سياسة واقتصاد عرض كتاب

مئوية أم القرى

Print Friendly, PDF & Email

مئوية أم القرى

تُعدّ صحيفة أم القرى مستودعًا ضخمًا للنمو والتدرج التنظيمي في المملكة خلال مئة عام، كما أنها تعبّر عن تطور الحكم والإدارة والعمل الصحفي في بلادنا، ومن خلالها يمكن إجراء أكثر من دراسة متينة مفيدة. لذلك عقدت دارة الملك عبدالعزيز بالتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام لقاء علميًا عن الصحيفة بمناسبة مرور ثمانين عامًا على إنشائها، وامتد ليومين (11-13 من شهر ذي القعدة 1426= 13-15 من شهر ديسمبر 2005م)، وتصاحب معه إصدار كتاب على هامش اللقاء عنوانه: صحيفة أم القرى: نبذة تاريخية موجزة، يقع في (98) صفحة، ويتكون من تقديم، فثلاثة عناوين فرعية تحت العنوان الرئيسي الوحيد.

أما المؤلف فهو الكاتب الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي، الذي أثرى ذاكرتنا المحلية؛ فجمع لنا أكثر من ذاكرة: تعليمية، وأخرى صحفية، وثالثة شعبية، ورابعة عن سير الرجال، وجميعها عبر منتجات كتابية. والذاكرة الخامسة حفظ بها آلاف الساعات من الذكريات الشفهية لكثير من أهل البلد إبان عمله في مكتبة الملك فهد الوطنية، والسادسة بلدانية أشرف عليها وصدرت بقلم غيره حينما كان يعمل في رئاسة الشباب عبر أكثر من سبعين كتابًا. وفوق ذلك هو كريم بوقته، ومعلوماته، وعلاقاته، وكتبه، ويستحق منّا -أفرادًا ومؤسسات ثقافية- أكثر من احتفاء، وتقدير، وكثيرًا كثيرًا من الدعاء والحب.

بدأت صحيفة أم القرى بالصدور يوم الجمعة (15 من شهر جمادى الأولى 1343= 12 من شهر ديسمبر عام 1924م)، عقب دخول الملك عبدالعزيز إلى مكة. وهي أول صحيفة تصدر في العهد السعودي، ومع أسبقيتها فهي الصحيفة الوحيدة المستمرة في الصدور من ذلكم الوقت حتى الآن. وكانت تصدر كل أسبوع، وظلت على دوريتها أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم تضطر للتوقف إلّا لثمانية أسابيع فقط. وتتمتع الصحيفة حاليًا بموقع إلكتروني، وجهد مؤرشف بواسطة الدارة، وآمل أن يتواصل التطوير لهذا العمل، ويسهّل الوصول إليه عن بُعد للباحثين.

وإبان أزمة الورق المتصاحبة مع الحرب العالمية الثانية (1939-1945م)، أمر الملك عبدالعزيز وزيره الشيخ عبدالله السليمان بسرعة إحضار الورق، وبعد جهد وصلت كمية من الورق عبر دول الجوار، وصدرت أم القرى على ورق أبيض صقيل، بحجم صغير، وفي صفحتين فقط توفيرًا للأوراق التي أدى نقصانها إلى انقطاع صحف عديدة محلية وعربية وربما عالمية. ويستبين مقدار أهمية الصحيفة من الحرص العالي على استيراد الورق، وضمان استمرار صدورها ولو بصفحات محدودة.

وظهر أول عددين منها دون اسم مسؤول عن التحرير، وأشير في العدد الثالث إلى اسم يوسف ياسين مسؤولًا عنها، ووضع اسمه على رأس العدد، وبقي اسمه إلى العدد رقم (88)، وبعده صارت تظهر بلا اسم للمسؤول عنها، علمًا أنها تصدر كل جمعة، وفي أحوال نادرة مسببة تصدر في غير الجمعة. وممن تولى رئاسة تحريرها عقب ياسين: رشدي ملحس، ومحمد سعيد عبدالمقصود، وفؤاد شاكر، وعبدالقدوس الأنصاري. وفيما بعد أسند تحريرها إلى آخرين مثل أحمد ملائكة، وهاشم الزواوي، ومحمد شعبان، والطيب الساسي، ومحمد الشيباني، ويتفرد الشيخ يوسف ياسين بأنه الوحيد الذي كُتب اسمه عليها باعتباره المسؤول عنها.

ثمّ ألحق تحرير الصحيفة في مستهل الستينيات الهجرية -تقريبًا- بديوان نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل- الملك لاحقًا-. وعندما نشأت المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر برئاسة الأستاذ عبدالله بالخير تولت الإشراف على أم القرى، وآلت إلى وزارة الثقافة والإعلام، وهي التي أصبحت أخيرًا وزارة للإعلام فقط بعد فصل الثقافة في وزارة أخرى. وقد أستعير اسم الصحيفة من الآية السابعة في سورة الشورى التي تكتب على رأس كل عدد، وهي قوله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا”.

كما كانت الأعداد الأولى منها بلا صور أو عناوين مثيرة، مع اختلاف في الصفحات بين عدد وآخر، وغالبًا تقتصر الصفحة الأولى على الافتتاحية التي تمثّل سياسة الحكومة، والبلاغات في شؤون محلية ودولية. وتأثرت الصحيفة بالميول الثقافية لرئيسها، ففي أيام ياسين طغت السياسة عليها، بينما تفوق التاريخ في عهد ملحس، وازدادت مساحة الأدب تحت رئاسة عبدالمقصود، واعتنى شاكر بالمحاضرات، وكانت اللغة هي الموضوع الأبرز عند الأنصاري.

