إدارة وتربية مواسم ومجتمع

سبع ركائز لعراقة المجتمعات

Print Friendly, PDF & Email

سبع ركائز لعراقة المجتمعات

هل تعرف أمة أو حضارة تعرضت لهجوم شرس متنوع منذ بزغت على أرض الواقع، واستمر هذا العدوان زمنًا طويلًا، دون أن تفقد هذه الأمة أو تلك الحضارة أصولها وأركانها حتى في زمن استضعافها وهوانها على الناس، وصمدت إلى درجة كبيرة مع شدة الكيد، وعظم المكر، وقلة الناصر، وتتابع السهام من مشرق الأرض ومغربها؟

إن أمة الإسلام ومجتمع المسلمين ليصدق عليهما هذا الوصف وإن بنسب متفاوتة بين باب وباب، وبقعة وأخرى، وزمن وغيره. ويمكن ملاحظة ذلك فيما صُبّ على الدين وأهله وبلاده من محن كفيلة بالقضاء عليه ومحوه، أو جعله خبرًا بلا أثر ولا خطر، وهو خلاف واقعه في يومنا المشهود؛ إذ أنجى الله دينه وبلاده وعباده من تحالف اليهود والمشركين والمنافقين، ومن حملات الصليب الدموية، وجيوش المغول الهمجية، وغوائل الاحتلال الأوروبي الحديث، ومن كثير مبير من عقابيل الغزو الفكري والسلوكي وأشواكهما.

وإنه لأمر لافت للنظر أن يظلّ المجتمع المسلم محافظًا على أصوله وأعرافه على مدى ألف وخمسمئة سنة، مع شدة ما تعرض له الدين منذ كان دعوة ناشئة إلى يومنا، ومع البغي الذي عوملت به الأمة في الحرب والسلم، ومع التشويه والاختراق الذي أصاب من مجتمعات المسلمين ومكوناتهم الحضارية والثقافية، حتى نالهم نصيب غير يسير من الأذى ردحًا من الزمن!

فإذا شئنا تحديد أسباب هذه النتيجة الطيبة، وبواعث ذلكم الأثر الباهر، سنجد أن هذا الصمود الحقيقي، والتصدي المثمر، يعود بعد فضل الله وتوفيقه، إلى عدة ركائز قد يشترك غيرنا معنا في بعضها، ومن أهمها:

الحضارة الفريدة:

تتميز الحضارة الإسلامية بأنها واضحة المنشأ، ذات مرجعية ومأرز، ومصادر محمية، وبالتالي فكل حرب تستهدف إزالتها تنتهي بالخسران. ومن وضوح هذه الحضارة أن نقطة بدايتها معروفة جزمًا بمبعث النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، وهي الميزة التي تفتقدها بهذا الضبط جلّ حضارات الدنيا. كما أنها حضارة مرتبطة بوحي سماوي محفوظ، وهي الميزة التي جعلت التحريف والتبديل والتأويل في حكم الفاسد المردود على من يتولى كبرها، وإن سعى وإياهم من سعى.

الأركان الثابتة:

لو سألت أحدًا من أهل الملل والأديان المنسوخة عن أركان دينه فربما لن تجد جوابًا صلبًا متفقًا عليه؛ أما ديننا فله أركان إيمان اعتقادية ستة، وخمسة أركان عملية للإسلام، وهذه الأركان وثيقة الصلة بالعراقة التي أعانت الأمة مجتمعات وأفرادًا على معرفة ربها ورسله وملائكته وكتبه، والإيمان بقدره وقدرته، والرضا بقضائه وحكمه، مع يسر الصلة اليومية المباشرة به سبحانه، وإدامة التقرب منه، وبالتالي فلا تربك الأمة وآحادها أي حيرة، أو يهوي بها وبهم مصاب وإن جلّ؛ إذ تستند قلوب المسلمين وعقولهم إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، ومن أحسن من الله صبغة؟!

الثقافة الشفهية:

حرص كثير من الغزاة البغاة على حرق الكتب، وإلقاء قسم منها في المياه، وربما أن هذا التصرف الأرعن أوهم الفعلة بحتمية انقطاع العلائق مع الأصول، وبتّ الصلات مع العلوم والفنون، لكن صنيعهم البغيض ارتدّ عليهم بالحسرة لأسباب منها كثرة المحفوظ الشفهي لدى الأمة؛ فنحن أمة لها تراث شفهي كبير لا يقوى أحد على انتزاعه من الصدور، وهو تراث يحمله العامي والعالم باختلاف النوع والمقدار، كما أنه تراث ارتبط بعلوم الإسناد، والرواية، والتلقي، والدرس، وهي علوم ومنهجيات برعت بها أمة اقرأ، وتفوقت وأبدعت، وساندت علوم الديانة والتاريخ واللغة والتراث، وحفظت لنا مآثر رؤوس المجتمعات وأفذاذ العصور.

الأسرة درع واقية:

لا تقتصر الوقاية الأسرية، والحصانة الناجمة عنها، على من ينتمي إليها؛ فالعائلة والأسرة شركاء أساسيون في حفظ الكيان والمجتمع والدولة والأمن القومي، ذلك أن متانة الأسرة القريبة والبعيدة، ونشوء أسرة جديدة، مما يزيد من الاستقرار، والإنتاج، ويمثل مع غيره استثمارًا عظيمًا في رأس مال بشري متجدد، ويحول دون موت المجتمع والأمة، وهو الموت الذي بات عقلاء الغرب يحذرون بلادهم ومجتمعاتهم منه، ويرفع الناصحون منهم عقائرهم خشية مما يرونه من بلاء حالٍّ بهم ولا ريب إن لم يعتدلوا. ومن هذا الباب تلك المكانة الشرعية والمجتمعية العظيمة لكبار السن، والمرأة، والأطفال، وهو ما يحسدنا عليه لئام الخلق، وودوا لو نتبعهم في غيايتهم وهم الأدنى والأرذل!

