سير وأعلام

الأمير بندر وشيء مما يؤثر

Print Friendly, PDF & Email

الأمير بندر وشيء مما يؤثر

الحمدلله الذي امتن على البلاد السعودية بأسرة حكم عريقة في أعماق التاريخ، وهي عريقة بالسيادة القوية، والملك الرشيد، والتصدر المهيب، فهي ليست بمحدثة نعمة، أو حديثة عهد بزعامة؛ ولذلك تسري العراقة الملكية جبلّة ووراثة وتربية وتعاقبًا بين أفرادها أيًا كانت أسنانهم ومواقعهم، وهذا الباب من العلم روض أنف، وحقل تاريخي خصيب، ولديّ فيه مادة أوليّة آمل أن تكتمل وتستوي، لتنشر تحديثًا بنعمة الله، وشكرًا للرب الجليل سبحانه، ثمّ اعترافًا بفضل ذوي المآثر والمناقب.

لكني اليوم سوف اكتب كلمة مختصرة عن أحد مظاهر هذه العراقة الملكية الباسقة -وهي مظاهر متغازرة غير نادرة-، إذ تتجلّى هذه السمة النبيلة فيما يؤثر ويروى من سيرة الأمير بندر بن عبدالعزيز (1343-1440=1924-2019م)، حتى مع ندرة ما يحفظ عنه لانصرافه عن الظهور والإعلام، بيد أن ما بدا من مسيرته يدل على ما استتر وطوته عن الأعين خصال آثرت الاستخفاء بمكارمها، والاكتفاء بتقييدها في سجل يُنشر بعد طول طوي، وحينذاك يسعد الصالحون بأعمالهم المتقبلة، وحسناتهم المضاعفة.

ولا يحفظ تاريخنا الإداري أو السياسي أيّ منصب للأمير بندر، لكنه يحفظ له أنه لم يكن غائبًا عن مجالس والده الملك عبدالعزيز ولا عن نشاطه السياسي، ثمّ تواصل حضوره البهي مع إخوانه من عهد الملك سعود إلى عصر الملك سلمان، فشارك في استقبالات، ومشاورات، ومواسم فرح، ولحظات حزن. ولم يحل دون حضوره السامق خلو اسمه الكريم من أيّ لواحق دنيوية، ذلك أنه وفي للفكرة التي غرسها الإمام محمد بن سعود، واسترجعها الإمام تركي بن عبدالله، وأعاد لها التوحيد مع التأسيس الجديد والده الملك عبدالعزيز، والوفاء للفكرة، والافتخار بالانتساب لها، والتعاقب على حفظها، من سمات العراقة الأكيدة، دون نظر لمكان الفرد أو مكاسبه الخاصة، ولعمركم فما أعظمها من خصلة!

وقد حرص الأمير بندر على التنشئة الصارمة لذريته، ويتضح هذا ببيان لا يحتاج لبرهان من تتبع سير أنجاله وكريماته، ودراسة تفاعلاتهم وعلاقاتهم مع الناس، وملاحظة مشاركاتهم المدنية والعسكرية والخيرية، التي أسند فيها إلى عدد منهم مناصب مهمة في إمارات المناطق مثل العاصمتين الرياض ومكة، ومناطق عسير والقصيم، والاستشارة في الديوان الملكي، وقيادة القوات الجوية والبرية، ورئاسة الاستخبارات العامة، ووزارة الحرس الوطني، إضافة إلى إسهامات مجتمعية وخيرية منهم، أو ممن اتصل بهم بسبب أو نسب، وهذه الخصيصة مستمرة في أحفاد بندر وأسباطه بظهور لافت، وتلك ذرية بعضها من بعض، وفرع من شجرة عظيمة تواترت على أخذ الكتاب بقوة، وركوب العزيمة الراشدة للخدمة والمشاركة الفاعلة المخلصة.

أما فيما يخصّ ذرية الأمير -بارك الله عليها ولها-، فنجد أن والدهم اجتهد بعد جميل التربية وحسن التعاهد، واختار أن يحمل أولاده أشهر الأسماء المتداولة في الأسرة الملكية، وهي الأسماء التي أطلقها الملك عبدالعزيز على أبنائه الأربعة الأوائل: تركي، وسعود، وفيصل، ومحمد، ومن البنات: نورة، وسارة، مع التسمية على الملك الأب، وهذه سنّة ماضية راقية لدى كثير من الأسر العريقة، وصحيح أن الأمر ليس فيه وجوب أو حتم، لكن الإصرار على تكرار بعض الأسماء فيه اعتزاز، واعتراف بالأكابر، وإحياء للتاريخ وجذوته في النفوس، وكم تأسر العقول والقلوب مثل هذه التصرفات الألقة.

