لغة وأدب مواسم ومجتمع

 عودة إلى خبر الأسماء

Print Friendly, PDF & Email

 عودة إلى خبر الأسماء

كنت قبل أيام في اجتماع ليلي، وقد اشتكى بعض الحاضرين من زحمة المكان وندرة المواقف؛ فقلت لهم: إن الحارس الباكستاني بنيامين قد فتح مواقف البرج السفلية لكم لخلوها من سيارات الموظفين والمراجعين؛ فلم يتحسر أحد منهم على فوات هذه الفرصة؛ بل شغلوا باسم الحارس، وكيف يحمل هذا الاسم المحصور على اليهود؟ فقلت لهم: سألته عن سبب التسمية فادعى جهله به، وسألته عن مدى انتشار الاسم لديهم، فذكر أنه نادر جدًا، ثمّ حدثني عن عروبة أصول قبيلته، وهو باب سمعت عنه وقرأت حوله عَرَضًا، ورأيت فيه كتبًا مطبوعة.

أعادتني هذه القصة إلى باب الأسماء، وكنت أظن أني لن أعود إليه بسرعة بعد آخر مرة كتبت فيه؛ مع أن ذلكم المقال أتى بتعليقات لطيفة بعضها سيرد في هذ المقال بإذن الله، لكن قبل ذلك وبما أننا في أيام موسم الحج، وعرجنا على الباكستان، فأذكر مرة أني ذهبت بطفلي لطوارئ المستشفى أول أيام عشر ذي الحجة، فأشرفت على علاجه طبيبة باكستانية مناوبة اسمها نمرة، وقد حملت هذا الاسم لأنها ولدت في يوم عرفة فتاقت نفس أبيها للحج، وأطلق الاسم على كريمته، ومن هذا الموقف تفاءلتُ بتيسير أداء الحج لي، وقد كان والحمدلله.

وبالمناسبةوهذا استطراد لا علاقة له بالأسماءفالطب في الباكستان متقدم نوعًا ما، وكانت ترسل إلى هذه الدولة بعثات عربية ومحلية، وأذكر أني في زمن مضى رأيت طبيبة باكستانية في مستشفى خاص، وهي جميلة جدًا، ومهيبة جدًا، فلا يكاد أحد أن يكلمها راضية كانت أم غاضبة، وأخبرني زميل يعمل معها في القسم نفسه، أنها على قوتها وشخصيتها الطاغية، فقد ظهرت في ممرات المستشفى تمشي بسكينة ومطاوعة مما أثار فضول زملائها واستغرابهم، إلى أن عرفوا من بقية نساء القسم أن زوجها يخطو أمامها!

المهم نرجع إلى موضوع الأسماء؛ فكم من رجل يحمل اسم عرفة أو عرفات، والتسمية مرتبطة على الأغلب بهذا اليوم العظيم من أيام الله التي أكرم بها عباده كل عام سواء منهم الحاج أو المقيم، وكم من فتاة أسماها أهلها منى لأنها ولدت هناك، أو في أيام الحج، وكم من المُنى المرجوة لمن يبيت في مِنى أيام التشريق بعد أن عرف ربه وذرف دمعه في عرفات، ثمّ تقرب لمولاه واستكان إليه في مزدلفة؛ فاللهم تقبل من عبادك أينما كانوا، وهذه التسميات تدل على عراقة الفطرة والإيمان في النفوس، والحمدلله.

واستفهم من امرأة اسمها شهاليل عن معنى اسمها، فأجابت بأنه قطرات ماء الشلال، وغضب شاب اسمه مازن عندما سمع بأن معنى اسمه بيض النمل بينما يصر على أن معناه فقط الغيث، وهو المعنى الذي تشاركه فيه كل مزنة و مزون. وذات مرة سألني سباك عربيربما أحكي عنه مستقبلًاعن معنى اسم عثمان فأخبرته حسب قراءتي أن من معانيه الثعبان وربما الصغير منه، فوقف السباك بقامته الفارعة وقال لي وهو مغضب: تقول عن عثمان بن عفان ذلك! ثمّ أردف: هذا الوصف لا يصدق حتى على فلان من الناس واسمه عثمان! فقلت له: هذا المعنى عند العرب القدماء، ومقام سيدنا ذي النورين أسنى وأجلّ، وأردفت بأني سأخبر عثمان الذي سميته بما جرى على لسانك؛ ولما فعلت ضحك عثمان كثيرًا على ما حدث.

كما أخبرني بعض الأصدقاء عمن رزق بتوأم فأسماهما سهيل و ثريا وهو اجتماع فريد في مكان واحد. وروى لي زميل عن شقيقين درسا معه، اسم الأول منهما شعيب، والثاني اسمه هود، وقرأت أن طلحة بن عبيدالله كان يسمي أولاده على الأنبياء، بينما يطلق الزبير بن العوام أسماء الشهداء على بنيه، ويقول: الشهادة باقية إلى قيام الساعة، والنبوة مختومة بمحمد صلى الله عليه وسلم أو كلمة نحوها. ولي صديق عزيز موهوب اسمه أسامة، وهو أول حامل لهذا الاسم في بلدته وأسرته، ثمّ توالى حملته في عمومته وخؤولته بناء على مقترح أسامة نفسه، أو إعجابًا بمزاياه.

