سير وأعلام

عبدالمقصود خوجه: سيد مجالس الأدب

Print Friendly, PDF & Email

عبدالمقصود خوجه: سيد مجالس الأدب

صفة الشيخ الوجيه عبدالمقصود بن محمد سعيد خوجه (1356-1444) جليّة بهية؛ فهو رجل ينتمي إلى مكة التي انبثق منها الإسلام ونزل فيها القرآن قبل أربعة عشر قرنًا، وكلنا نعلم أن القرآن الكريم نزل ليُتلى بالقراءة، وأن أول كلمة منه كانت فعل أمر بالقراءة! ثم إنه ممن عمل في قطاع الإعلام والثقافة والدبلوماسية، وفي الديوان الملكي بحكومة بلاده التي استضافت ولا زالت عددًا ضخمًا من الأعمال الثقافية واللغوية والتاريخية والإسلامية المرتبطة بثقافة الأمة وسر وجودها، وهي تولي هذا الأفق الباسق ما يستأهله من مكانة وجهد عبر إنشاء وزارة نشطة خاصة للثقافة تتعاون مع بقية أجهزة الحكومة في هذا الاتجاه.

وفي الجانب الأسري هو حفيد عالم مكي، ونجل لأديب وكاتب تولى رئاسة تحرير صحيفة أم القرى (1350-1355)، واحتضن الناشئة والشداة الذين غدوا رموزًا أدبية وفكرية، وكتب بغرباله الكاشف مقالات جريئة لا تنسى، ومع أنه توفي شابًا إلّا أنه قد ترك أعمالًا وأنجالًا أحيوا سيرته. وعليه فالوجيه المقصود من بيت احتف به الأدب وعالم الكتاب والتأليف ورموزه، وإن الأسر العريقة لذات تأثير كبير متوارث؛ وقلما تنطفئ شمعة طيبة أو تذوي نبتة كريمة، وما أخصب العراقة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها إذا عُني أهلها بمسألة التعاقب، ورعوها حق رعايتها.

ومما يذكر في سيرة الشيخ أنه درس في مدارس الفلاح؛ تلك الفكرة الصالحة من الثري المبارك من أسرة آل زينل الموقرة التي تاجرت في اللؤلؤ بيد أن تجارتها في إصلاح العقول والأرواح عبر التعليم كانت أعظم وأزكى وأبقى، ونجدها ظاهرة في أسماء عدد لا يحصى من الكتّاب والأدباء والشعراء، ومن الوزراء والمسؤولين ورجال الأعمال من أهل المملكة، الذين نهلوا من تلك المدرسة علومًا تضاهي غيرها في كبريات معاهد العلم آنذاك.

ولأن الشيخ تشرب حبّ الثقافة والكتاب منذ صغره، تمنى أن يكون لبلاده حضور ظاهر مشرف هذا المجال المضيء الذي خفتت أنواره في بلاد كثيرة لأسباب عديدة، فحمل على عاتقه وحده عبء ابتداء لقاء ثقافي أسبوعي مساء كل اثنين منذ عام (1403)، مع إدارته بالتنسيق والدعوة إليه، والتقديم للضيف، وحشد الحضور المناسب للمتحدث والموضوع؛ ليصبح صالونه إحدى لبنات الثقافة والعلم والفكر في بلادنا. ولربما أنه عانى في ضمان موافقة بعض الأسماء، وتحمّل ما يكون من نسيان أو إشكال، وما قد يجري فيؤدي إلى غضبة ضيف، أو مدعو، أو مغفول عنه، أو موقف فيه حنق من ضيّق أفق أو نفس، وآمل أنه قد حفظ تجربته الثرية أو قسمًا منها.

ثمّ واصل الشيخ عمله المنطلق من مبدأ تزداد قناعته به مع الأيام، حتى استضاف أزيد من خمسمئة شخصية، مبتدئًا بصديق والده الأديب الكاتب عبدالقدوس الأنصاري صاحب مجلة المنهل ونعم الاختيار والاستهلال، ومن الموافقات أن ينعقد هذا اللقاء في يوم الاثنين الثاني والعشرين من شهر الله المحرم عام (1403). أما آخر من كرم بحضور الشيخ عبدالمقصود فهو الباحث وعالم الآثار أ.د.سليمان الذييب في الخامس والعشرين من شهر جمادى الأولى عام (1436)، وآخر المكرمين قبل توقفها هو د.عبدالله الفيفي في غرة رجب عام (1436) برعاية نجل شيخنا المهندس محمد.

ومن ضمن الشخصيات التي احتفي بها علماء وساسة وكتّاب وأدباء وشعراء ومسؤولون كبار، وفيهم عرب ومسلمون وأجانب، ولقد كانت تلك الديوانية قوة ناعمة ندخل فيها نحن وبلادنا وثقافتنا إلى القلوب والعقول والبلاد بلا مقاومة تذكر عبر ميادين الكلمة والثقافة الرحبة المحببة، ويا له من شأن يجلب ولاء من ولج فيه للبلاد وأهلها، ولذلك فما أجدر الاثنينية بالاستمرار، وأن تُرعى وتحاط، ويشجع غيرها، فالكلمة سبّاقة في إحداث الأثر، لطيفة في المدخل والتغيير، وكما كانت الاثنينية وجهة مقصودة مرغوبة لأي زائر أو ضيف أو باحث؛ فهكذا نتمنى أن تستمر هي في مستقبلها، ويقتفي منهجها غيرها من أخواتها.

