علي النملة ودروس من النخلة!

علي النملة ودروس من النخلة!

كنت أحدث أبنائي عن شيء من محاسن معالي الدكتور علي بن إبراهيم النملة، فسألني عبدالمحسن: ما علاقته بالدكتور يوسف الأستاذ في الجامعة؟ فقلت: د.يوسف هو الشقيق الأصغر لمعاليه ومن أكثر أشقائه شبهًا به خلقًا وخُلُقًا وفي جميعهم فضائل مشهودة. فأردف الابن: إن أصدقائي يتقاتلون على الدراسة عنده في الجامعة! فسألته: لماذا يفعلون؟ فأجاب: يقولون: علمه غزيز متجدد، تدريسه جميل واضح، تعامله راق رفيع، ولا يُظلم عنده أحد.

فاستثمرت هذه الشهادة المبهجة مكملًا حديثي لهم، ومما ذكرته أن المرأة الصالحة حصة بنت عبدالله اللحيدان ربما لم تكن تعلم أن المخاض الذي أجاءها إلى نخلة في بيت والدها سيتبعه ميلاد طفل نجيب يشبه النخلة في كثير من شأنها ولا أزكيه على الله، وسيكون هذا الوليد –مع إخوانه وأخواته– لها ولزوجها–رحمهما الله– من خير الآثار الباقية بفضل من الله وكرم. وهذه المشابهة التي أدركت عليًا في حوض النخلة مما يسترعي الانتباه، ويستدعي توضيحه للقارئ كي لا تذهب به الظنون نحو اعتقاد المبالغة، أو كيل القول بلا حساب، وسيوقن أنه كان حقًا عليًا!

فصاحبنا طويل باسق كما النخلة تمامًا، وهو في الجموع كثيرها وقليلها واضح لا يتوارى وإن حرص، ولا يخفى شيء من شأنه حتى لو اجتهد في الازورار، وهل رأيتم فيما مضى نخلة عالية تختفي عن الأنظار، أو تخطف الحشائش وغيرها من المزروعات الأنظار دونها؟! ومثلما تتسم النخلة كثيرًا بالاعتدال والاستقامة أصبح شيخنا كذلك في هيئته، ونقاشه، وطريقة إدارته لحياته وعمله، وفي جديته ومزاحه، وصاحبه التوفيق في بيته وعمله والحمدلله.

لذلك لا يكاد شيء منه أن يُعاف مثل رفيقة ميلاده النخلة المباركة، ومصداق رأيي أن السامع لمحاضراته سيجد العلم والفائدة الفكرية والشرعية واللغوية والتاريخية، وسوف يستفيد من طريقته في العرض وأسلوب الانتقال والاقناع ولحظة التوقف، ومن المقطوع به أنه سيبتسم غير مرة على اللغة اليونانية أو ألفاظ قريش أو غيرها من التقاطات الرجل الذي جعل من لقب أسرته الكريمة العريقة مدخلًا وحجة للتهرب من أن يثني عليه أحد فيقول: وهل أنا إلّا نملة! ويأبى أن يقبّل الآخرون رأسه محتجًا بقوله: وهل يقبّل إنسان رأس نملة!

كما أن النخلة تهب لأهلها أطيب الثمر وأصحه وأعظمه نفعًا، ولا تبخل على من تعاهدها بالسقيا والرعاية، وهكذا كان د.النملة الذي سار معه نفع المجتمع المحيط به في مهامه العملية التي حطّت بها رحاله معيدًا وموظفًا في الملحقية وأكاديميًا ثمّ عضوًا في مجلس الشورى فوزيرًا إلى أن عاد إلى كرسي التعليم والبحث وهو أعز مكان عليه؛ إذ أنه بعد أن تخفّف من عبء الوظيفة الحكومية تمنى على ناقل خبر نهاية منصبه الوزاري أن يُتاح له تمضية وقته في مكتبته التي صارت معتكفه كما سمعت من غير راوٍ، ولا أستبعد صحة هذا المنقول فله شواهده من حضور الرجل، وإنتاجه، وسعادته أدامها الله، بينما يصاب بعض المسؤولين السابقين بالاكتئاب والوحدة المقيتة عقب ترك المنصب.

ليس هذا فقط؛ بل إن الرجل العالم ألّف من الكتب ما يتجاوز نصف المئة، وكتب من الأبحاث ما يناهز المئة، ونشر من المقالات ما لا أعلم عدده، وألقى محاضرات علمية وعملية ماتعة، وكان مجاله الأكثر رحابة في دراسات الاستشراق بعد تجربة معايشة وملازمة مع العلامة أ.د.فؤاد سزكين (1342–1439) التي ألقى عنها محاضرة تفيض بالوفاء، وفيها علم وفهم ووعي. ولذا خبر عالمنا الاستشراق ودوافعه والمآخذ عليه؛ إلّا أنه أنصف القوم وعرف لذوي الفضل منهم فضلهم وسابقتهم، وإن لم ينخدع بجملة إفكهم. وقد أضاف مؤلفنا العميق للمكتبة السعودية والعربية والإسلامية ما يسرنا انتساب كاتبها لبلادنا وحضارتنا.