مكارم الأخلاق:

لطالما جذبت مكارم الأخلاق النفوس النقية إلى ذوي المحاسن والمحامد، وهذه الخصال الجميلة قد تبدو في فعل يسير بإعطاء أو عون أو ابتسامة، وربما تتجلّى بمفهوم راسخ من التراحم والتكافل، وهي متجذرة في طباع الأفراد وسلوك المجتمعات المسلمة حتى لو خفتت أصوات وتراجعت دعوات. وكم أبقى المعروف وصنائعه في الأمة من فضائل، وأحيا من خصال، وأقام من مشروعات، وكم شرقت بهذه المكارم السامية جهود إفساد، وأعمال تخريب، وكم فيها من زيادة لعوامل القوة والتكافل في المجتمع وتمتين أواصرها، ومن أجلى صور هذه المكارم المتأصلة، الإحسان من الأثرياء بالإنفاق والأوقاف، وهبّات الأبرار الدائمة في إنشاء أعمال الخير، وإقامة المشروعات المجتمعية الأصيلة والنبيلة.

صدق الانتماء:

امتازت مجتمعات المسلمين بظاهرة انتماء صادق لدوائر عدة في الوقت ذاته بلا تنازع بغيض، أو تعارض نكد، فالإنسان -في الوقت ذاته- ابن لأسرته وقبيلته وإقليمه وبلده، ومنسوب لمهنته ولغته، ومع ذلك فهو مرتبط بأمته ودينه، ولا يجد ما ينغصّ عليه صفو هذا الانتماء إلّا بشغب مفتعل أحيانًا، ذابل دومًا. ومن أنصع صور هذا الانتماء وأقوى الردود على المشاغبين أن يتكرر قول غير المسلم من أبناء المجتمع الإسلامي: إنه ينتمي في ثقافته وحضارته إلى الإسلام ولو كان هو مقيمًا على ديانة أخرى، وهذا ليس قول عوام خلو الأفئدة من الإحن؛ بل قول علماء وأكابر مثل مكرم عبيد، وأسد رستم، ونقولا زيادة، وفارس الخوري، وغيرهم.

الأوبة السريعة:

من خصائص المجتمعات الإسلامية سرعة عودتها إلى منابعها الأصيلة، وجذورها الأساسية، ولذلك فلو ألقى “لينين” و “ستالين” نظرة واحدة على الدنيا لتعجبوا من وجود الإسلام والمسلمين في أرض حكموها بالعنف، والتغيير الجبري، والتجريم الباغي، ومثلهم سيفعل ظاهر شاه، وأتاتورك، والشاه، وصفُّ غير قصير ممن أنفقوا الأموال والأوقات والجهود، فلم يفلحوا، وكانت عليهم حسرة، ولو أنهم صرفوا تلك الأعمال في شأن دنيوي نافع واحد لرحلوا تاركين خلفهم مآثر ومنجزات أجدى لهم من أن يقال فيهم وفي تاريخهم: لا أرضًا قطعوا ولا ظهرًا أبقوا!

لقد صنعت هذه الركائز للمسلمين ومجتمعاتهم هوية متماسكة، بارزة، تتصف بالوضوح، والصلابة، والاتساق، ولأجل هذا انتصرت بالثبات والخلود ومواجهة أحوال أودت بغيرها، وأحالت أهلها إلى ما يشبه المهمل المنسي. وقد كانت ركائزنا سببًا في أيّ نهضة أو محاولة نهوض وخلاص، ولا جرم فالهوية لا تحفظ الديار والأمم من الضعف والذبول والذوبان فقط؛ بل هي سبب حافز على التقدم والمنافسة؛ ذلك أن ثمار الهوية فيها تعاقب، وبقاء، وثبات، وإبداع، ودفاع، ومقاومة، وتقدم، ولأجل هذا يكثر الحديث عن الهوية، والثوابت، والتقاليد، والعراقة، في كلمات المسؤولين في المملكة العربية السعودية -والحمدلله-، مع إيمانهم بأنها عامل قوة وتفرد، ولا تعيق أيّ تنمية أو تقدّم، والله يكتب لهم التوفيق مع السداد.

وإن أكثر عملية محكوم عليها بالحبوط والتباب مسبقًا، هي محاولة طمس الهوية الراسخة، وقلع الجذور العميقة، وإفساد المنبت الطيب، وإزاحة الشوامخ البواسق الراسيات. ولو نجحت السوابق التاريخية في الطمس لما بقي في العالم إلّا عدد محدود من الأفكار والهويات والعادات والأديان، ولو أفلحت بعض الجهود الاستئصالية لاندثرت أعمال سخيفة أو غير مفسرة نشاهدها أو نسمع عنها، ويتشبث بها أهلها مع غرابتها وحراجتها أحيانًا، فغيرها بهذا المصير أولى؛ ولذلك أقول واثقًا بربي مؤمنًا بدينه، ثمّ ناظرًا للتاريخ والشواهد: ستبقى هوية المسلمين، وسوف تعلو ولو كرهها أيّ مفتون زائغ؛ لأنها ربانية موافقة للفطرة والعقل، وتجيب عن أيّ سؤال وإشكال، فتقنع العقول المضطربة، وترتاح النفوس المنهكة، وتسكن الأرواح المتعبة، والله متم نوره ولو كره الإنس والجن، ونوره الله لا ينطفئ البتة وإن أطبق على معاداته المردة من الثقلين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 23 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445

07 من شهر ديسمبر عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)