ثمّ عندما شاء الله أن يُحرم شقيقه الأمير فواز من الذرية، علمًا أنه الوحيد من أبناء الملك عبدالعزيز الذي لم يرزق بذرية وعقب لا من الأبناء ولا من البنات، بادر الأمير بندر لإطلاق اسم شقيقه على أحد أواخر أبنائه، تطييبًا لخاطر الشقيق، وإبقاء لاسمه وسيرته، والتسمية بحدّ ذاتها فيها إشارة للبر، وهي أعظم مع خوف انقطاع الأثر بانعدام الولد، ومن المؤكد أن الأمير الصالح لم ينس أخاه من أعمال خير ومبرات أخرى لا نعلمها، لكن الله العليم الحكيم يعلم السر وأخفى.

يقودنا ذلك إلى التعريج على خلتين عُرف بهما الأمير مع أنه لم يبرز فيهما للناس، أولاهما كثرة أعمال الإحسان والمعروف التي يصنعها العاملون معه من أمواله وبأوامره المباشرة دون أن يدري بها أحد، وكم في نجدة المستغيث، ونصرة الملهوف، وإعانة المكروب، من أجور عند الرب الكريم سبحانه، هذا غير بناء المساجد والجوامع، ومساندة مشروعات الخير والنفع، وطباعة الكتب الشرعية. والثانية ارتباطه الوثيق بالحرم المكي، حتى أنه اتخذ دارًا قريبة من المسجد الحرام، ودخل للمسجد مع المصلين كافة، وخرج مثل سائر الناس، وعانى من الزحام، وربما بعض المضايقات من مستعجل أو ضائع، مثلما يحصل لأيّ مصلٍّ في الجوامع الكبرى، وربما لم يعرفه إلّا أقلّ القليل من المصلين والعاكفين والطائفين والركع السجود، لانتفاء وجود الحرس معه أو المرافقين الكثر، وهذا لا يضيره فمن في السماء سميع بصير عليم سبحانه.

ومن القصص التي تدلّ على تحرز الأمير من الحرام، وتحرجه حتى مما عمّت به البلوى، وانتشر لدى جلّ الناس، أنه زار “بون” عاصمة ألمانيا الغربية كما أخبرني الشيخ جميل الحجيلان، وكان حينها هو السفير السعودي في بون (1394-1396=1974-1976م)، ولا يذكر أن أميرًا زاره هناك غير الأمير بندر، وكان غرض الزيارة أنه يبحث عن ملاعق وسكاكين وأشواك لمائدته تخلو من الفضة؛ كي لا يستعمل آنية فيها ذهب أو فضة بسبب التحريم الشرعي، ولكنه لم يجد مع شدة البحث والسؤال، ولم يقبل أبو فيصل بأيّ منتج من هذه الأواني، ولو كانت كمية الفضة التي فيه يسيرة.

هذا هو الأمير بندر، الابن الحادي عشر للملك المؤسس، وهو الرجل الشامخة أصوله ومنابته، الراسخة أخلاقه وجذوره، العبقة تربيته وثماره وآثاره، المشهود له بالتدين والتأله، المتواضع بمظهره وجلوسه على الأرض مع عامة الناس. وهو الأمير الذي يوصي من يحب بالاستمساك بالدين القويم، ورعاية الشريعة الكاملة، وظلّت سجاياه محمودة محبوبة حتى غادر دنيا الناس، وصُلي عليه في المسجد الحرام الذي قضى فيه جلّ عمره، ووري جثمانه في مقابر مكة التي أحبها وخالطت بقاعها شغاف قلبه، والله يغفر له ويتولاه بالعفو والرحمة، وجميع من ورد اسمه أو وصفه من الراحلين والأحياء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 28 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445

12 من شهر ديسمبر عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. ‏سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخوي أحمد عمل رائع وجميل ويستاهل الامير بندر وذريته جزاك الله خير والناس هم شهداء الله في الأرض 🌍 وهم خير خلف لخير سلف

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)