سير وأعلام

عبدالعزيز ملكًا موحدًا وباعثًا لأسئلة التاريخ

Print Friendly, PDF & Email

عبدالعزيز ملكًا موحدًا وباعثًا لأسئلة التاريخ

لا يستطيع باحث منصف أو غير منصف أن يجادل في أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود -رحمهم الله- هو أعظم شخصية في تاريخنا المحلي المعاصر، وأحد أضخم شخصيات التاريخ السعودي منذ ثلاثمئة عام وأزيد، إضافة إلى كونه شخصية تاريخية عربية وإسلامية وعالمية مهمة للغاية؛ ولذلك فلا عجب أن تكثر المواد المكتوبة عن الملك عبدالعزيز وسيرته وسماته، ومع هذا التتابع الظاهر في التدوين فلا يزال الرأي متداولًا بأن هذه الشخصية الكبيرة لم تخدم كما تستأهل، وكما في مسيرتها من فرص للبحث والتأمل والاستقراء والاستنتاج، وإنه لمن الحرج الذي يلحق بنا أن يشار إلى بقاء هذا الدَّين في عنق البلاد وأهلها لمن كتب الله لهم على يديه هذا الإنجاز بما فيه من إعجاز، فصنع التاريخ، وبعث له أسئلة فريدة وجيهة تلو الأسئلة من جنسها البديع، ولو كان مثله عند غيرنا من الأمم لأسمعوا عنه العالم في شرق الأرض ومغربها!

ففي حياة الملك عبدالعزيز ملامح لافتة من الإيمان، والفروسية، والسياسة، والإدارة، والشأن الأسري، وقد تظافرت هذه الخصائص وتآزرت حتى أصبح أبو تركي القائد الذي استرجع ملك الآباء، والزعيم الذي وحد بلادًا واسعة الأرجاء، والملك الذي حرص على أن تسير الأمور بعده بنماء ورخاء، والمؤسس الجديد لكيان يرنو لمستقبل حديث دون أن تحاصره قيود عصره، ومن غير النظر لما مضى بانتقاص أو ازدراء، وإنه لسيد الأسرة العريقة الذي جمع الشمل بعد عناء، وإنها لعراقة متجذرة في الحكم، ومتوارثة لدى الأجيال، بما فيها من أصالة لها عمقها وعبقها وامتدادها، وهي الخلة التي يفتقدها آخرون.

ومن صفات الملك المؤسس البارزة علاقته مع الزمان؛ إذ يعرف متى يتحرك، ومتى يقف، والوقت الأنسب للمهادنة، والساعة التي لا مناص فيها من المواجهة، وإن هذا التقدير الزمني لأحد العلامات الفارقة في مسيرة الأفراد والدول وفي مآلها. ومن خصاله الجليّة العلاقة مع المكان؛ فلكل مكان حال تلائمه حسب طبيعة الأرض، وخصال ساكنيه، وسابق العهد معهم تجاه الدولة وأسرة الحكم، مع التفطن لأحوالهم في المعيشة، وطريقتهم في تنظيم الشؤون، ولذا يتساءل القارئ بإكبار بعد ملاحظة بعدي الزمان والمكان في السيرة الملكية: لم تقدّم الملك هناك أو حينذاك، ولم تأخر؟ ويفتح الجواب الأبواب مشرعة على جوانب من بعد النظر، والحكمة، والتوفيق الرباني، وهي مادة تاريخية ضرورية في حياة الملك المؤسس.

كما يلفت النظر كثيرًا علاقة الملك عبدالعزيز مع الإنسان على اختلاف مواقفهم ومواقعهم، فبعضهم يمكن اصطناعه، أو تحويله من خصم إلى معين. وفيهم من لا يجدي معه سوى المناجزة العاجلة أو الآجلة، ومنهم موضع الثقة أو التهمة، أو قد يوضع تحت مجهر التجربة، ورائد الملك في هذا الباب النظر إلى الصداقة والخصومة والعداوة بأنها ليست ضربة لازب غير قابلة للتغيير أو التحويل؛ فلكل وضع لوازمه، وأن حلو اللفظ وحامضه، وهادئ اللحظ ونافره، ليسا المقياس الوحيد في منح الثقة أو نزعها.

ومن أسنى الإشارات دراسة طريقة الملك المؤسس مع الرجال؛ ذلك أنه نجح في قلب بعض من قاوموه بشراسة إلى أتباع مخلصين، واصطفى عقولًا بصيرة من بلاده، ومن ديار العرب قاطبة، فصاروا حوله جلاسًا له، ومحيطين به، ومرافقين معه؛ فجعل من الأديب نديمًا، وصيّر الكاتب مستشارًا سياسيًا، واستعمل الطبيب في مهام دبلوماسية، واستثمر المثقف في اختياره ممثلًا شخصيًا، وأبقى آخرين على ما هم عليه في المجالات التي يجيدونها في حقول العلم والتعليم والحرب والترجمة، فلم يخرج بهم عنها قيد أنملة، وذلكم التفريق بين التثبيت والتحوير في المهمات يشير إلى فرز وتمحيص ملكي باهر، وهو درس واضح في كيفية إدارة الأفراد على تباينهم.

