سير وأعلام عرض كتاب

الحجيلان ومستشار الرئاسة الفرنسية!

Print Friendly, PDF & Email

  الحجيلان ومستشار الرئاسة الفرنسية!

سيجد القارئ أن المشاعر البشرية تطوف أمامه جليّة، وتعبر به بارزة على اختلافها وهو يقرأ سيرة الشيخ جميل الحجيلان، فيضحك ويبكي ويفرح ويحزن ويطرب، لكنه في هذا الموضع بالذات سوف يشعر بزمجرة الحجيلان، ويشاهد غضبته، ويستمع إلى نبرة صوته الجادة الحازمة. والقصة باختصار أن السفير إبان عمله في باريس قد دأب على الاستماع لبرنامج إذاعي اسمه “نادي الصحافة”، تقدمه إذاعة أوروبا الأولى في السادسة من مساء كل يوم أحد، أي في يوم إجازة أسبوعية، ومع ذلك لم يفوته السفير؛ لأن البرنامج يستضيف أحد ساسة فرنسا الكبار، ليحاوره عدة صحفيين، مما يعطي تصورًا عما يدور في أروقة القرار الفرنسي، وهذا من حنكة السفير واجتهاده.

وفي يوم الأحد 17 من شهر يناير عام 1982م كان “جاك آتالي” المستشار الخاص للرئيس “ميتران” هو ضيف البرنامج، وهو يهودي جزائري المولد، ومن أكبر مثقفي فرنسا، وأقدرهم على التحليل السياسي والاقتصادي، مما جعل الرئيس المخضرم يتخذه مستشارًا مقربًا مع أنه الثلاثين من عمره. ومما قاله المستشار خلال الحوار جوابًا على سؤال عن حاجة فرنسا للنفط: “يجب أن نعي وعيًا كاملًا بأننا نعتمد اعتمادًا مذهلًا على بعض البلاد. وأنا لا أريد أن أثير أزمة دبلوماسية. وعليه فلن أذكر بلدًا باسمه، ولكن هل من المعقول مستقبلًا أن تعمد بلاد تُقطع فيها يد السارق على حرماننا من كل ما نستورده منها من نفط؟ هل طرح أحد هذا السؤال على نفسه!؟”.

صك هذا الكلام الغليظ المحتقن مسامع السفير؛ ومع ذلك لم يقتنع السفير بسماعه وحده؛ فاتصل باثنين من الصحفيين المشاركين بالحوار، وأحدهما من طاقم الإذاعة نفسها، والأخرى من صحيفة “نوفيل أوبسرفاتور”، وسألهما عن العبارة الواردة الكريهة، فأكدا له ورودها على لسان “جاك”! ونلحظ هنا أن السفير استثمر علاقاته المتينة بالوسط الإعلامي الفرنسي، ويبدو أن الكلمة صارخة فلم يغفل عن التقاطها الصحفيان بحسهما، ولكن لم يقع في حسبانهما أن هناك أذنًا سعودية حريصة مخلصة تستمع وتغلي من الغيظ. ولم يكتف السفير بتأكيدات المشاركين الاثنين؛ بل طلب الحصول على شريط لتسجيل اللقاء الإذاعي، واستمع له في هدأة المساء ذاته كلمة كلمة، وكأني به يفرك يديه مقسمًا ألّا يدعها تمر!

إذ رأى السفير ورجل الدولة البصير أن تصريح السياسي والمستشار كلام أخرق، ويدل على تعمد الإساءة؛ فلو وصف البلد بحجاب النساء أو تعدد الزوجات أو مسائل الميراث؛ لتوسع الاحتمال إلى أكثر من بلد، ولكنه اكتفى بتخصيص قطع اليد، وهو صنيع لا ينصرف لغير السعودية التي تطبق أحكام الحدود الشرعية، وما أكثر ما يحنق القوم من الشريعة وتطبيقاتها، وما أجدرهم بمن يلجمهم، ويجعلهم يقفون قبل خطوط حدود الأدب واللباقة.

كما قدّر السفير بينه وبين نفسه أن المستشار لو كان في مجلسه الخاص فليقل ما شاء حسبما يعتقد؛ لأنه إسرائيلي الهوى والعقيدة، أما حين يطلع على الملأ من منبر تسمعه الملايين، فكان الواجب الحتمي عليه أن يلتزم بالأدب والعرف الدبلوماسي نحو بلد مهم لحكومته، وعليه فما وقع به يصنف بأنه أمر جلل بحكم علو المنصب، وصفة العلانية، وفجاجة القول، ولم يقتنع السفير وهو يراجع نفسه بكونها زلة لسان عن حسن نية، أو سقطة عابرة، وجزم – وهو الكاتب المتحدث- بأنها كلمة اغترفها اللسان من القلب والعقل؛ وألا مناص من حساب القائل ومتابعة المسؤول!