ولأن الشيخ صنع ذلك بهمة لا تلين وعزيمة لاتقف، واصطفى مستضافيه البارزين من جلّ البلاد والأصناف والاهتمامات والفروع المعرفية والعلمية والإدارية، وخلا برنامجه من التصنيف أو التمييز أو العنصرية، ففيهم من جاء من الأرجنتين أو روسيا، ومنهم الإفريقي والآسيوي والأوروبي والأمريكي، وتشمل اختصاصاتهم حقولًا متنوعة، ولا تخلو القوائم من موافق أو مخالف؛ فقد جاءت إليه الدعوات والعضويات الخيرية والثقافية تسعى دون طلب منه ولا حاجة به إليها، وبلغت رقمًا يناهز الستين، وليس هذا بغريب على رجل نذر نفسه للكلمة الراقية، ونأى بها عما يشين، ولم يقبل حتى مجرد الاحتفاء به والإشادة بمجهوده وهو حي يسمع ويرى.

كما سعى الشيخ إلى طباعة أعمال الإثنينية وأعمالًا أخرى حتى صارت تلك المجلدات مستودعًا للأدب السعودي وللحراك الثقافي المحلي عبر مئتي مجلد تقريبًا يبعثها مجانًا إلى كل مكان، إضافة إلى مادة مسجلة صوتًا وصورة لوقائع الأمسيات، وربما أنه لا يوجد لبعض ضيوف الاثنينية مادة مسجلة بالصوت والصورة إلّا ماكان في مجلس آل خوجه؛ وتلك يد من وجيهنا على الثقافة والتاريخ، وعلى ورثة أولئك الشخصيات الذين يندر وجود مادة حية لهم بعد رحيلهم.

ونهض الشيخ الثري الأديب لهذا الأمر الثقيل كي لا يصبح تاريخنا مفرغًا من التدوين، أو مليئًا بالتناسي كما أشار صراحة في لقاء معه قبل سنوات. والشيء الذي يُشهد لهذا الرمز الكبير به أنه كان ركنًا في منع حصول هذا الفراغ، وأساسًا في مقاومة ذلكم النسيان، من خلال جهاده الكبير في مجلسه العامر، وحضوره الفخم في ديوانيته المكتنزة بفضائل العلم والفكر والثقافة، ونماذج ناجحة من الإدارة والرئاسة.

ويضاف لحسنات الشيخ عبدالمقصود الكثيرة أنه زاوج بين المال والثقافة، وجمع الأدب مع المال لتكذيب الافتراء على الأدب وحرفته ونسبة الفقر إليها. ومن فضائله أنه احتفى بأناس من أصحاب الأهلية والاستحقاق ممن نسيهم الناس أو لم يلتفتوا إليهم البتة، وكان النقاش في ديوانه حرًا رحبًا مفتوحًا، يزينه الحلم والعلم، ويحوطه الأدب من أطرافه سواء أدب النفس أو أدب الدرس؛ ولذا تسابق إليه العلماء والوجهاء واستجابوا لدعوات التكريم والمشاركة بالحضور، ولاريب فلقد كان فارس مجالس الأدب ممن ينادي بتوسيع مساحة القول الرشيد، وإفساح المدى للرأي السديد، مع وأد الشك، وإزالة التهم المسبقة التي يعانى بعضها من فسادالتعليب، وبعد ذلك يسارع إلى قبول الصواب، وردّ ما سواه دون تثريب حين تصدق النوايا وتخلو من الريب وهي كذلك.

أسأل الله أن يغفر لرجل الدولة والأدب الشيخ عبدالمقصود ويرحمه وهو الذي توفي في يومنا هذا الموافق لأول لقاء عقده في صالونه الفخم قبل واحد وأربعين عامًا، وأبتهل لمولاي أن يجعل مصابه رفعة في الدرجات وزيادة في الحسنات، وأن يكتب لمشروعه النماء وطول العمر وحسن التطوير، ويزيد فينا من أمثال هذا الرجل، وذلكم المشروع، ذلك أن الثقافة بمعناها الفكري والأدبي والعلمي والمرتبط مع الكتاب والقراءة والكتابة من خير ما يكون به التواصل مع قادة الرأي، وجمهورهم العريض، ومع المجتمعات الأخرى، وهو قوة ناعمة تجد طريقها إلى عقول أفذاذ فتجذبهم، وإلى قلوب واسعة فتكسبها، أو تسلل السخيمة من صدور أصحابها على أقل تقدير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

السبت 22 من شهرِ الله المحرم عام 1444

20 من شهر أغسطس عام 2022م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. رحم الله وغفر للشيخ الوجيه عبد المقصود خوجة واسكنه فسيح جناته مع احباءه . ورحم الله اموات المسلمين .لااهله الصبر والسلوان على فقده . وبارك الله له في اولاده واحفاده
    اخت له في الله

  2. اسأل الله الرحمة والمغفرة له، ولسائر موتانا، وموتى المسلمين أجمعين، ورزقنا الله وإياهم جميعًا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة…

  3. سبحان الله كنت ناوي اقول لك هذا الرجل يحتاج لفته من قلمك واقترح عليك الكتابه عنه… كم من تاجر بقي ذكره وكم من تاجر ضاع كل شي مما ملكه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)