سير وأعلام عرض كتاب

ثلث قرن مع فقه السيرة!

Print Friendly, PDF & Email

ثلث قرن مع فقه السيرة!

إذا كان للعالم مؤلفات كثيرة فلا يُستغرب أن يكون أحدها الأقرب لنفسه، فيلازمه وهو يقرأ أوعندما يباحث غيره، ويستولي على تفكيره واهتمامه، ويغتنم كلّ معلومة مناسبة لخدمة موضوع كتابه، وهذا الوصف يصدق على كتابنا الذي نستعرضه في هذا المقال، ويصدق على مؤلفه الذي قضى مع موضوع الكتاب جمعًا وتدوينًا واشتغالًا ومراجعة ثلث قرن تقريبًا؛ وهذا ليس بكثير على شأن يتصل بسيد ولد آدم عليهما الصلاة والسلام، لما يحويه من متين العلم، وغزير الفائدة، والمزيد من الانشراح بدوام الصلاة والسلام على الجناب الكريم.

عنوان الكتاب الذي أعنيه فيما أسلفته من وصف: فقه السيرة، وهو من تأليف: أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد، أستاذ الفقه المقارن، وعميد المعهد العالي للقضاء سابقًا. وقد صدر الكتاب بطبعة جديدة عن شركة آفاق المعرفة للنشر والتوزيع عام (١٤٤٤=٢٠٢٢م)، ويقع في مجلدين ضخمين، عدد صفحات الأول منهما (٦٩٨) صفحة، بينما يبلغ الثاني (٧٤٣) صفحة، ويتكون الكتاب من مقدمة، وثمانية فصول، ثمّ الفهارس العامة.

سيرى القارئ في بداية الكتاب فقرة موضوعة داخل إطار، يصارحه المؤلف فيها دون تورية بأن هذا الكتاب ليس للمتعة؛ وإنما كي يتقوى القلب على محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ويترقى السلوك بالتأسي به عليه الصلاة والسلام، والثاني ثمرة أكيدة للأول إذ لا معنى للحب ولا مصداقية دونما اقتداء. وطالب المؤلف القارئ بأن يعينه على تحقيق ذلك حتى لا يضيع وقته ويخسر ماله، وهذه الصراحة محمودة ونادرة في مطالع الكتب، ولربما أن القارئ الجاد تزداد حماسته لمضمون كتابٍ هذه مقولة مؤلفه التي يفتتح بها كتابه، وتقع عليها نواظر القراء قبل أيّ شيء، وإذا ختم الموفق الكتاب فسيجد أنه شريك للمؤلف بالأجر إذا دلّ على هذا المصنف، أو عرّف به، أو نقل منه، أو اقترح على مؤلفه، وتلك غنيمة باردة في متناول القدرة.

إن السيرة النبوية الشريفة لجزء من الدين، وتطبيق عملي للوحي؛ ولذا تعاقب على روايتها والتأليف عنها الصحابة والتابعون والعلماء في سالف العصور وقريبها، ولن تجف أقلام الكتبة فيه حتى يرفع العلم. ولأن المؤلف وهب محبة السيرة والقراءة فيها وفي فقهها منذ القدم؛ حتى لاحظ آثارها الحميدة في نفسه وفيمن تلقى عليه دروسها، شرع في تدوين ما يتعلق بفقه السيرة، فاجتمعت لديه أوراق كثيرة خلال عشرة أعوام (١٤١٣١٤٢٤)، ثمّ صارت كتابًا متداولَا بين جمهرة القراء بعد أن طبعت منه بضع عشرة طبعة من دار العاصمة والتدمرية.

