سير وأعلام

فاطمة نصيف وثمانون عامًا من الإشراق

فاطمة نصيف
Print Friendly, PDF & Email

فاطمة نصيف وثمانون عامًا من الإشراق

الحياة مهما طالت فهي قصيرة؛ بيد أن بعض عباد الله هدوا إلى إطالة أعمارهم بالعمل الصالح الباقي، والأثر الطيب المستمر، وتلك سمة من عراقة الإيمان التي تظهر بجلاء في بيوت النبوة مثل بيت الخليل إبراهيم عليه السلام، وفي نسله العظيم من لدنه حتى الجناب الكريم صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا، وهو شأن ممتد إلى مَنْ يحمل العلم والإيمان والصلاح من ذلكم النسب الشريف السامي.

وهي عراقة لم تُرفع من الأرض، ولم تخلُ منها الحقب والأزمان؛ إذ ورثتها بيوت كبرى بالعلم، والتأله، والجهاد، وصنائع المعروف، وإصلاح المجتمعات، وتربية الأجيال، والوقف، وأداء ما فيه المنافع والمحامد في الحال والمآل، وللحاضر والباد، وربما للموافق والمخالف، وهذا من فضل الله على أولئك الأنقياء الخلّص البررة، وإنها لمنقبة لم تغب عن بصيرة المؤمنين؛ فتكاثر منهم الدعاء والإلحاح بين يدي مولاهم طالبين صلاح الأبناء والذرية والأحفاد.

فمن تلك البيوت العريقةولا أزكي على الله أحدًابيت آل نصيف الكرام، الذين عرف الناس منهم الجد الوجيه العالم، صاحب البيت والمكتبة والمجلس، وخبروا الحفيد الإداري المغيث، صاحب المعالي والمآثر، وقرأوا عن الأم الداعية المعلمة المؤسسة، صاحبة البناء واللبنات الراسخة، وتسامعوا عن البنت المصلحة المؤلفة السائرة على دروب أوائلها، وخطوات أمها، وحاملة المفاخر الأسرية بالعمل والتأثير، حتى وافاها الأجل المحتوم على كل حي صبيحة هذا اليوم.

وإنها لثمانون عامًا مشرقة منيرة عاشتها فضيلة الدكتورة فاطمة بنت عمر بن محمد بن حسين نصيف (1364-1444)، والثمانون كثيرة إذا تأملها شاب في بواكير أيامه وحياته؛ بيد أنها قصيرة في نظر مَنْ أدركها أو تقارب منها؛ حتى غدت لديه مثل لمح البصر، أو نوم ساعة، وربما حلم في غفوة، ويظلّ المقاس الأهم في العمل المنجز، والآثار المتروكة، وفي القبول من رب العالمين سبحانه؛ فكم من معمَّر خامل أو مدمر، وكم من شاب قضى بعد أن حجز لنفسه مكانًا مع الخالدين الناصحين.

فإذا أردنا استطلاع طرف من سيرة راحلتنا الغالية؛ فسوف نجد أنها حفظت القرآن الكريم وأتقنته بضبط وهي صغيرة السن، ثمّ استمسكت بهديه القويم وخلقه العظيم شابة فتية بعيدة عن طيش المرحلة، وساندت والدتها الصدّيقة في مسيرتها الدعوية والتربوية والتعليمية؛ فكانت البنت لأمها نعم المعين، وكانت الأم لكريمتها الوحيدة خير قدوة. وبعد رحيل الشيخة صديقة واصلت ابنتها وهي آنذاك المرأة الناضجة، والأم الصالحة، المشاركة اللافتة بالعمل المبارك مع أشقائها الميامين، فهم من ثمار الأبوين، وغراس الجد، ورموز الأسرة والبيت والمجتمع، وتلك أرومة باذخة في سماء الفضل، راسخة في مسرد النبلاء، ومثلها يأبى غير جميل الفعال والأخبار.

لذلك تحفظ سيرة الراحلة أنها أسست محاضن تربوية لتعليم القرآن الكريم للفتيات، وأدارتها ربع قرن، وساهمت في بناء عدد من الدور والجمعيات القرآنية والخيرية. كما أن لها يدًا في افتتاح أقسام وكليات جامعية، والتدريس فيها، وتحبيب الشواب من الطالبات إلى العلم والجدية والبحث والقراءة، وتقريبهن إلى التخلّق بالسمت الشرعي والحياء في عصور تتكاتف شياطين أنسه وجنه على سلخ الرجولة عن الرجل، وخلع الأنوثة من الأنثى، حتى يختفي الجنسان أو يكاد، وتظلم الدنيا باقتصارها على جنس ثالث وآخر رابع، ويأبى الله إلّا إبطال كيدهم، وإفساد سعيهم، وخذلانهم ليصير مكرهم في تباب وهباء وجفاء، بأفذاذ أغيار مثل د.فاطمة وأخواتها من المؤمنات القانتات المعبرات بصدق عن المرأة المسلمة.

