قراءة وكتابة

متى يؤلف الكاتب؟

Print Friendly, PDF & Email

متى يؤلف الكاتب؟

نحن في عصر الكتابة، ومع ذلك فإذا أصبح فعل الكتابة أسهل من فعل القراءة فإن الضرر على الثقافة والوعي سيكون عظيمًا، وإذا لم يتبع فعلَ الكتابة المضنية لأهلها فعلُ قراءة فاحصة من الآخرين، فالنتيجة ستؤول إلى ضعف المنتج الكتابي على الأمد المنظور. والتلازم بين القراءة والكتابة قضية لا يطول الجدال فيها، فهما مثل الصلاة والزكاة في القرآن، ومثل النهار والليل في أيامنا، فالقراءة ركن أساسي للكتابة، والكتابة أثر متوقع للقراءة؛ بيد أنه يمكن أن يكون القارئ غير كاتب.

قلت ما سبق ضمن ندوة بعنوان: كتابك الأول، أقامتها مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالتعاون مع نادي الكتاب الطائر احتفاء باليوم العالمي للكتاب الذي يوافق يوم الرابع والعشرين من شهر أبريل. وأضفت بأنّ كل مؤلف كاتب، وليس كلّ كاتب مؤلفًا، مع أن بعض المؤلفين قد يصعب عليهم كتابة مقالة أو نص أدبي بسبب ما اعتادوه من أساليب كتابية، خاصة تلك المرتبطة بأعمال تعليمية في الجامعات وغيرها.

وليس بالضرورة أن يؤلف جميع الكتّاب كتبًا، وإن كان المنطق والتجارب تقتضي سهولة هذا الأمر عليهم، ولو بجمع إنتاجهم السابق في وحدة موضوعية بعد تعديل ما تستلزمه دواعي الضم إلى كتاب واحد في أضيق نطاق ممكن. وإذا لم يتيسر ذلك فلا غضاضة عليهم؛ فهناك أسماء بارزة في كلّ الحضارات وليس لها كتاب واحد مثل “سقراط”، و “كونفوشيوس”، وغيرهما، ومع خلو سيرهم من الكتب فلهم أقوال ومواقف متداولة أكثر من المؤلفات التي طمست تحت ركام السنين. ولو تتبعنا الأقوال الحكيمة والمكثفة التي لا تنسى، لرأينا أن قسمًا من قائليها ليس لهم كتب معروفة أو متيقن من نسبتها لهم، في حين أن بعض غزيري التأليف صاروا نسيًا منسيًا.

أيضًا ثمت كتب خلدت أصحابها، فكتاب واحد دائم الحياة وذو تأثير متواصل خير من ألف كتاب خامل أو تائه في بحر النسيان، وأستحضر من هذه الكتب -وبعضها ليس لمؤلفها سواه- موطأ مالك، ورسالة الشافعي، وكتاب سيبويه، وصحيح البخاري، ودلائل الجرجاني، وإحياء الغزالي، وقانون ابن سينا، وكليلة ابن المقفع، وإمتاع أبي حيان، ومقدمة ابن خلدون، وجمهورية أفلاطون وغيرها. وهي مثل يتيمة دوقلة، ومرثية مالك، ورائية الأحيمر، وعينية ابن زريق، في الشعر، والقاسم المشترك هو نفي الإكثار، وبقاء التداول، واستمرار الاستشهاد بها والتأثر منها.

كما يوجد في عالم التأليف كتب غير مسبوقة فيما بلغه علم الناس، وتبرز في مكتبتنا العربية مؤلفات الخليل بن أحمد، وأحمد بن فارس، وابن خلدون وغيرهم في هذا الميدان. ولا يمكن أن نغفل عن علوم ابتدعتها أمتنا دون سابق مثال في الإسناد والأنساب والإعراب، وفي أصول الفقه والمصطلح والمعاجم. وهذه الخصيصة غدت مفقودة لدينا في الأزمنة المتأخرة، وهي جزء من الخلل الذي أصاب الحركة العلمية والثقافية في المجتمع العربي والإسلامي.

وبعض الكتب اشتهرت نظرياتها وأفكارها دون أن يطلّع كثير من الناس على مضمونها، مثل ثروة الأمم “لآدم سميث”، ورأس المال “لكارل ماركس”، وآراء “سيجموند فرويد” التي أضحت أشهر من كتبه، ونسبية “إلبرت إينشتاين” التي غطّت على كثير من جوانبه الثقافية الأخرى. ويشبه هذا كثيرًا أبيات الشعر الذائعة لشعراء المعلقات دون أن تحفظ المعلقة كاملة، أو حكم أبي العلاء المعري، وربما أن البعض لا يعرف حتى عنوان ديوانيه، وهذا الأمر ليس عيبًا بحدّ ذاته، وإنما سيق لبيان أهمية ما يكون له قابلية الخلود والذيوع.

