إدارة وتربية عرض كتاب لغة وأدب

تلاد الإعجاز

Print Friendly, PDF & Email

تلاد الإعجاز

هذا جزء من عنوان كتاب امتلأ نورًا، وفاضت منه الحكمة، وأما عنوانه الكامل فهو: تلاد الإعجاز: قراءة تحليلية لأوجه الإعجاز القرآني في ضوء آثار السلف الصالح، تأليف: د.عبداللطيف بن عبدالله التويجري، صدرت طبعته الأولى عن آفاق المعرفة عام (1444=2022م)، ويقع في (128) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من إهداء ومطلع، فأوجه ثلاثة للإعجاز، ثمّ خلاصات ونتائج، فجريدة الموارد التي استقى منها المؤلف وعددها ستة وستون موردًا عذبًا من مثلها يكون الرِّي والشبع.

من مزايا هذا الكتاب اختصار حجمه، ووضوح عباراته، وابتعاده عن المشكل وما لا يثبت أو يكون مدعاة للخلاف، وعودته لآثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين والعلماء. ومن فوائده زيادة الإيمان، وتعظيم قدر الدِّين في النفوس، والارتباط بالقرآن ومعه، وتحبيب النظر في كتب السلف، والقرب من اللغة العربية وفنونها؛ فبدونها لا يمكن فهم الوحي ولا إدراك مواطن الإعجاز فيه.

ومن أجلّ ثمار الكتاب تثبيت القلوب والعقول من فتن تهوي بالأفئدة والناشئة والمقلدة إلى قعر سحيق من الشك المَرَضي، والإلحاد المنبعث من علل نفسية أو عقلية، وغيرها من البلايا التي تُساق سوقًا بغير ما وسيلة وإفك مفترى؛ كي تصبح أساسية في بيئة أهل الإسلام، وإنها لقول زائغ، ورأي آفن، وحجة داحضة، وشبهة مردودة، ومنهج مثبور، ومآلها سيغدو مثل الهباء المنثور، أو الزبد الجفاء، فالله متم نوره ولو كره كل كافر ومنافق من الجن والإنس.

ذكر د.عبداللطيف في المطلع أن علم الإعجاز القرآني علم واسع كثرت فيه التواليف، ومن مقاصد هذا العلم إيقاف الدارس على عظمة القرآن ودلائل صدقه. وأضاف أن الحاجة إلى علم الإعجاز متجددة خاصة مع ظهور موجات من الإلحاد والشبهات، فلا مناص من إمداد الأجيال بما يعصمها، ولا عاصم أعظم من القرآن الكريم والالتصاق بآياته وعلومه ومعانيه.

وقد اختصر د.التويجري في هذا المطلع عددًا من المسائل العلمية حول الإعجاز، وجدير بالقارئ أن يتأملها ويستوعبها؛ فهي خلاصة جاءت في فقرات موضوعية فيها روايات وأقوال، وبيان جلّي عن المراد رفعًا لأي لبس، وقطعًا لأيّ احتمال ينقصه الصواب. وأبان الشيخ المؤلف اقتصاره في بحثه هذا على أهم وجوه الإعجاز التي تكلم عنها علماء بارزون كالخطابي والرماني والباقلاني والجرجاني وابن تيمية رحمة الله ورضوانه على الجميع.

ثمّ بدأ المؤلف بالحديث عن الإعجاز في ثلاثة أوجه، أولها هو الإعجاز البياني لأنه الأكثر تناولًا من العلماء، وهو موضع التحدي الذي جاء به القرآن العزيز كما في قوله تعالى: ” فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين” ]الطور:34[. والإعجاز البياني على نوعين أحدهما من جهة اللفظ، والثاني من جهة البلاغة. ويمكن تقسيم جهة اللفظ إلى ثلاثة أقسام الأول فيها من حيث المبنى، وفيه مبتكرات القرآن التي تقع في هامة إعجازه اللغوي مثل كلمات “صبغة، الجاهلية”، ومن حيث المعنى إذ تنهال على الكلمة الواحد معان كثيرة ومثّل لها بكلمات منها “تتلو، أمة”، وآخر قسم من حيث الموضع فلو أُبدل مكان لفظ لسقط المعنى أو ضعف، وسرد المؤلف أمثلة بديعة منها كلمة “عن” في قوله تعالى: “الذين هم عن صلاتهم ساهون” (الماعون:05).

