الأمريكان أن تكون الصيانة من طرفهم فقط، وتنقل الدبابة إلى أمريكا، وطبعًا ستغدو التكاليف باهظة؛ لكن العليان مع جنديين هما حسن عسيري وشعبان عسيري تمكنوا من إصلاح الخلل، وسارت الدبابة على أحسن هيئة، وقد أصدر القائد العسكري أمره بترفيع الجنديين إذ نسب لهما العليان الفضل، وصارت الصيانة الداخلية متاحة للسعوديين، وما أقدرنا على الاستغناء إذا منحنا الفرصة بعد التوكل على الله.

ومن مواضع السيرة البهية بره الكبير بأبويه، فما يقبضه من رواتب ومكافآت تذهب إلى والده من فوره، وبعدما صار له راتب اشترى لأبيه منزلًا قبل أن يشتري لنفسه، وسيارة تلو أخرى. وأحضر لوالدته الأجهزة التي تعينها في عمل المنزل، وجهازًا يتلوه جهاز آخر، وليس هذا فقط إذ تعاقد لها مع خادمة أسبوعية. وأمضى عمره خادمًا لأبويه، خافضًا لهما جناح الرحمة من الذل، ذاكرًا لهما بتبجيل وإجلال، وهو لا يرى في صنيعه فضلًا، ولا يعتب على شيء من قسوة وجدها منهم؛ لأنه يعلم يقينًا أن قلوبهم معمورة بمحبة أولادهم، بيد أن لأواء الحياة وضنكها يضجر الحر الأبي، فيسخط ويغضب ويزمجر، والله يعين الآباء، ويلهم الأبناء التقدير والبر.

كذلك في السيرة طرف من سلوك الرحمة المنغرسة في نفوس أهل مجتمعنا، منها أن طالبًا في الكلية الحربية كاد أن يعتذر عن الدراسة؛ فاجتهد العليان حتى عرف السر وراء هذه الرغبة، فبادر لاستصدار أمر بعلاج والدة الطالب، ونقلها لعمل مريح، مع منحهم مساعدة مالية وبذلك أكمل الطالب دراسته وتخرج ضابطًا. ومنها أنه تلقى رسالة من زوجة متقاعد تطلب عونها في تقسيم المبلغ الزهيد الذي يأتيها من راتب زوجها التقاعدي؛ ففهم المراد، وأوصل موضوعها لمن يقوى على إصلاحه وقد كان. وركب مع أمير عسكري لم يستجب لإشارة جندي المرور؛ فلامه العليان وقال له: هذا الجندي يمثل الملك فيصل! فرجع الأمير من فوره واعتذر للجندي. ولأنه كان ظاهر الإخلاص والنفع، لم يغب عن بال المسؤولين حتى وهو في مرضه الأخير، إذ صدرت توجيهات عليا بعلاجه في أرقى المستشفيات.

ومن لطيف الحكايات أنه اعتاد على تفريغ زجاجة عطر كاملة على ثيابه ويديه حينما يكون مدعوًا في منزل زميله؛ مما يحرج الزميل أمام بقية الضيوف الذين لا يجدون في الزجاجة الواقفة عند المغاسل أيّ قطرة عطر! وعندما اكتشف الزميل أن العليان هو من يفعل ذلك متعمدًا، ويبكر في الانصراف من المائدة، وضع في الزجاجة زيتًا كريهًا، فوقع صاحبنا في الفخ وأفرغ الزيت على ملابسه ويديه ووجهه ليكتشف حينها أنه زيت قبيح الرائحة لا عطرًا كالمعتاد، ولمح مضيفه واقفًا ضاحكًا شاعرًا بنشوة الانتصار ولذة الانتقام، وهو الانتقام الذي عاد عليه بقصة أخرى حين أحرجه العليان مع ضيوفه، وتلك الوقائع معهودة بين الأصدقاء، ومتوافقة مع شخصية أبي خالد النشيطة المزوح.

كما جاء في السيرة أن أول سيارة اشتراها العليان مملوكة للشيخ عبدالله بن حسن آل الشيخ رئيس القضاة بالحجاز، وفيما بعد ربط بين زميله في الدراسة الابتدائية بالطائف د.بكر بن عبدالله بن بكر وبين وزير المعارف الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ الذي اصطفى بكرًا لعمادة كلية البترول وإدارة جامعتها فيما بعد. ومما ورد فيها أنه اشترى سيارة فورد خلال إقامته بأمريكا بعد التقاعد، وبعدما رجع للمملكة كانت دابته الفورد أول سيارة من نوعها تدخل للمملكة بعد نهاية المقاطعة. وقرأت في موضع آخر أن اللواء العليان احتفى بمقالات نجل شقيقته أ.د.محمد القنيبط، ووزعها على معارفه، وأعاد تصنيفها وهو ما لم يفكر به كاتبها، وما أحوج أصحاب المواهب لمن يشجعهم.

فلا غرو حينما نصف راحلنا بأنه ممن حمل لواء الجدية، وبر الأبوين، وخدمة الطلاب والموظفين والمتقاعدين والمجتمع ماديًا ومعنويًا، والإخلاص في العمل مع الإبداع، ثمّ حمل لواء التوثيق ولو بدون نشر، وإن السر ليكمن في قول أبي خالد المكتوب: إنه تعمّد ذكر حياة الحرمان والفاقة؛ لأنها عزيزة عليه وأثيرة عنده، ولذلك رغب أن يكتب لأبنائه لكيلا ينسوا جذورهم مع حياة الرفاهية والتكنولوجيا وغيرها من مغريات الإنسان في هذا العصر وما سيليه.

وفي التوثيق فوائد أخرى منها أن تكتب عن نفسك فتسلم من اجتهادات الآخرين وتأويلاتهم وتقولاتهم، ومنها نفي بعض القصص والمرويات عن الإنسان، وقد قرأت كلمة للأمير خالد الفيصل في حوار منشور قال فيها إنهم يخشون من نسبة الشعر إلى الملك فيصل أكثر من خشيتهم على ضياع شعره! ومثل هذه الكلمة قرأتها عن الشيخ صالح بن حميد في نفي بعض الوقائع عن والده الشيخ القاضي حتى وإن كانت قصصًا جميلة، ومثلها ما نفاه الشيخ عبدالمحسن العباد البدر عن مواقف رائعة نسبت إليه؛ وقد فضّل هؤلاء الكرام الحقيقة على الادعاء، والحقيقة تكون بالوثيقة والرواية المتواترة؛ فيا قوم اكتبوا واحفظوا، واتركوا لخلفكم شيئًا من تاريخكم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الجمعة 19 من شهرِ رجب عام 1444

10 من شهر فبراير عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)