ولم يغلق الملك ذو الأفق الواسع أبوابه عن الأجانب المختلفين عنه في دين أو لغة أو تقاليد؛ فاحتواهم في مجلسه، وسار بعضهم في ركاب جيشه، وأفاد منهم في مشاورته، وأجاب عن أسئلتهم وحاورهم، لكنه لم يخضع خياراته لهم، ولم يسلّم بقرار من جراء قول أيّ مشير أيًا كان، مالم يستقر الأمر لديه أن ذلكم الرأي هو الرشاد عينه، والصواب الذي لا محيد عنه. وبفتحه الأبواب لهؤلاء وأضرابهم كسب انفتاح العالم عليه، ومعرفتهم به معرفة تستجلب المهابة، وتستوجب التقدير، حتى غدا قولهم “ابن سعود” كلمة لها فخامة تدل على رجل مختلف، وعلمًا على شخصية يتمنى بعض الكبراء أن يراه، أو أن يكتب عنه، أو يغنم ساعة من عمره بجواره.

أيضًا مما يجب الوقوف عنده؛ ذلكم التعاطي المحنك مع الأحداث المحيطة بالملك المؤسس ومشروعه الذهني الكبير، سواء أكانت أحداثًا مجاورة فيمن حوله من زعامات البلدان والقبائل، أم كانت أحداثًا عالمية تخصّ القوى المؤثرة في العالم والمنطقة، أو انها أحداث صادفته في مبتدأ الأمر أو قبيل إكماله. والشيء الأكيد أن الملك الموفق أتقن التعامل معها في أحواله كلها منذ ظهر على الساحة حتى استولى على عاصمة بلاده، ثمّ حين استقر له الأمر شيئا فشيئًا، وصولًا إلى إلقاء عصا التسيار بعد إتمام التوحيد، وما جرى إذ ذاك من انتقال في طبيعة بناء الوطن وشكله، وفي لوازم المرحلة فيما يخصّ علاقاته الإقليمية الدولية.

وفي السياق ذاته؛ فإن اتجاهات الملك عبدالعزيز في تنظيم الإدارة والقضاء والجيش والمالية وشؤون الدبلوماسية والحكم، وإصدار التشريعات والعملة المحلية وتكوين المجالس والإدارات، وابتداء العلاقات على نمط مستحدث، مما يسترعي الانتباه في الكيفية والتوقيت والتدرج، وفيما رافق هذه التراتيب من تحضير، ومفاوضات، وتطوير متلاحق، وإنهاء صارم، واقتباس من خصوم الأمس، وهي المرحلة التي تزامنت مع اكتمال الوحدة على الأرض وتلتها، ليبدأ مشروع التحديث في التأسيس الجديد المتوائم مع المرحلة وطبيعتها.

إن الماضي الذي انتهى لا يتغير، لكن الأسئلة عنه تتجدد خاصة في مسيرة حياة المجددين والفرسان الذين نشأت على عواتقهم حضارات ودول وعلوم، ومن الإجابة عنها بعلم ثابت أو رأي راجح، تنجم سؤالات أخرى تفتح أبوابًا من النظر والبحث العلمي، وقد يكون بعضها سؤالًا مباشرًا لا تعسر الإجابة عنه؛ بينما يكون غيره من الأسئلة مركبة تتعب الدارس والفاحص، فتنتج من الأبحاث أعمقها وأمتعها، وتعين المؤرخ على النفاذ ببصيرة إلى وقائع سابقة، ونقاشها بناء على أفكار مرتبطة بها، ومتأثرة بحالها وزمانها ومكانها، وإن سيرة الملك المؤسس لسيرة خصبة في أكثر من إطار لمن رام التركيز وتكرار النظر.

ومن الأهمية بمكان التيقظ لوجهة نظر الآخرين في الأحداث وما جرى، والإحاطة بتفسيراتهم لها بناء على واقعهم أو المنبثقة من إرثهم الثقافي ونظرتهم لنا، دون تسليم لهم بظنونهم أو تعليلاتهم، وهذه مسؤولية ثقيلة في استيعابها وحسن التفاعل معها؛ كي نجعل من تاريخنا المحلي مادة إثراء ملهمة تغني الخبرات البشرية، وتضيف للتاريخ العالمي نماذجنا الفريدة، انطلاقًا من مروياتنا، وفهمنا، وتحليلنا، الذي سوف يجد آذانًا صاغية وعقولًا متقبلة بما فيه من منهجية وعلمية تقنع وتنفي أو تحيّد على أقل تقدير، بعيدًا عن القول المرسل، أو التعابير الفضفاضة؛ فصنّاع التاريخ الأكابر تزدحم في حيواتهم شواهد ناطقة ببيان وبلاغة على ما حباهم الله به من سؤدد ومفاخر، وما أشد جرم من يحاول إفساد تلك الشواهد الشاهقة بكلام رتيب، أو توجيه ليس له مستند وثيق الصلة به.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 08 من شهرِ ربيع الأول عام 1445

23 من شهر سبتمبر عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. حقيقة…عبدالعزيز هو الشخصية القيادية الأولى في نظري في القرن العشرين…..ولو كان في الغرب لمجدوه…ولكنهم قوم بهت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)