ولم يترك الشيخ كتابه كما يصنع بعض المصنفين الذين يجعلون الطبعة الأولى هي آخر العهد بما كتبوه، وهذا دليل على الشغف والحب الحقيقي؛ وعليه ظلّ الكتاب وموضوعه حاضرين في ذهنه، ومحاطين باهتمامه، حتى في زياراته الاجتماعية، ولقاءاته المنزلية، هذا غير أحوال القراءة والمذاكرة والبحث والتأمل التي لا ينفك منها بارك الله له ومنه وعليه وفيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فاجتمع لديه مرة ثانية من الفرائد والفوائد أضعاف السابق، حتى أذن الله لهذه الطبعة الجديدة بالصدور بعد عشرين عامًا من الحشد الدهني والعلمي لها (١٤٢٤١٤٤٤)، وبعد خمس مراجعات متواليات بين الرياض ومكة، علمًا أن الطبعة الأولى قد حظيت بمراجعات علماء كرر شكرهم في هذه الطبعة وإن لم يطلعوا عليها مسبقًا، وقد عاد في هذه النشرة الجديدة إلى مراجع ومصادر لم يثبتها في الفهارس الختامية تلافيًا لزيادة عدد الصفحات، واكتفاء بذكرها في حواشي مواضعها من الكتاب، وعددها يزيد عن المراجع والمصادر السابقة التي بلغت مئتين وأربعين مادة، وإن هذا العدد الكبير لينبئك عن مقدار الجهد، وصادق العناية.

أما مزايا هذا الكتاب فمنها أنه كتاب عن فقه السيرة وليس سيرة فقط لكثرة ما كتب فيها، ويعتمد مؤلفه على ما ورد في القرآن الكريم، أو صح في السنة النبوية، ثمّ ما جاء في كتب السيرة. ووقف فيها جميعًا عند حدود فهم السلف الصالح الثابت عنهم، وسلك منهج الاستقراء حسب التسلسل التاريخي، مع عزو الفوائد لأصحابها، والتوسع في تفسير الوصف القرآني للنبي بأنه رحمة للعالمين؛ لما ينطوي على ذلك من ظلال ظاهرة في السيرة الزكية وفقهها العظيم.

ابتدأ الكتاب بالمقدمة وما حوته عن أهمية السيرة، واختيار الجزيرة العربية منطلقًا للرسالة المختومة بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، ثمّ توالت الفصول ذات التقسيم المرتبط بالقرآن الكريم؛ فكلّ فصل يبدأ من عند آية كريمة، وينتهي عند آية أخرى، وهي متسلسلة مع مجريات السيرة؛ ولذا فالفصل الأول تمهيد يسبق البعثة، وبدأ من أول سورة الفيل إلى أول سورة العلق، وهذا ترتيب زمني له دلالته. ومع أن التعاقب الزمني هو الأصل في الكتاب إلّا أن للموضوع سلطته؛ ولذلك وضع المؤلف مبحثًا كاملًا عن أزواج النبي بجوار الحديث عن زواجه بخديجة رضوان الله عليهن جميعًا، وفي هذا الفصل أخبار عن بناء الكعبة، وصور من حفظ الله لنبيه قبل بعثته.

ثمّ يأتي الفصل الثاني عن البعثة وما صاحبها من وحي نزل به جبريل الأمين عليه السلام، مع تكليف برسالة الدين الجديد، واختفاء اقتضته الضرورة. ويليه الفصل الثالث وسمته الأظهر الصدع بالدعوة، وفيه وقفة كاشفة لشخصية أبي جهل الذي كان قائد العداء للنبي والإسلام في مكة، مع أن في قريش من الأشياخ والحكماء من هو أسنّ منه. وإن التعرف إلى شخصيته ودوافعها وسماتها لمن الأهمية بمكان؛ فطبائع المجتمعات والناس متشابهة، وعداوة الرجل مركزية في الحقبة المكية كاملة إلى أن هلك يوم بدر.