أشير في هذا السياق إلى أن بعض الناس يتفنن في التعامل مع الأسماء سواء بتنسيق قديم أو بتوافق جديد، فمن ذلك أن صديقًا من السودان العزيزآمنه اللهيجمع في اسمه أسماء عدد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولذا يسمونه أبا الأنبياء! وكان الدكتور غازي القصيبي يوقع بعض مقالاته باسم قلمي هو أبو نفيس، ونفيس مركب من أوائل أسماء حروف أنجاله بدون ترتيب العمر وهم: نجاد، وفارس، ويارا، وسهيل. ومما لا يعجبني ما تفعله بعض الفتيات بحذف حرف الهاء من أواخر أسمائهن، واستخدام حرف الألف مكانه؛ فهذا التصرف يفقد الاسم جماله ومعناه، وفيه تبعية أجنبية، فما أحسن نورة و سارة و تالة.

ومن لطائف الأسماء ما أنبأني قارئ عزيز عن أن جارًا لهم زوج ابنتيه لرجلين أحدهما من أسرة الصغيّر والأخر من أسرة الكبيّر، وهما من الأسر النجدية الطيبة، ومثلهما زواج حضرته أو سمعت عنه بين أسرتي العقيل و العقيّل، أو أسرتي القصيّر و الصغيّر، أو أسرتي العسكر و العساكر وهي أسر مباركة معروفة، وهذا التوافق لافت. ومالم أتوهم فلجهاد الخازن مقال أشار فيه إلى أنه حضر زواجًا لعروسين من أسرتي القط و الفأر، وهي أسماء متداولة لدى عدة أسر عربية كريمة.

كذلك من بديع ما علمته عن صديق أن جميع أولاده الذكور والإناث يحملون أسماء تبدأ بحرف الواو، وليس هذا فقط؛ بل إن كثيرًا من المشروعات النافعة التي ابتدأها تبدأ بحرف الواو، وهو عشق عجيب علمًا أن اسم الصديق يبدأ بحرف الواو أيضًا! وإذا قابلت أيها القارئ الحبيب رجلًا من مواليد ما بين عامي (1372-1387= 1953-1967م) واسمه جمال أوخالد أو عبدالحكيم أو اسمًا فيه نضال وثورة ومقاومة؛ فاعلم أنها في الغالب تسمية من آثار سيطرة الحقبة الناصرية التي سادت ثم تلاشت حينما انجلى الغبار وتكشفت بعض الحقائق؛ فذهبت السكرة مع بقاء الأسماء لأنها جميلة، وعريقة، والطارئ هو الذي يزول، وظاهرة التسمية هذه باقية وعامة في الزمن والمكان والاتجاه.

وقد قصّ عليّ رجل أن صديقه واسمه كليب ذهب إلى دولة عربية تجاور بلاده عن طريق البر، وبعض الحدود العربية فيها من الإزعاج والإهانةخاصة في الماضيما لا يمكن فهمه وتفسير وقوعه بين أبناء دين واحد ولغة واحدة. وبعد تأخير إجراءات دخول المسافرين، بدأ جندي الجوازات ينادي عليهم واحدًا واحدًا، حتى بقي معه جواز واحد لم يتقدم إليه أحد؛ لأن الجندي ينادي بلهجته المكشكشة: يا كلب يا كلب! فجاء كليب للجندي وقال له: أين جوازي؟ فقال الجندي: ناديتك ولم تجب! فقال له: اسمي كليب لا كلب! فأجابه الجندي بلهجته التي لا يفهمها كثير من العرب: “يابا رايدين نكبرك!”

ليس هذا هو كلّ ما لدي عن الأسماء؛ فثمت حكايات أخرى سأكتبها لاحقًا؛ فالتطويل في الكتابة ليس بحسن أحيانًا، كما أنها فرصة لاستقبال المزيد من القصص، والله أسأل أن يحسّن لنا الأسماء والأحوال والمصائر، وأن يجعلنا وإياكم من المباركين المقبولين، الذين يقولون الحق ويدلون عليه في جدّهم الخالص، وفي مزاحهم الذي لا يخرج بهم من سعة المعروف والبوح والمباح إلى رهق المنكر وضيق المآثم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 03 من شهرِ ذي الحجة عام 1444

21 من شهر يونيو عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. بمحضّ المصادفة الواتسية الجميلة وقعت على هذه المقالة اللطيفة،لا يفوتني من مدونتك شيء خاصة سلسلة مقالة الأسماء، ممتعه وانتقائية وطرافة الأسماء والمواقف بسردك الشيق كل هذا يجعلنا بشغف لانتظار الجديد والمزيد منها..
    واستحضرت اقتباس محّبب كثيرًا لقلبي يصف مدى عمق الاسماء وتأثيرها فينا..
    ‏”أحب ذلك التناغم في أسمينا، كتناغم
    قصيدةٍ فريَدة مع قافِيتَها، أحب أن أكون جمعك، وتكون دائِمًا مفردي.”

    وما زادني سرورًا ومفاجأة بأني وكاتبها الأنيق والعزيز في ذات الرياض وهذه زيارتي الأولى منذ تلك الذكرى التي عبرتني قبل عدة أشهر، وربما نكون نتشارك القرب النّدي دون أن نعلم!
    لا سحر يضاهي جمال أمسية حالمة في الرياض، ولا جمال يعادل شرف رؤية كاتبنا المتميز-لو سنحت الظروف-في الأيام القادمة بإذن الله..
    و لا حرمنا هذا الإبداع ليستمر..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)