سير وأعلام

بدر بن عبدالمحسن: أنشودة الوطن فوق هام السحب!

Print Friendly, PDF & Email

بدر بن عبدالمحسن: أنشودة الوطن فوق هام السحب!

أعلن الديوان الملكي يوم أمس وفاة الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز (4 جمادى الآخرة 1368-25 شوال 1445 = 2 إبريل 1949م-4 مايو 2024م)، بعد معاناة مع المرض في أيامه الأخيرة، وبعد سلسلة من أعمال التكريم التي نالها حيًا تقديرًا لحضوره الشعري بعامة، وفي الشعر الوطني بخاصة. وسوف يصلى على جثمانه اليوم الأحد بعد صلاة العصر، في جامع جده الإمام المؤسس تركي بن عبدالله، صاحب السيف التاريخي والقصيدة الخالدة، رحم الله الجميع، وغفر لهم.

أصبح الأمير بدر أحد الرموز الشعرية المعاصرة لبلاده ومنطقته العربية، وهو على وجه أخصّ أحد شعراء أسرته الملكية العريقة، التي لم تبرع فقط في أبواب السياسة والحكم، وفي ميادين الفروسية والشجاعة، وإنما كان لها نصيب ومشاركة في علوم الشريعة والتاريخ والسياسة الشرعية، وفي اللغة والأدب والشعر، وفي الكتابة والفكر والحوار، وهذه السمة ظاهرة في البيت الملكي السعودي، وحتى يصدقنا الناس فإننا لا نحصرها عليهم ونقصي غيرهم، فقد كانت الثقافة متوافرة ولا زالت في بيوت حكم عديدة عربية وأجنبية؛ بل هي من زينة الحاكم حينما يكون له قسم وحظ من هذه الحقول، وعندما يخفض لها ولأهلها جناح التقدير من التوقير حكمة وتوددًا، لاضعفًا ولا ترددًا.

لأجل ذلك، لا مكان من العلم والتجربة والمنطق، لمن يشكك في مواهب أصحاب الجاه والسلطان والمال والنعيم العريض أو في قدراتهم، فهم بشر مثل غيرهم، في معيشتهم فرح وحزن، ومكاسب وخسائر، ويرد عليهم من النوازع والدوافع مثلما يقع لبقية أولاد أبيهم الشيخ الكبير آدم عليه الصلاة والسلام، ومثل ما يتعرض له نسل أمهم الطاهرة المبجلة حواء عليها السلام. ولا يندفع هذا الرأي بوجود احتمالات أو قصص للشراء والاستئجار والاعتماد على الترغيب والترهيب، بيد أنها محاولات سريعة الانكشاف، وإذا اشتبكت دموع في خدود استبان من بكى ممن تباكى، ومقتضى العدل والنصفة أن يقال بأن الأصل براءة الذمة وحسن الظن، والاستثناء قد يكون.

ثمّ إن أولئك الفئة من الناس أهل البسطة في القوة بالحكم والمال والجاه والنفوذ، يقع عليهم من المسؤوليات الجسام ما يحيل رقيق الحياة وجميلها إلى شيء يصف الكدر والضيق والقلق، ويجب عليهم من التحفظ والتحرز والحذر ما يقلب حياتهم إلى نمط يفقدها التلقائية والدهشة وكم فيهما من متعة ولذة. وفوق ذلك لهم من الآمال ما هو أعرض وأبعد من آمال عامة الناس، وبالمقابل يرد عليهم من المخاوف والأحزان مالا يعبر على خاطر العامي وذهنه، وهو الممتّع براحة البال على كثرة ما يحيط به من منغصات، ومطالب لا تلبى، لكنه في النهاية محصور في إطاره خلافًا لغيره، بيد أننا طبعنا على ملاحظة ما لدى الآخرين، ونسيان ما حبانا الله به، ولو تجول الفرد المغمور في دواخل إنسان مشهور لحمد الله على السكون، ولتأكد من صدق مقولات منسوبة لخلفاء وأمراء، خلاصتها بأن السعادة والراحة بعيدة المنال عنهم، ومن هذا المنطلق تأتي تعبيراتهم عن الحرمان، والحزن، واللوعة، والخوف، والجوع، والقلق، وغير ذلك من مشاعر يظنها بعض مَنْ لم يقلّب أوجه النظر بعيدة عن الطبقات العليا، وليست الطريق هنالك، والله يعينهم.