أما لباب الحديث في الندوة فهو الإشارة إلى بعض المقترحات التي تعين الكاتب قبل أن يدفع كتابه الأول إلى المطبعة؛ لأنه حين يفعل فسيكون كتابه مثل الكلمة بعد نطقها، إذ لا مجال لسحبها إلّا بشق الأنفس وما هم ببالغيه، فمن هذه المقترحات:

  1. الحرص على التأني في الكتابة والتأليف، فالعجلة هنا غير محمودة، ولذا تفوقت الحوليات في الشعر على غيرها.
  2. الاشتغال زمنًا بمراجعة الكتب وعرضها ونقدها؛ حتى يقوي الكاتب نفسه في هذه الصناعة.
  3. تنقيح العمل بعد الفراغ منه والانقطاع عنه زمنًا، فكثرة المسودات ليست مذمومة، وسر الكتابة يكمن في إعادة الكتابة. ومما يشاع عن رواية الشيخ والبحر للأمريكي “آرنست همنجواي” أن الناشر سحبها من بين يديه بعد أن زادت نسخها التجريبية عن العشرين، وبعد نشرها فازت بجائزة نوبل، وكتاب المتنبي لمحمود شاكر فاز بجائزة الملك فيصل وهو النسخة الثالثة من الكتاب الذي ذهبت نسختيه المبكرتين إلى سلة المهملات، وليس لهما أثر.
  4. مراجعة الكتاب من قبل آخرين في محيط الكاتب بشرطي الأهلية والصراحة، وهكذا فعل محمود رؤوف أبو سعدة، مع رفقة “جنيف” حتى صدر كتابه الفريد في التفسير واللغة عن الأعجاز في أعجمي القرآن.
  5. أن يكون في الكتاب سمة تميز أو تفرد، بمعنى ألّا يكون نسخة مكررة من الموجود قدر المستطاع.
  6. منح موضوع الكتاب أعلى قدر من الاهتمام؛ فعندما يساكن الموضوع صاحبه، فستقود هذه المساكنة الحميدة إلى العبقرية كما في مؤلفات البروفيسور تمام حسان، أو إلى العمق مثل ما نلاحظه في مؤلفات مالك بن نبي، أو إلى الاعتزاز بالإرث اللغوي والثقافي مع ابتكار المنهج في القراءة والتذوق مثلما نجده في مؤلفات محمود شاكر.
  7. البحث عن ناشر مناسب، وبعض المؤسسات الثقافية تساعد في طباعة الكتاب الأول للمؤلف، وهذا المنحى جدير بأن يزيد في حركة التأليف، ويمنح الكاتب اسمًا وخبرة كي لا يكون لقمة يمضغها بعض الناشرين الشرهين!
  8. الحذر من كتب الموضة؛ فليس حسنًا ركوب الموجات إلّا إن كان لدى المرء استعداد سابق، واحتشاد كثيف، فهي لحظة زمنية لا يناسب التفريط في سياقها وفرصه.
  9. الاتكاء على المحظورات مثل نشر الإلحاد، أو زعزعة النظام العام، أو بثّ الإباحية، سقوط سريع للكاتب، هذا غير المساءلة الأخروية.
  10. لا تجفل من النقد، ولا تحفل به كثيرًا، والتوسط مطلب، فخذ منه بأحسنه.
  11. الاستفادة من عملية التحرير ليست نقصًا ولا عيبًا، وهي تتجاوز التدقيق اللغوي.
  12. من الضرورة تمتين العلاقة بأمهات الكتب في العلم، وتقوية الارتباط بأركان الثقافة الخاصة بك.
  13. إذا صنعت جميع ما سبق دون أن تجد في نفسك الرضا عن عملك، فلا تستعجل القرار، وتذكر بأن أبا حيان التوحيدي، و”كافكا” التشيكي، أوصوا بدفن كتبهم أو إحراقها، وهي الآن منارات أدبية وفكرية.
  14. الأمانة العملية لا تأتي إلّا بخير، وبركة العلم نسبته لأهله، والسرقة جرم قبيح.
  15. ليس بإمكان أيّ كاتب أو مؤلف أن يكون محليًا فقط؛ فأنت صوت بلادك في العالم، وإحسان التمثيل فرض واجب، ولن يلفت أنظار الآخرين إلى أعمالك شيء أكثر من طابعها المحلي.
  16. ضع نصب عينيك دومًا أن يكون التأليف بهدف الارتقاء بالوعي والذائقة، وتذويب الرواسب المتكدسة، وإثارة أسئلة نافعة، وبعث المشترك من مرقده، أو محاولة فهم المختلف، واصبر وصابر خاصة في زمن غدت فيه السطحية والتفاهة قيمة عليا منشودة.
  17. إن كانت الشهرة والأهداف المادية والتزلف هي الغاية من الكتابة والتأليف؛ فغالبًا ستضيع الكتابة في دهاليز مظلمة، وينكسف وجه العلم، ويختفي نور الوعي.

ومن المهم للكاتب الارتباط بشغف الكتابة والإحساس بسطوتها عليه، مع تجويدها من خلال التقنيات والأدوات والطرق والقراءة النوعية، ومن تمكّن بعد ذلك فسيجد أبواب التأليف أمامه متاحة مشرعة، كي يدخلها بحقها من العلم والأدب والقدرة والوعي، فليست الغاية أن يكون لك أيّ كتاب على رف، أو أن يسجل اسمك في فهارس المكتبات؛ لأن هذه النظرة القاصرة تلحق السوء بتاريخ الكاتب وبثقافة مجتمعه وحضارة بلاده وأمته؛ فالكتابة التأليف ليسا هدفًا نهائيًا، ويحسن هنا أن نستذكر قول “شيشرون”: إنها أوقات عصيبة! صار الكل يؤلف كتبًا!. وإن الأنيس الباقي وخير جليس في المكان والزمان ليس مجالًا للعبث، وإنه لرفيق حبيب جدير بأن يصان من أهله، ويغار عليه عشاقه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 13 من شهرِ رمضان عام 1442

25 من شهر أبريل عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)