وفي بعض الأزمنة صارت الصحيفة ميدانًا لمعارك أدبية ساخنة كما لو أنها غير رسمية، وهو الأمر الذي اختفى تمامًا الآن، واكتفت بصبغتها الرسمية الخالصة. وفي بعض الأعداد وجدت إعلانات تجارية لمنتجات محلية أو مستوردة، ويبدو أنها كانت مصدر دخل للصحيفة يخفف من أعبائها المالية، وأول إعلان تجاري نشر في العدد رقم (245) الصادر يوم الجمعة (25 من شهر ربيع الأول عام 1348= 30 من شهر أغسطس سنة 1929م).

كذلك وردت فيها أخبار ذات أهمية ودلالة، مثل الدوام الليلي في رمضان سنة (1347) مع أنه يوافق شهر فبراير عام (1929م) وهو من أشهر البرد. ومنها تخصيص أعداد لمناسبات وطنية عسكرية ومدنية وتنظيمية، وفي بعضها صدرت بالحبر الأخضر. ومنها تبرع أهل الجزائر بمكينة لتوليد الكهرباء لصالح المسجد النبوي كما في العدد رقم (277) الصادر يوم الجمعة (28 من شهر شوال عام 1348= 28 من شهر مارس سنة 1930م)، وتبرع الشيخ عبدالرحمن القصيبي بمقادير كبيرة من الحصير الهندي الناعم لفرش المسجد النبوي ومسجد قباء.

ونقرأ في العدد رقم (279) الصادر يوم الجمعة ( 13 من شهر ذي القعدة سنة 1348= 11من شهر أبريل عام 1930م) أن المحسن الشيخ عبدالرحمن القصيبي اعتزم تأسيس مكتبة عامة وقفية في مكة. وورد في بعض الأعداد نعي علماء وأدباء مثل ابن سحمان، وابن عتيق، والراوية الأديب المرافق للملك عبدالعزيز في سفراته عبدالله بن أحمد العجيري، وفي لياليه التي يحدّث فيها المجلس الملكي إمتاع ومؤانسة وفوائد، وتذكير بمجالس العلماء والأدباء بحضرة الخلفاء والأمراء.

أيضًا نُشر ضمن صفحة الحوادث المحلية في العدد رقم (297) الصادر يوم الجمعة ( 21 من شهر ربيع الأول سنة 1349= 15من شهر أغسطس عام 1930م) خبر يفيد بنية “فلبي” اعتناق الإسلام، مع إيراد نصّ كتابه للملك عبدالعزيز، ورواية خبر عمرته وتعليمه شرائع الدين. وفي آخر صفحة من العدد رقم (299) الصادر يوم الجمعة ( 05 من شهر ربيع الآخر سنة 1349= 29 من شهر أغسطس عام 1930م) كُتب مقترح عن مشروع الزواج الإجباري الذي أحالته الحكومة لمجلس الشورى لدراسته، وفي العدد الذي يليه مباشرة سطّر الشيخ محمد سرور الصبان مقالة تأييد لهذا المشروع.

وعرّج المؤلف على ظاهرة الأسماء المستعارة في صحيفة أم القرى، وهي أسلوب متعارف عليه وليوسف أسعد داغر كتاب لطيف عن الأسماء القلمية العربية. ومن الأسماء “الغربال” لمحمد عبدالمقصود، و”ابن الصالح” لرشدي ملحس، و”أبو صفوان” لهاشم زواوي، و “عربي مسلم”، و “كاتب خبير” ولم ينسبا لأحد. وأما إبراهيم الشورى فوقع باسم “إ.ش”، وحسين سرحان نشر تحت اسم “الفتى النجدي”. ومما أغفلت نسبته “وطني”، و”صاحبكم” الذي ربما يكون للسباعي، و “قارئ” العائد جزمًا ليوسف ياسين.

ومن الطبيعي ألّا تخلو هذه الصحيفة المرجعية من أخبار محلية مهمة للغاية، مثل تعديل اسم الدولة، وتحديد اليوم الوطني، وتكليف مجلس الوكلاء بإصدار أنظمة للحكم والتوارث وتكوينات الحكومة. ومن الأخبار في هذا السياق مبايعة الأمير سعود -الملك لاحقًا- بولاية العهد حسبما نقل العدد رقم (440) الصادر يوم الجمعة (24 من شهر محرم عام 1352= 19 من شهر مايو سنة 1933م). ويضاف لذلك جريمة الاعتداء على الملك عبدالعزيز في المطاف خلال حج عام (1353= 1935م)، وقبل ذلك بأعداد إطلاق لقب “شاعر الملك” على الأستاذ الشاعر أحمد الغزاوي، والحكمة الباهرة التي طالعنا بها العدد رقم (529) الصادر في 19 من شهر شوال عام (1353) حاملًا البشرى بعفو ملكي شامل وعام لجميع المبعدين السياسيين، وهو الأمر الذي أشاع الفرح في قلوب وبيوت.

أكاد أن أقسم في الختام أنه سيكون من العمل الإعلامي، والثقافي، والتاريخي، الموفق مع صواب كامل مشكور، لو نهضت وزارة الإعلام، ووزارة الثقافة، ودارة الملك عبدالعزيز، معًا أو تظفر بفضل السبق لها واحدة منهن، فجمعت التراث الضخم لأديبنا ومؤرخنا الكاتب الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي، وأصدرته ورقيًا وإلكترونيًا تحت اسم يشبه “موسوعة القشعمي لتاريخ الصحافة السعودية”، ويالها من خطة تحوي الرشد والحكمة، مع العلم والوفاء، فمن ذا يسابق إلى المكارم المتحققة في عمل واحد؟!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الأحد 13 من شهرِ رمضان عام 1442

 25 من شهر أبريل عام 2021م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)