وعودًا إلى البدر الذي غاب كيانه برحيله، بعد أن خلد بيانه، وبقى شعره، إذ كان يتنفس الشعر، ويحكي بإيقاع في جلّ أحاديثه، ويتبدى في أكثر أعماله الأداء المسرحي دون تكلف، ويصف شعره حب أهل البلد لدينهم، وتاريخهم، ولغتهم، ومجتمعهم، ويؤكد في قصائده ولاء الناس لوطنهم، وتلاحمهم مع بيت الحكم، واعتزازهم بعراقتهم وثوابتهم، وهذا أحد غايات المواهب الشريفة التي تجمع ولا تفرق، وتقرب ولا تبعد، وتحبّب ولا تبغض، وتراعي المبادئ والأسس، ولا تتجاوزها أو تحاول تخطيها اتكاء على أوهام السبق وشبهات الإبداع؛ فلا خير في شيء ينقض الغزل أنكاثًا، ولا تجديد لمن لا يقوى على الإبهار أو لفت الأنظار بغير السيء من القول والفعل، وكم في صراط العزيز الحميد من هدايات ومخارج وسبل، وكم يرتفع المرء المبجل لأركان ثقافته، وركائز حضارته، وعوامل عراقة مجتمعه.

كما حظي الأمير بدر بتربية منزلية محاطة بالكتاب والأدب والشعر، سواء عن طريق والده الأمير الأديب عبدالمحسن، صاحب المكتبة الحافلة، أو بواسطة والدته الأميرة وضحى الرشيد، وهي سليلة أسرة شعر وإمارة معروفة، فورث أبو خالد الشعر عن استحقاق من أصوله، إضافة إلى كثرة الشعراء في الأسرة الملكية السعودية، وفي آل السديري أخوال الأمير عبدالمحسن، فتفاعلت هذه الأمشاج العائلية والأسرية مع مكوناته التعليمية والمنزلية والبيئية والشخصية، وبالتالي فلا عجب أن يطلع بدرنا على سماء الحياة محاطًا بالقوافي وأبيات الشعر، وليس بغريب أن يقتبس من طفولته الركائز الأدبية ثمّ يجدد فيها، مستفيدًا من الفرص التعليمية التي نالها داخل المملكة وخارجها، ومن علاقاته بالشعراء، ومن قراءاته وسماعه.

وقد أتيح للأمير الشاعر أن يشارك في الحركة الأدبية والشعرية المحلية، وأن يغدو أحد ممثليها خارج الحدود، فتسارعت المنصات إلى استضافته وتصديره، ولا ريب إذ جمع الله له الجمال من أطرافه، فأحاديثه حلوة، وشعره مستعذب، وهيئته جذابة، وطبائعه ناعمة، ولغة جسده لافتة، وحوى شعره من المعاني السامية ما يتداول ويشتهر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والكمال عزيز، فمع البدر لا تنحني الجبهة لغير الله، ومع البدر نستوثق من استقلالية البلاد، وعلو شأنها، ورفعة أمرها، ومع البدر نؤمن بالرحيل من مغيب الشمس، ونرضى بقضاء الغياب المحتوم، ومع البدر يودع المسلم الدنيا مع عظيم الرجاء بما عند الله.

أما على الصعيد الشخصي، فقد ارتبط الأمير مع مجتمعه الثقافي والشعبي، وربما أن شفافية نفسه، وقربه من ذوي القرار، قد هيأت له الفرصة للشفاعة وتقريب وجهات النظر، ولذلك جُعلت له محبة شعبية تجلّت في انجذاب الناس صوب شعره، وتفاعلهم مع عارضه الصحي، وتأثرهم البالغ من رحيله عن الدنيا، بعد أن أنجب ذرية طيبة من عدة زوجات فيهن بنات ثلاثة ملوك، وابنة وزير سابق، وبنات قبائل كبيرة، وبعد أن ترك من الشعر دواوين مطبوعة، وملحمات باقية، وأبيات يتناقلها الناس منسوبة لمبتكرها وشاعرها، رحمه الله، وثبته بالقول الثابت.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 26  من شهرِ شوال عام 1445

05 من شهر مايو عام 2024م

Please follow and like us:

5 Comments

  1. ‏السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،

    هلا بالأخ الحبيب الغالي …

    ما شاء الله تبارك الله على هذا المقال الرائع.

    بإذن الله تعالى سيبقى هذا المقال مرجعاً مميزاً في سيرة الأمير الراحل

  2. ألمقال وكاتبه وموضوعه كا البدر في تمامه وكماله ووضوح معالمه لا فض فوك *** وأحسنت أحسن الله إليك *** وغفر لنا ولك ولوالدينا ووالديك ولجميع أموات المسلمين وأسكنهم جنات النعيم *** وجزاك الله خيرا وبارك فيك ونفع بك وبعلمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)