سير وأعلام عرض كتاب

عبدالله العجيري: نديم الملك وأديب نجد

Print Friendly, PDF & Email

عبدالله العجيري: نديم الملك وأديب نجد

أحقًا مايروج بأن جفاف الصحراء أصاب أهلها بشيء من صفاته اليابسة الصلبة؟! وإذا كان ذلك صوابًا فكيف يمكن تفسير تلك الأشعار والمرويات الأدبية البديعة الرقيقة من خطب ومقولات ورسائل وحكم وشعر؟ وإلى أي وادٍ تذهب بنا تأويلات حكايات الحب الحقيقي أو المختلق، العذري منه أو غيره من قصائد الغرام والهيام الصادق أو المفتعل لحاجة في النفس يوضحها أديب ألماني بارز بقوله: إن الحب تعبير مهذب عن رغبة غير مهذبة!

ثمّ ماذا عن مجالس الأنس والسمر التي عرفها العرب في أسواقهم ومنتدياتهم بالجزيرة العربية، وألفوها حتى نقلوها معهم إلى البلدان التي فتحوها، وجعلوها تبعًا لدينهم ولغتهم فتتابعت المؤلفات الأدبية، وفيها مجالس وأمال وأسمار ليال ومصنفات للتأديب والتهذيب مما تفتقت عنه عقلية التأليف الإبداعية لأمة كانت قبل نزول الوحي المقدس ومبعث النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام لا تعرف الكتابة ولا الحساب، وتقوم قائمة علومها على المشافهة فقط؛ وليس في المشافهة من بأس إذ تحمي التراث من الغوائل، وستكون مع التدوين قوة إلى قوة تزيد في التماسك والموثوقية مع الإفادة والإمتاع.

أشير لذلك بعد أن شاركت قبل مدة في مجلس أنيس تذاكر رواده بإكبار سيرة نديم الملك الحسن الثاني ومؤنسه وهو مثقف حافظ بهر زوار مجالس الملك العلمية والأدبية، ومنهم الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري. وقد صدر عن هذا النديم الذي ضاع اسمه مني الآن كتاب يوزع مجانًا كما سمعت في مجلس آخر. فأخذتني الحمية وقلت: يحفظ تاريخنا القريب نديمًا للملك عبدالعزيز من أعاجيب الدهر، وكانت محفوظاته واسعة لدرجة أنها شملت كتاب الأغاني للأصفهاني أو جله، وهو الكتاب ذو الأجزاء العديدة الذي ألفه أبو الفرج بعد عكوف عليه لمدة خمسين عامًا، وقال عنه الأمير الأديب الشجاع المعتمد بن عباد: إنه يغنيني عن جميع المؤلفات التي تحتويها خزانة كتبي.

وقد نسيت هذه الحكاية إلى أن حضرت الجمعة الماضية في مجلس أسبوعي كريم، وفيه راوية ماتع الأحدوثة والسرد وطريقة الأداء، فأتي على ذكر ذلكم النديم الكريم، وسماه، وروى شيئًا من خبره، فأحببت الكتابة عنه زيادة في تخليد ذكراه، ولأجل ذلك شرعت بقراءة كتاب الرحلة الملكية للشيخ يوسف ياسين، والمجلد الرابع من كتاب الأعلام للمؤرخ الأديب الزركلي، ثم نظرت في مقالات جميلة كتبها الأساتذة والدكاترة الفضلاء: عبدالله الحقيل، وعبدالعزيز المضحي، ومحمد الشويعر، وصلاح الزامل، وعبدالله أبا الخيل، وبعضهم عاد لتاريخ الذكير، أو لكتاب أمين الريحاني عن نجد، أو لكتاب المؤرخ الأديب عبدالرحمن الرويشد عن الراوية بعنوان: العجيري: سيرة ذاتية .. ملحمة شعرية، وهو ما لم أتمكن منه لضيق الوقت.

لفت نظري في سيرة هذا الراوية التاريخي أمور عدة، منها الكم الكبير لمحفوظاته؛ حتى أن الشيخ يوسف ياسين ومن نقل عنه لم يكتموا هذا التعجب منه، وأبدى المثقف ذو الأصول السورية ظنه بأن الرجل ينقل عن كتاب واحد، ولكنه أيقن بعد مسيرة تقترب من الشهر معه أنه لا يستمد مروياته من كتاب واحد فقط، وأكد الشيخ يوسف حكمه هذا وهو البصير بكتب العرب وأدبها، وزيادة في تأكيد فتنته بالرجل أخبرنا صاحب كتاب الرحلة الملكية أن محفوظات العجيري جعلتنا نصدق ما وصف به حماد الراوية وغيره من الحفظة الأوائل، وتلك يد لراويتنا على أسلافه وعلى أدبنا العربي.

كما لاحظت ثناء الشيخ ياسين على طريقة الأداء الصوتي عند العجيري، ومما روي عن الشيخ محمد سرور الصبان أن طريقة العجيري في قراءة القرآن وفي إنشاد الشعر قد راقت له كثيرًا وربما استولت على مسامعه الخبيرة بالأصوات حتى قال: هذ التنغيم والتلحين هو طريقة العرب الأوائل في إلقاء الشعر، وما أجدرنا باستحياء الأداء النجدي ونشره عبر الإذاعات والجوامع خاصة الكبرى والشهيرة منها.

ومن خيرية هذا الراوية وكرمه أنه لم يختص بمواهبه الملوك والأمراء وعلية القوم فقط، إذ كان يجلس في ساحة عامة ببلدته الحوطة؛ حتى يسمع منه عامة الناس وفقراؤهم، فهم بشر لهم مشاعر ونفوس تهفو للأنس والبهجة الحلال، وتتحين سماع التلاوة والذكر من أيّ متقن معمور قلبه بفهم ما يقوله مع الإيمان به، هذا غير ما روي عنه من سماحة ونجدة وكرم وبذل للمعروف.