ونقل د.عبداللطيف التويجري عددًا من الأمثلة على الإعجاز البلاغي الذي بهر أعرف الناس باللغة وبيانها وهم العرب وقريش على وجه الخصوص، ومما رواه القصة الشهيرة للوليد بن المغيرة حتى لو لم يوفق للإسلام كما حدث مع عمر بن الخطاب، وجبير بن مطعم، وصعصعة بن معاوية. وإن هذه البلاغة التي ملكت قلب رجل ملهم وعقله مثل عمر الفاروق، وخضع لها الفصحاء وأصحاب الذائقة السليمة؛ لبلاغة وصلت إلى المنتهى فلا تدانى.

أما الإعجاز الثاني فهو الإعجاز الغيبي، وفيه شيء من غيب الماضي الذي جرى قبل زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وغيب الحاضر إبان حياته، وغيب المستقبل وهو على أنواع؛ فمنه الذي حدث في حياة الرسول بعد أن أخبر القرآن عنه، أو وقع بعد وفاته، أو أنه سيكون في قادم الزمن ولا محالة. ولا يسع المؤمن وهو يقرأ هذا الإعجاز إلّا أن يسجد قلبه، وتخشع جوارحه، ويعلن التسليم التام لربه وشرعه، قبل أن يسجد لله جسده، وتلك لعمركم العزة التي بدونها تدركنا الذلة والهوان.

وآخر إعجاز أوضحه الكاتب هو الإعجاز التشريعي، وهو وجه مهم لكل مؤمن، ولدارسي الشريعة والقانون بصفة أخص؛ لأن القرآن الحكيم كما قال الإمام الشاطبي هو كتاب هداية وتشريع، وهو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر. ومع أهمية هذا الإعجاز فالحديث عنه قليل في كتب العلماء، وقد وفق المؤلف للوقوف المختصر مع أصناف هذا الإعجاز التشريعي العقدي، والفقهي، والتهذيبي، ولسوف تحلّق روح القارئ مع آية واحدة تأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وينبهر مع آيات اخرى لها دلالات حقوقية واقتصادية وأمنية واجتماعية.

الخلاصة هي أن للقرآن قوة وتأثيرًا ومكانة، وصنيعه بالقلوب وتأثيره على النفوس مشاهد لا ينكر، ورسوخ هذه الحقيقة الإيمانية من أعلى مراتب العمل بالقرآن والمعين عليه، ويكفي كتاب ربنا أن فيه من القوة ما تغلب كل مغالب؛ ولا غرو فهو كلام الله القوي العليم، ومن أحسن من الله قيلًا؟ ومن أصدق من الله حديثًا؟ وقمين بالمسلم أن يصرف شيئًا من وقته لتلاوة القرآن بمعناه الواسع في هذا الكتاب، وهو معنى بديع لعل القارئ أن يبحث عنه، وقمين به أن يقرأ الكتب التي تعينه على فهم كتاب خالقه ومنها هذا الكتاب.

وجزى الله المؤلف د.عبداللطيف التويجري خيرًا حين أخذنا معه في جولة للأرواح والقلوب مع كتاب مولانا العزيز، وحجة نبينا الكريم وآية صدق نبوته، والله يشكر مسعاه فيما كتب سابقًا وفيما سيصنف لاحقًا، والشكر يتواصل إلى آفاق المعرفة التي تسامت في الانتقاء، وأحسنت في الاصطفاء، وأبدعت في الإخراج، حتى سلمت قوائمها من أيّ مأخذ، فازدانت عناوين الكتب الصادرة عنها بالعلم والإيمان، والسيرة والتاريخ، والأدب والحكمة، والوعي والبصيرة، وبمثلها يستوصى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 08 من شهرِ ربيع الأول عام 1444

04 من شهر أكتوبر عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)