فلم يذهب السفير الذكي لمدير الدائرة العربية في وزارة الخارجية الفرنسية حتى لا يهبط بمستوى الاعتراض والامتعاض، وإنما صعد بالقضية إلى الأمين العام لرئاسة الجمهورية الفرنسية، واجتمع به مخبرًا ومعترضًا، ثمّ زاد لتوكيد ما أوصله مشافهة بأن بعث له رسالة رسمية قوية النص، ناصعة الحجة، عظيمة الاعتراض، وفي الرسالة إبداء الشعور الرسمي بالدهشة والمرارة مما فاه به المستشار، خاصة مع عمق العلاقات بين الرياض وباريس، ومتانتها.

وبعد يوم واحد فقط، اتصل أمين الرئاسة بسفيرنا الغاضب، وطمأنه بأن الأمر رفع للمراجع العليا في بلده، ووعده أن يخبره بالتطورات، وهذا يعني أن الرئيس “ميتران” قد أحيط علمًا بما وقع به مستشاره، وفي تصرف الأمين العاجل يظهر لنا كبير التقدير للسفير والمملكة، والشعور بالحرج والجدية. وعقب أيام عاود الأمين التواصل مع السفير كي يدعوه لمقابلة الرئيس الفرنسي بناء على رغبة الأخير، وإن أوقات الرؤساء -فضلًا عن رؤساء دول الفيتو- لشحيحة بيد أن السفير استثمر الحدث، وارتقى بمكانة بلاده لموضع تستحقه.

فذهب الحجيلان لموعد الزيارة، وفي غرفة الانتظار أتى إليه “آتالي” معتذرًا ومتعللًا بأنه لم يقصد الإساءة للسعودية، وسأل بلسان المستكين عما يمكن أن يفعله؟ فقال له السفير الذي لم ينخدع باستكانة “جاك”: يجب عليك أن تعتذر لبلادي على الملأ كما أخطأت على الملأ! ولم يرق هذا الرأي للمستشار؛ لكن الحوار انقطع بينهما بدخول السفير على الرئيس في لقاء خاص بهما فقط، وفيه عبّر زعيم فرنسا الاشتراكي عن اعتزازه بالمملكة والعلاقات معها، وأفاد بأنه سيبعث وزير دفاعه برسالة خاصة للملك خالد. وفي ختام اللقاء استدعى الرئيس مستشاره وقال له: إن السفير على حقٍّ فيما ذهب إليه، ولو كنت مكانه لفعلت الشيء نفسه، وخطأ “ميتران” مستشاره بعبارات خفيفة.

ثمّ خرج السفير من عند الرئيس، ووجد أمامه وسائل الإعلام الفرنسية التي تسامعت بالخبر، وحضرت مستفهمة، وقد أدلى لهم السفير بتصريح شكر فيه الرئيس الفرنسي، وأثنى على علاقات البلدين الراسخة، وإن انتقد السفير الكلمة الخاطئة الصادرة من المستشار، ولربما أن السفير يعطي في تصريحاته الهادئة المتزنة المحسوبة كلمتها درسًا في فن التعامل مع الصحافة والإعلام؛ ولعل “أتالي” قد أفاد منه.

وبناء على ذلك كتب الحجيلان للأمير سعود الفيصل وزير الخارجية حتى يطلعه على التفاصيل، مع إرسال صور للمكاتبات المتبادلة مع أمانة الرئاسة الفرنسية، وشرح السفير الأسباب الوجيهة التي منعته من أن يستأذن حكومته في الرياض عن كيفية التعاطي مع التصريح القبيح، وخلاصتها أنه أراد التصرف بما هو أهل له من المسؤولية، وتجنبًا لأي محاولة لتجاوز هذا الغلط الفاحش. ولم تمض أيام حتى سافر وزير الدفاع الفرنسي يحمل رسالة لطيفة من ميتران للملك خالد، وهي رسالة فيها مختصر للقصة، واعتذار رئاسي واضح.

وكان تفاعل وسائل الإعلام الفرنسية مع الحادثة لافتًا؛ فربما أعجبتهم يقظة السفير وحركة السفارة العاجلة بلا تباطؤ أو تردد، وربما اندهشوا من القوة التي واجه بها السفير مستشار الرئاسة حتى لقنه درسًا يردعه ويردع غيره بلا تنازل عن الحق الصراح للمملكة في مقابل سوء التصريح، وربما أنهم لم يصادفوا مثل هذا العمل من سفارة عربية أخرى، هذا غير ما تهفو إليه وسائل الإعلام من الحرص على تتبع أي مثير؛ فكيف به وهو يتعلق ببلد مثل السعودية، وبمسؤول محسوب على الرئيس وحزبه؟!

الشيء المهم أن هذا الموقف العظيم فيه دروس وطنية، ودبلوماسية، وإدارية، وإعلامية، وتفاوضية حجاجية، ومن المهم أن يكون لدى ممثلي البلاد من الرصد، والتحليل، ما يمنع الآخرين من الجرأة والتجني؛ فلسنا جدارًا قصيرًا يتسوره من يشاء دونما ملاحقة وحساب، وإن مقتضى الاعتزاز وحسن التمثيل ليستوجب فتح العيون والآذان والأذهان، بلا حساسية مفرطة، وبلا حسن ظن زائد عن الحاجة!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 17 من شهرِ ربيع الأول عام 1445

02 من شهر أكتوبر عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)