ولم تتناءى هذه النسمة الطاهرة بنفسها عن مجالات أخرى جليلة، فلها في التأليف والبحث الأكاديمي باع ومؤلفات ترجمت إلى لغات عالمية، وفي العمل المجتمعي والنسائي حضور ونصيب، وفي المؤتمرات والملتقيات لا تغيب بنفسها ولا بحكمتها وعلمها، إلى أن توجت جلائل أعمالها بوقف يخدم  تعليم القرآن العزيز للفتيات، وهو الكتاب المجيد الذي حفظته، ومارست الدعوة به وله، وتحصلّت على الشهادة العليا فيه، وكتبت الكتب منطلقة منه، وشاركت في بيان أثره وإعجازه، ثمّ صرفت جلّ جهدها كي يكون القرآن أساسيًا في حياة الفتاة المسلمة، وإنه لعاصم من المزالق، وأمان من الانحراف، وسعة عند المضائق، ونور يوم تبعث الخلائق، والله يجعله للراحلة في قبرها مؤنسًا، وعند الحساب شافعًا، وبه إلى عالي الدرجات في الجنان ترتقي، والله يحقق لها أمنيتها الأخروية كما تحققت الدنيوية؛ فدفنت بالبقيع في المدينة النبوية.

ومع أنها فازت بجوائز كثيرة محلية وإقليمية رعاها ملوك ومسؤولون، ونالت عضويات متعددة، وكرمت في إثنينية الوجيه عبدالمقصود خوجه وغيرها، وشهد بفضلها وبركاتها مَنْ عرفها أو عايشها أو سمع بها أو قرأ لها، إلّا أن في تفاصيل محياها، ودقائق خصالها، وتراتيب عملها، ما يستحق أن يُلتفت إليه، حتى لا يقول قائل غير متأنٍ: إن المشهورات هن المؤثرات فقط! وكي يتشارك الجميع في صدق العزاء بها، وفي إدامة الدعاء لها، وفي الإشارة إليها حينما يتحدث المرء مع أبنائه وبناته، ومع من يجب عليه وقايتهم من نار وقودها الناس والحجارة.

ثمّ تبقى كلمة: ففي مجتمعات المسلمين فضليات كثر، ومصلحات ثابتات صابرات محتسبات، وما أحوجنا للتعريف بهن، ونشر سيرهن، فلربما أن الانشغال والتزهد وخوف الرياء يحول دون المسارعة إلى ذلك منهن، بيد أنه واجب على من عمل معهن، وخبر طرائقهن في التربية والتزكية، وفي التوجيه والمعالجة، وفي الصبر والمصابرة والمرابطة، وفي البناء ومواجهة الصعاب، وتلك أمانة في أعناق القادرين من العارفين ولو بالرواية المتآزرة، كي يكون في تلكم التراجم قدوة ومنارة، وحجة وحافزًا، وكي لا يقول متشائم أو مستعجل أو مرجف: هلك الناس! فكيف تكون في العالمين هلكة عامة مع وجود صالحين مصلحين مستغفرين، وإلى ربهم دعاة هداة دائمين غير منقطعين، وهم على بصيرة من ربهم سائرون في نور مبين؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 09 من شهرِ رجب الحرام عام 1444

31 من شهر يناير عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. جزاك الله خيرا
    ورفع قدرك
    عبرت بصدق عن دواخلنا ومحبتنا للغالية الراحلة صديقة عمري وسندي ودعمي المستمر
    الله يرحمها وينور قبرها وبجعله مد بصرها

  2. رحم الله المرأة الصالحة والداعية الناصحة د . ⁧‫فاطمة بنت عمر نصيف‬⁩ أخت د شقيقة معالي الدكتور عبد الله نصيف
    توفيت عن عمر يناهر الـ80 عاماً قضت معظمها في خدمة ⁧‫ القرآن‬⁩
    غفر لها وأسكنها فسيح جناته …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)