أما المنهج العملي لرجل الدولة الدكتور علي النملة فيمكن تلخيصه بأنه مع روح النظام ومغازيه وليس مع نصوصه المقولبة؛ فغاية الأنظمة تحقيق المصلحة، ولأجل هذا يدخل الطالب المتأخر إلى الامتحان حتى قبل أن يدلي بعذر حقيقي أو مصنوع، وينصرف الموظف الذي يحقق أهداف أمانته الوظيفية حتى لو بقي الوزير إلى ما بعد الساعات والأيام الرسمية؛ لأنه قرر دومًا الانحياز للضعيف والفقير والكسير، وليس بغريب بعد هذا أن يُروى عنه بأنه أول وزير يزور الأيتام في مساكنهم، ويقود حفلات زواجهم كأنه أب للجميع، ويولي الضمان الاجتماعي أهمية فائقة حتى سعى بحنكة لتطويره من ضمان خالص إلى رعوية منظمة كي يرتقي بها إلى شيء يعين على الاكتفاء والانتقال من مربع الأخذ الضنك إلى دائرة الاستغناء الفسيحة.

ثمّ إن الوزير أدار مؤسسة حكومية ضخمة لها واجباتها الثقيلة في الداخل، وتسلّط عليها المجاهر الدولية المقعرة والمحدبة من كل مكان بترصد غير منصف أحيانًا، ففيها عمل وعمال، ونساء وأطفال، وعمل خيري داخلي وخارجي، وحقوق إنسان وشؤون ضعفة، ومع ذلك شهد له زملاؤه في الوزارة بأنه من أقوى الوزراء وأعظمهم نجاحًا في كسب المنظمات الدولية إلى صف بلاده، وإيقافها على وجهة نظر رسمية مقبولة لديهم، وأفهم من ذلك أنه أقنع هذه المنظمات المتصلبة بصواب منهجنا، وعذرنا في بعض القصور، واستطاع أحيانًا لجم غلوائها، وكبح محاولاتها للتدخل ودس أنفها الآثم في شؤوننا.

وللعالم الوزير حكم جميلة في الحياة والعمل والأسرة تعكس لنا شخصية النملة المتأثرة بالنخلة فمنها:

1. على ذي المنصب أن يمثل مرؤوسيه أمام رؤسائه وليس العكس.
2. ضع نفسك دائمًا في مكان المستهدف بالخدمة التي تؤديها.
3. ليكن نصيبك من أي استثناء تقدمه لنفع الآخرين هو الدعاء فقط ولا تقبل أي هدية.
4. قابل التحديات بالتحدي الإيجابي وسوف تنتصر.
5. الوجاهة تلاحق من يهرب منها.
6. تغليب البعد الأخروي يحطم المثبطات.
7. لا تدخل في صراعات وتحزبات.
8. اجعل لنفسك مشروعًا ساميًا في الحياة ولا تقنع بما دون النجوم.
9. لا تيأس وإن تكاثرت الخطوب والهموم.
10. تقدير العاملين هو أحد مفاتيح نجاح المسؤول.

ومما عرفته بطريقتي الخاصة عن هذا الرجل الذي أحبه، أنه كان في طفولته وشبابه الأول كثير الحركة والمشاكسات لدرجة لا تتوافق مع هدوئه الحالي، وإن عرامة الصبي لمئنة على نباهته. ومنها أنه شديد الوصل لأسرته وقرابته حتى الذين يلتقون مع أسرته العنزية ولو لم يكونوا من أهل بلدته البكيرية. وله في أسرته حضور بهي فمع مشاغله يحضر في جميع أيام عزاء امرأة لأنها زوجة لأحد أبناء الأسرة وهي ليست من أسرتهم. ومن أسمى ما وقفت عليه أنه كان عضو مجلس إدارة لمؤسسة يعمل فيها أحد أقاربه من الدرجة الأولى، وقد رفض أن يتدخل في خلاف إداري لقريبه مع هذه المؤسسة فاضطر القريب للانتقال منها.

فإذا لقيت يا رعاك الله رجلًا يوصيك بالجدية وتقوى الله وتطييب المطعم، ويخبرك أنه نشأ فقيرًا، وسكن في بيت صغير، وعمل والده بيديه الكريمتين حتى غمرت الأتربة أثوابه وشاركه هو في بعض مهامه المضنية، ثمّ تفاجأت أن صاحبك يجيد العربية ويدافع عنها وعن تأريخه الهجري، وأنه يتكلم لغتين عالميتين مهمتين، ويرتبط برجالات علم ودولة وثراء وفضل، وصار عضوًا في مجلس الوزراء، ومع ذلك كله وجدته هينًا لينًا رقيقًا لا يدلّ عليك بشيء، ولا يتعالى بمواهبه وقدراته، ولا يرى لنفسه فضلًا أو مزية، فاعلم علم اليقين الذي لا يداخله شك، أنك في حضرة وليد حوض نخلة مباركة، هو معالي الدكتور علي بن إبراهيم النملة، الذي استقبلته الدنيا في غرة صفر من عام (1372)، والله يديم ظله الواقف، ويطيل عمره، ويبقي خيره الوارف.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف–الرياض

 ahmalassaf@

السبت 25 من شهرِ رجب الحرام عام 1443

27 من شهر فبراير عام 2022م