كذلك أصبح من غزارة المحفوظ لدى الأديب الشيخ العجيري أن الحكمة باتت قريبة من عقله، والبيان لا يفارق لسانه، ولذا قال عنه السياسي ورجل الدولة يوسف ياسين: إنه يصل القول بالقول بلحمة من ألفاظه كأنها من نوع ما يرويه لا ترى في كلماته شذوذًا ولا نفورًا، وتظن أن الكلام من مروياته وليس من نسج لحظته، وتلك براعة حرم منها جمهرة ممن يقرأ ولا يستوعب، أو يحفظ ولا يستجيد المحفوظ أو لا يكرر تمريره على ذهنه حتى يكون له به دربة تمكنّه وتسلس له قياد اللفظ والمعنى، ويمتلك مقدرة تسعفه حال الحاجة إليها.

ومع هذا الحفظ الذي يستوعب مكتبة غير صغيرة، وتلك الحافظة الدفاقة التي لا تقف ولا تتلعثم كما وصفها من عاصرها، إلّا أن الرجل لم يتقحم مجالات لا يحسنها؛ فحين سأله الملك عبدالعزيز سؤال الخبير بالنتائج قائلًا: لم لا تقول الشعر مثل صاحبك ابن عثيمين وأنت تحفظ منه الكثير العالي؟ أجابه العجيري على نسق جواب الخليل بن أحمد حين قال: جيد الشعر لا يتأتى لي، وما يأتيني منه لا أرتضيه لنفسي! وأنشد العجيري: (وقد يقرض الشعر العيي لسانه*** وتعيي القوافي المرء وهو لبيب)؛ فاقتنع الملك الكبير الذي كان يرغب بوجود شاعر بليغ محسن ضمن قوته الناعمة التي فيها شعراء وعلماء وغيرهم.

كما يستوجب منا أن نتوقف عند استقطاب الملك عبدالعزيز للعجيري قبيل ضم الحجاز إلى المملكة عام (1343) وهو شيخ في العقد السابع من عمره، والملك يعالج أمورًا تشيب لها الرؤوس، ومع ذلك جعله ضمن الركب الملكي، ومع الحاشية وخاصة الجلاس، وظلّ مع بلاطه ورجاله يستمعون له ليليًا دون أن يكرر أحاديثه السابقة أو يفتح كتابًا، ويجيب عن استفسارات الملك البلدانية والتاريخية والأدبية كأنه يعرف السؤال مسبقًا، وذلكم الاستحضار لا يكون إلّا بجهد مضنٍ في الليل والنهار، ولأجل هذا باحثه الريحاني في معان لغوية فوجده أعلى من مجرد راوية -على فضل الرواية- وإنما هو صاحب بصر وبصيرة بالعربية وأسرارها.

أيضًا من المهم الإشارة إلى فخامة ملكة الحفظ، تلك الملكة التي يزدريها بعض المقلدين لما يشاع دون تفكير عميق، ويجعلونها مقابلة للفهم ونقيضًا له وليست الطريق هنالك! فلا فهم بلا حفظ، ولا غنى لأحد عن الحفظ ومن ينكر فليخبرنا عن اسمه بلا حفظ! والأمثلة أوسع بيد أن المقام ليس لها. وقد بلغ محفوظ العجيري مبلغًا ضخمًا يأتي على رأسه القرآن الكريم والسنة النبوية التي حفظ مسند إمامها أحمد بن حنبل، وغيّب كتبًا أخرى في السيرة والرقائق والأدب والشعر والنوادر.

فجعلته حافظته ومحفوظاته يؤنس سامعيه دون أن يدركهم ملالة، ولا يتسرب لبعضهم أمنية بأن يسكت الرجل، وزاد مع الحفظ جمالًا في صوته، وتفوقًا في نمط الأداء أطرب الآذان ونشط الأذهان، وأمتع العقول، حتى قال يوسف ياسين: لولا ظلمة الليل وقلق راكب الراحلة لاقتطفت مختارات مما يحفظ العجيري وأودعتها للأمة العربية كتابًا سائغًا في الأدب العربي، وأبين في الدلالة على مكانة الرجل وقيمة حافظته وعلو كعبه في التحديث أنّ رسالة عاجلة وردته من الملك عبدالعزيز تقول له باختصار: يد في الكتاب ورجل في الركاب لا تستقيم ولا ساعة!

هذا طرف من خبر الشيخ الأديب عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن سعد العجيري (1278-1352) وفي سنة مولده اختلاف طبيعي بحدود عشر سنوات، ووفاته متفق عليها في بلدته رحمه الله وجميع الأموات المذكورين في هذا المقال. وقد درس العجيري وتعلم على يد والده المنحدر من أسرة علمية في حوطة بني تميم جنوب الرياض ولها انتشار في الجزيرة العربية. عقب ذلك طاف الراوية الأديب في بلدان عدة إن في نجد وحائل أو شرق الجزيرة العربية والشام لطلب العلم وتلقيه مشافهة، وعرفه الحكام حتى استقر به المقام مع الملك عبدالعزيز إلى أن توفي على حال من التعبد والتزهد والقرب من الله، ورثاه عقب موته مجاوره بلدانيًا الشاعر المتنسك محمد بن عبدالله بن سعد بن عثيمين (1270-1363) بقصيدة حزينة مليئة بالحكمة مطلعها قوله: (هو الموت ما منه ملاذ ومهرب***متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب).

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الثلاثاء 21 من شهرِ رجب الحرام عام 1443

22 من شهر فبراير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)