سير وأعلام

الملحق المنقور: العَلَم المتفق عليه!

Print Friendly, PDF & Email

الملحق المنقور: العَلَم المتفق عليه!

طويت يوم أمس الخميس آخر صفحة من حياة رجل الدولة الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن عبدالكريم المنقور (1348-1443) بوفاته ثم الصلاة عليه عصر اليوم الجمعة في جامع الجوهرة البابطين شمال الرياض. ومع فشو الخبر حتى غروب شمس هذا اليوم طفق الناس يتذاكرون خبر ملحق مثله لا يُلحق، فقد انتصب الرجل قائمًا كالشاهد الشامخ الذي يراه الناس وإن بعدوا، أو يتسامعون به ولو كان ببعضهم صمم، ولا يملون من تكرار أخباره، وفوق ذلك لا تجد فيمن يتحدث عنه جارحًا أو لامزًا؛ ومن ذا يسلم من ألسنة البشر!

امتاز راحلنا الكبير رحمه الله بأنه خدم بلاده دون أن يتباهى بذلك أو يتسلق على المعاني الشريفة ليأكل كتفًا أو يقصي منافسًا أو يسيء إلى غريم جريح أو يترنح، ثم إنه سعى ما وسعه الجهد في خدمة جميع الطلاب المبتعثين خلال سنوات عمله ملحقًا تعليميًا في أمريكا التي تقل عن العشرين عامًا بقليل (1381-1397=1961-1977م)، ولم يقصر خدمته على أحد لمكانة أو انتساب أو فكر أو مذهب أو توصية؛ بل كان المنقور ناصحًا أمينًا معينًا لأنجال الملك خالد، ولعدد من الأمراء، وصنع الشيء ذاته مع أبناء عامة الناس، وفيهم جمع لا يعرف عنهم إلّا الاسم فقط؛ فاللهم كثّر فينا هذه السمة المنقورية.

وفي منهجه ذاك كان لا يرجو جزاءً أو شكورًا، فلم يصنع مادة إعلامية من جهوده، ولم يثقل على المسؤولين بتقاريره أو برقياته، وسارع يحث الخطى لنجدة ابن عجوز منقطعة، ومساعدة ولد فقير كسير، ومن يرجو من الضعفة أمثالهم منفعة، وإنما كان الرجاء كل الرجاء فيما عند الله، ثمّ بناء على ما تختزنه نفسه الخيّرة الطيبة من مروءات ومكارم جبليّة؛ ولذلك فسوف يعجب القارئ حين يعلم عن قصص ابن منقور مع الطلاب وأهاليهم وجامعات أمريكا ومؤسساتها.

تلك القصص التي غيّرت مجرى حياة فئام منهم، ونقلت بعضهم من فشل أكيد إلى نجاح يشبه المستحيل، وكان تداخله مع الطلبة مباشرًا بنفسه على طول أمريكا وعرضها بلا تعب ولا انكفاء ولا منّة. تلك القصص التي أشعرت الطلبة وهم شباب أغرار بلمسة فطرية فيها الحنان الصادق، والنصح المحض، والقرب بلا رقابة، والرقابة بلا نكد. تلك القصص التي سبق لي ولغيري استعراض عدد منها، ولعلّ سيرة المنقور المنتظرة، أو المقالات التي كتبت عنه، والكلمات التي ألقيت في الحفل التكريمي الذي أقيم له قبل سنوات أن تجمع في مؤلف يظلّ شاهدًا على سمو إنسان عاش فينا ومعنا وبيننا.

وحين رحل المنقور، وددت لو تشارك المستفيدون منه خلال بعثتهم على وجه الخصوص، وعددهم يصل إلى خمسة وعشرين ألف طالب وطالبة، فيبادروا إلى إنشاء وقف ناجز يذهب أجره لملحقنا وهو في برزخه، وتدون حسناته في صحيفته يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا، ويكون مصرفه الأعظم على التعليم مفتاح شخصية المنقور. وودت لو أن أولئك الخريجين تنادوا إلى تأليف كتاب علمي نافع من واقع تخصصاتهم المتنوعه يُهدى للراحل، ويثري المحتوى العربي، ويزيد من رصيد بلادنا العلمي، ولو كان كتابًا دوريًا فليس بعسير عليهم، ولا بمستكثر على المنقور وبلاده وأمته.

كما أني أتمنى على أيّ مؤسسة حكومية مؤهلة أن تسارع إلى عقد منتدى شهري عن قرب وعن بعد، يتجول في مناطق المملكة، اسمه منتدى التجربة، يتحدث فيه أولئك الكبار والخبراء عن تجاربهم ورؤاهم وحكاياتهم، بما ينفع الأجيال، وينير الدروب، ويخدمنا في واقعنا العملي والعلمي والتاريخي؛ كي لا يأتي يوم نتحسر فيه على فوات إنسان، أو موت ذي كنوز ومعارف ومشاركات، فيقول القائل ويسأل السائل، فلا مجيب ولا مخبر ولا حتى صدى!

إن هذا الرجل الأمين النزيه، الذي لم يحتجز لنفسه شيئًا من زينة الحياة الدنيا مع أن الأموال الخاصة بالطلبة تودع في حسابه الشخصي ثمّ يصرفها للطلاب حتى أسموا رواتبهم “شيك المنقور” لجدير بأن تبقى مآثره ولا ينطمس اسمه، وكما كان وفيًا مع الناس فما أحوجنا للوفاء معه؛ وليست المسألة محصورة في شارع يسمى أو برنامج يذاع مع أثرهما؛ وإنما الشأن المرتجى في عمل يمنح الأمل ببقاء التقدير لمن يستحق التقدير، وإدامة التبجيل لأفذاذ تواروا عن المشهد مع أن آثارهم راسخة في أعماق المشهد، ومع أنهم لو زاحموا لما وجدوا من يداني فضلهم، أو يسد المكان الذي سدوا.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الجمعة 24 من شهرِ رجب الحرام عام 1443

25 من شهر فبراير عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)