ولأن أبا جهل هو خصم الدعوة الأكبر، وزعيم من ناصب العداء للجناب الكريم عليه الصلاة والسلام، وهو إمام المفسدين والمناكفين من بعده؛ فقد ناسب الحديث عن نصير الرسول والدين، والصاحب الأول، والمؤمن الأول من الرجال، الصديق الأكبر أبي بكر الصديق، وفي استعراض سيرته المحببة لفتات تزيد من توقيره وتوجب الدفاع عنه تدينًا وتعبدًا. ويواصل هذا الفصل الحديث عن الهجرة للحبشة، وإسلام حمزة عم الرسول، ومقاطعة بني هاشم ثلاث سنوات، وخروج النبي إلى الطائف المجاورة لمكة داعيًا.

ويختم الشيخ أ.د.الزيد الجزء الأول من كتابه الأثير لنفسه بالفصل الرابع الذي يبدأ من آية الإسراء، ومن الطبيعي أن يكون لقصة الإسراء والمعراج نصيب من الاستمداد والنظر، إضافة إلى ماكان من أمر النبي مع بيعتي العقبة في موسم الحج، والإذن للصحابة بالهجرة إلى المدينة؛ ولهذا كانت الآية التي انتهى إليها هذا الفصل هي قول الله تعالى: “إذ أخرجه الذين كفروا…” الآية.

بناء على ما مضى يبدأ الجزء الثاني بالفصل الخامس، وفيه فقه السيرة بالهجرة النبوية، وأول أعمال الرسول بعد وصوله إلى المدينة، ثمّ فقه السيرة في بعض الأحكام التشريعية، وهذا من التفات الكتاب الجميل نحو ربط التشريع والسيرة معًا. ويختص الفصل السادس بفقه خمس غزوات من بدر حتى غزوة بني قريظة، ومن الطبيعي أن يستدعي ذكر الكافرين واليهود التعريج على إخوانهم وأعوانهم من المنافقين الذين نجموا بعد يوم الفرقان والنصر المبين في بدر، وليت أن المؤلف عرج على شخصية عبدالله بن أبي سلول كما صنع بأبي جهل.

فإذا وصلنا إلى سابع الفصول نشعر بالحركة القوية المستمرة لما يشتمل عليه من موضوعات بداية من صلح الحديبية وما فيها من فقه وتربية وسياسة، إلى فقه السيرة في رسائل النبي وغزواته القريبة من المدينة والبعيدة عنها، مع اختصاص عمرة القضاء بالبحث عن عبرها وفوائدها. ويختم المؤلف كتابه بالثامن من الفصول وفيه جاء الحق وزهق الباطل بفتح مكة وما تلاه في غزوات حنين وتبوك، إلى أن يحج النبي بالمسلمين في حجة الوداع، وهي حجة فيها الفقه بجميع أنواعه، وأخيرًا يكون ما ليس منه لبشر بدٌّ حين تنزل الفاجعة العظمى بوفاة الرسول وصلى الله عليه وسلم، وهي فاجعة باقية الأثر وفيها عظات وعبر، وحزازاتها في النفس باقية حتى لمن لم يشهدها.

إن السيرة النبوية نصّ خالد محمود، ومن آثار فقهها زيادة الإيمان بهذا الدين فوق الأنس بها وحصول الألفة مع المسلمين والمؤمنين. وحري بعباد الله أن يجعلوا من قراءتهم الخاصة أو المنزلية مع الأسرة حصةً لمثل هذا الكتاب يتدارسونه، ويقتبسون شيئًا من فقه سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فهو النبي الخاتم، والرسول الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، وهو الأسوة الوحيدة التي لا يدركها مأخذ على قول أو فعل أو تقرير مرتبط بتبليغ الرسالة والديانة، وما أسعد المرء المسلم وهو يقرأ شيئًا عن أحبّ الناس إليه، وأحقهم بالولاية والنصرة والاتباع؛ عسى أن نشرب من يده الشريفة، وحوضه الكريم، في يوم آتٍ ولا مناص.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 08 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

04 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)